التبّاع ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رانيا مغاوري 

لم يعد أحد يتذكر كيف كان هذا المكان منذ أسبوعٍ واحد.لو كانوا يتذكرون لتوقفوا عن السير..لنظروا حولهم وتساءلوا وتَبَيَنوا ..لما مروا عليه مرور الكرام.. لكن الناس لايرون ولايتذكرون..لا ينظرون حولهم ولاينظرون لأنفسهم..هم فقط يدورون في دوامة أيام متشابهة لاتنتهي. بالكاد يحملون رؤوسهم المُتَضَخِمَة فوق أجسادهم المُثقلة..تسوقهم أقدامهم إلى دروب خبروها منذ سنين لتوصلهم إلى وجهاتهم العادية. ما أسهل أن يسيروا بلا وعي! ما أسهل أن يأخذوا الأمور على علاتها ويفترضوا أن كل شيء كما كان وسيظل كذلك! وما الداعي لمتابعة الطريق؟ الطريق محفور في ذاكرتهم، مطبوع على أحداقهم.. تحفظه أقدامهم وتسبقهم إليه. وفي غفلة من الناس يحدث كل شيء؛ تبرز مباني وتختفي أخرى.. تتغير الاتجاهات واللافتات.. تتبدل المحلات والمنتجات. لكن الناس لا يلتفتون، فالوجوه تتكرر والسيارات تروح وتجيء في طريق كل يوم.. والهياكل الرمادية الباهتة صامدة كما هي، وجودها كغيابها. تزيدها الأيام قتامة ولايهتم بها البشر العابرون طالما أنهم لايسكنوها. ولذلك ترى البني آدم يسير في الطريق ولايتوقف إلا إذا عرقله حجر وسقط، أو سقطت أشياءه..إذا سُرق.. أو إذا دهسته سيارة.

وبالرغم من النسيان والتيه، قد يتذكر البعض أنه في وقت من الأوقات صار لزاماً عليهم أن يتوقفوا عن شراء الخضروات والفاكهة من ذلك السوق القريب الرحب الذين يمرون به في طريق عودتهم إلى ديارهم كل يوم. لم يسألوا لماذا..لم يصدر عنهم اعتراض. كل ما فعلوه هو أن راحوا يبحثون عن سوق آخر ولما لم يجدوا، اتجهوا للمتاجر المتناثرة ينفقون فيها ماتيسر لهم من نقود.

سبعة أيام هي كل ما استغرقته أرض فضاء شاسعة تضم سوق الخضار والفاكهة لتتحول إلى عاصمة للميني باصات. اختفى السوق..لم تعد ترى البائعات يفترشن الأرض ببضاعتهن الطازجة. اختفت نداءاتهن الشجاعة المرحة ..اختفى صوت المكاييل والموازين..اختفت التلال الخضراء وأهرامات الفاكهة المصفوفة بعناية. اختفت الألوان الزاهية والروائح الطازجة. احتل الأرض موقف متكامل الأركان بكل ما يحوي من عتاد السيارات والناس. سيارات الميني باص الشرسة التي لاتخشى شيئاً ويخشاها الجميع. سيارات محشوة بالبشر.. بشر في كل مكان.. يطلون من النوافذ والأبواب.. يحتلون الكراسي والممرات والسلالم. وعلى أرض الموقف بشر من كل الأصناف والفئات، منتشرين في كل الأرجاء وكل الأوقات. يتحركون في جميع الاتجاهات.. يتلاطمون جيئةً وذهاباً.. يتجمعون ويتزاحمون ويتفرقون.. يشيرون ويصرخون.. يهرولون ويصعدون وينزلون. يسير كل منهم نحو هدفه، لا يكاد يرى أحداً من حوله.. يتخبطون ويتدافعون.. ولابأس أن يُشاركوا في ما يلزم من دفع وشد وجذب قد يصل إلى حد العراك على أولوية الصعود أو الجلوس أو الوقوف في الممرات. ولا يتحد البشر إلا عند عبور الشارع، عندما يواجهون نفس الخطر..وتنعدم الفرص. فتراهم يجرون خارج الموقف ليصطفوا كبنيانٍ مرصوص يتبادلون ابتسامات مضمونها أن "هدفنا واحد" ليعبروا الشارع العريض مكونين حاجزاً بشرياً منيعاً يجبر السيارات المجنونة على الوقوف . يصلون بسلام إلىالضفة المقابلة ليسلموا الراية إلى دفعة جديدة تحذو حذو سابقيها في عبور نهر الطريق لتذرفها مياهه على بوابة الموقف. وفي الموقف تظلهم غمامة العوادم بظلها الكثيف وتستقبلهم نداءات التَّباعين والسائقين التي تختلط بصراخ الركاب وهتاف الباعة الجائلين وأصوات الأبواق المُحَذِّرة.

وبالرغم من زوال السوق إلا أن آثاره بقيت في بعض الأركان.. ميزان مكسور.. قفة ملقاة بها ثمار طماطم محنطة.. أعواد خضار مبعثرة تحولت إلى سيقان جافة فقدت أوراقها..كرات فاكهة صغيرة مدهوسة ملقاة هنا وهناك. لم يكن الناس ينظرون أمامهم ..فهل ينظرون تحت أقدامهم؟ هم مشغولون دائما بالجري للحاق بما سيرحل. وكانت الميني باصات مشغولة بالدوران في أفلاكها بنظام مغناطيسي عجيب. كان كل سائق يعرف مكان سيارته ويحترم أماكن الآخرين.  وأمام البوابة، كان الكابو "صلاح" كبير الموقف يتخذ موقعه يراقب منه حضور وانصراف السائقين ويتابع وصول وانطلاق السيارات ويُحَصِّل رسوماً مقابل ذلك. كان "صلاح" في الأربعينات، ممشوق القوام ذو وجه منمق مليء بالسجحات، ضيق الخُلق كثير العراك والسباب، يحسب له الجميع ألف حساب. يطول عكازه مالا تطوله يده من البشر الذين يتعارك معهم بشكل يومي. ولم يكن السائقون ليأخذوا كل المعارك على محمل الجد فمعظم معارك صلاح كانت روتينية عادية.

سائقو وتَبَّاعو الموقف لاحصر لهم.. دائماً ما يَتَبَدَّلون. فتَبَّاع اليوم هو سائق الغد. وسائق اليوم في الموقف هو سائق الغد في مكان آخر بعيد لايعلمه أحد. ومن بين كوكبة سائقي وتَبَّاعي الموقف كان "فتحي" التَّباع الأشهر على الإطلاق، بالرغم من هيئته المطفأة. كانت بشرته شديدة السمار، زادت دكنتها بفعل الشمس والتراب. كان فتحي جزءاً من الشارع..من الرصيف والأسفلت والتراب..كأنه قضى عمره كله يفترش الأرصفة ويقلب وجهه وجنبه على أَسِّرة الحجارة..أو كأن التراب يصفعه كل يوم، يلطخ وجهه ويعمي بصره في طقس مقدس يعيده إلى الواقع ويعينه على مواصلة حياة ليست بحياة. كان وجه فتحي صفحة من صفحات دفتر الشارع يحوي أسماء وعناوين لا يتذكرها ويضم دروباً وطرقات مفقودة، منسية، اكتست بقسوة وبرودة الوحدة والتيه. تركت أيام الشارع آثارها على هيئة "فتحي" ولم تفلح أي محاولات لإزالة تلك البصمات؛ فقد أصبح الشارع يسكن ملامحه ويحدد الخوف واليأس والانكسار في عينيه. كان فتحي يحترم قتامة ملامحه ويختار مايليق بها؛ فكان يرتدي كل يوم نفس الملابس المهترئة: البنطال الأسود والقميص الأسود الكالحين. وقد علت ثيابه الأتربة ولطختها بقع الطين والزيت. حتى إذا انزوى في أحد الأركان وتكوم على نفسه ليأكل أو يأخذ قسطاً من الراحة حسبه البعض جوال نفايات أسود. كان "فتحي" كماً مجهولاً مهملاً. لم يعرف أحد أبداً من أين جاء.. أومتى ظهر.. مَن أبويه.. أو أين يسكن. ولذلك فقد تفنن الناس في الحديث عن "فتحي" واختلاق القصص حول أصله وفصله. تعددت الروايات عن أنه ابن أحد السائقين الذي مات في حادث أليم. أو أنه هارب من ملجأ أيتام. أو أنه وُلِد وتربى في الشارع ولم يعرف أبويه أبداً. ظل مصدره مجهولاً ولعله كان مجهولاً حتى لذاته. لكن "فتحي"  لم يكن ليعبأ بذلك؛ كان تلقائياً عشوائياً ككل شيء في الموقف وفي الشارع.

كان "فتحي" يخفي وراء مظهره المُطْفَأ طوفان من النشاط والحركة. فمن السهل تمييزه كفهد أسود يجري وسط الحشود بخفة وسرعة وثبات. يقفز من بؤرة لبؤرة. يختفي ليظهر فجأة يسبقه صوته هاتفاً بحماس يتسقطب الركاب. ينظر إلى الناس مباشرة في عيونهم.. يناديهم.. يلوح إليهم بيديه، باذلاً جهداً مضنياً ليركبوا سيارته. كان فتحي يبدو مشرداً بملابسه القديمة المبقعة.. مجنوناً بعينيه المفتوحتين عن آخرهما وتعبير الذهول الذي لايفارق وجهه..ومجرماً بآثار الجروح في وجهه. يدق على صاج الميني باص لكي يقف ويُحَمِّل الزبائن. وفي دقائق قليلة تمتليء المقاعد والمساند بالجالسين بينما تعج الممرات والسلالم بالواقفين ولا يعد هناك مكان لقدم. هل كانوا يركبون خوفاً منه؟ أم اشفاقاً عليه؟ أم تقديراً لجهوده المضنية؟  وبعد الانتهاء من ملء الميني باص بالركاب، يقف فتحي على الباب منتصراً تاركاً جسمه حراً طليقاً خارج العربة بينما يحتفظ بقدم داخل الميني باص. هو لايخشى شيئاً..فلم يكن لديه مايخسره.

كان فتحي يعمل مع الأسطى "عامر" أحد أمهر سائقي الموقف؛ فلم يسجل حادث تصادم واحد طوال فترة خدمته. كما كان "عامر" أحسن السائقين خُلُقا وأجدرهم بالاحترام؛ فلم يكن يشارك في معارك ومكائد الموقف. كان "عامر" في الخمسينات، ممتليء الجسم، ذا وجه طفولي مستدير. يجلس خلف عجلة القيادة طوال اليوم دون أن ينطق بكلمة واحدة. يُوَجِّه السيارة بحركات آلية، تاركاً إدارة شؤون العربة لـ"فتحي". وكان "فتحي" أهلاً للثقة فبالرغم من صفاقته وسوء خُلُقه إلا أنه كان أميناً في الأمور المادية. ثم إن بلطجته كانت من أهم المؤهلات التي ساعدته على زبط وربط الركاب ومنع أي محاولات للتملص من دفع الأجرة أو سرقتها.

كما كان "فتحي" شديد الحرص على تأمين أكبر مبلغ من الأجرة ليضمن يومية مُجزية. فكان يُكَدِّس الركاب في الممر وعلى السلم حتى يبدأ الجالسون في الشكوى وتدب خناقات كل يوم. وكانت هذه هي الفقرة المفضلة لدى التَّباع. الفقرة التي يعد لها كل ما يملك من مواهب السب واللعن والضرب. فما أن يبدأ أحد الركاب بالتذمر حتى يترك "فتحي" موقعه المتميز على حافة السلم ليزج بنفسه بين أكوام البشر وينفذ بخفة إلى المُدَعِي. وبصوت عالٍ أجش يبادر بالصراخ والسباب. وكانت النتيجة لا تخرج عن احتمالين: إما أن يسكت المُشْتَكي بعد أن يصاب بالهلع والذهول جرَّاء وصلة السباب التي كيلها له التَّباع. وإما أن يتطور الأمر إلى تشابك بالأيدي بين الراكب والتَّباع، ثم لا تلبث المعركة أن تخمد إثر انسحاب "فتحي" فجأة ورجوعه إلى موقعه على حافة السلم. كان كل هذا يحدث على مرأى ومسمع من الأسطى "عامر" الذي كان دائماً ما يراقب التطورات في المرآة بعيون ثابتة دون أن تصدر عنه أي بادرة للتدخل. حتى في المرات التي كان يتستغيث فيها الركاب بـ"عامر"، لم يكن يلبي نداءهم أبداً. كان ينظر إليهم نظرة مفعمة باللامبالاة يبثها إليهم عبر المرآة، ثم لايلبث أن يعيد بصره إلى الطريق وهو يدندن مع الأغنية التي تنبعث من الراديو، بينما السباب تتراشق وتتطاير خلف ظهره.

كان الميني باص يقطع الطريق ذهاباً وإياباً، مكرراً  ذات الرحلة عشرات المرات كل يوم. وفي أحد الأيام العادية، بينما كان الميني باص ممتلئاً عن آخره، مائلاً إلى جانبه، يطوي الأرض طياً، كان "فتحي" طائراً بجسده كعادته ينادي في السائرين، معلناً وجهة الميني باص، محاولاً استقطاب زبائن جدد يحشرهم وسط الحشود. وبعد فترة ليست بقليلة من انطلاق الميني باص المكتظ بالبشر، نجح التَّباع في استقطاب أحد الموظفين الخارجين من هيئة حكومية. نظر الموظف بعينيه الناعستين إلى الميني باص المائل وهو يتوقف ويكاد ينقلب من شدة الفرملة. لكن المنظر المُنَفِّر لم يثنِه عن الركوب. تسلق الموظف الميني باص بتفهم ووعي للوضع الذي هو بصدد مواجهته دون أن تبدو على وجهه امارات اعتراض أو دهشة.

وعلى الرغم من سكون الركاب طوال الرحلة، إلا أن ركوب الموظف حرك المياه الراكدة في الميني باص؛ فزاد الدفع والركل وتعالت الهمهمات ثم تصاعد صوت أحد الركاب مشتكياً من الوضع. كان الشاكي رجلاً طاعناً في السن، هزيل الجسم، مقوس الظهر، أبيض الشعر واللحية، ذا يدين واهنتين ترتجفان بشدة. لفت العجوز الأنظار إليه وهو يركب من الموقف. أشفق عليه الجميع وساعده التَّباع على صعود سلم الميني باص. لم يجد العجوز مقعداً خالياً يجلس فيه، فقام أحد الشباب ليجلس العجوز مكانه في منتصف الميني باص.

 بعد صعود الموظف الذي اتخذ وقفته بين أكوام اللحم المتراصة في الممر، وما أن بدأ الميني باص في التحرك مرة أخرى متابعاً رحلته، حتى بدأت الكتل البشرية الواقفة تتمايل من جديد، تاركة حملها يدفع الكتل البشرية الجالسة. تأفأف البعض وتجاهل البعض الآخر الوضع. لكن العجوز بدأ يصرخ. كان صوته حاداً يشق الزحام، متألماً موجوعاً، وكأن الراكب الأخير قد فرم قدمه أو لكزه أو مال عليه بثقل جسده. نظر إليه "فتحي" في برود وتجاهله أول الأمر. لكن العجوز لم يسكت وبدأ صراخه يتحول إلى تهديد ووعيد. ثم تطور إلى سباب وجهها للتَّباع والسائق. امتقع وجه التَّباع عندئذٍ ودس نفسه بين الواقفين بنعومة وسرعة كثعبان أسود يختفي من مكان ليبرز في مكان آخر. كان يتحرك بخفة وهدوء ينذران بخطر داهم. وفي ثوانٍ وصل التَّباع إلى مكان العجوز. حاول "فتحي" أن يشرح الأسباب ويهديء من ثورة العجوز، لكن الأخير ظل يصرخ ويسب ويلعن. مد "فتحي" يده يربت على كتف العجوز محاولاً استرضائه، إلا أنه فوجيء بالعجوز يدفعه بكلتا يديه ثم يركله بقدمه ركلة قوية لا تتناسب مع سنه أو حالته البدنية. ترنَّح التَّباع إثر الركلة في حين انشقت الأرض عن مكان كالتابوت أفسح عنه الركاب في ثوانٍ ليسقط فيه "فتحي" على ظهره متألماً. بدا "فتحي" منكمشاً، مذعوراً، كفأر وقع في مصيدة تحيط به القطط من كل جانب بينما جسده الصغير يرتعد. لم يستطع "فتحي" تمالك نفسه والوقوف مرة أخرى. كانت لحظة فارقة تذوق فيها ذُلاً كان يهرب منه طوال حياته.. ذلك الذُل الذي كانت تكيله له الدنيا في كل لحظة يعيشها ولم يكن يملك ما يصده به سوى وجهه المسجح ولسانه السليط وثيابه القذرة.

 تداعت الأحداث في سرعة رهيبة. قام العجوز فجأة وأمسك التَّباع من ثيابه مساعداً إياه على الوقوف. ووجد بعض الركاب أنفسهم يمدون أيديهم مع العجوز ليشدوا التَّباع. وما أن وقف "فتحي" على قدميه حتى أمسك به العجوز والركاب وبحركات سريعة متتالية حملوه كما تُحمَل الجثة وشقوا به الطريق وهم يدفعون البشر على الجانبين. وفي حركة مُتناغمة مُتسقة ارتفعت الأذرع حاملة "فتحي" لأعلى وألقت بـه من باب الميني باص إلى الخارج. اتخذ الركاب أماكنهم من جديد في هدوء بينما اتجه العجوز إلى مقعده تزفه كلمات الثناء والمديح والدعاء بطول العمر ودوام الصحة والعافية. انطلق "عامر"  بأقصى سرعة وضحكاته المتعالية تدوي في أرجاء الميني باص وتخترق أسماع المارة في الشارع.. تاركاً وراءه فتحي التَّباع يحتضن الأسفلت ويمرغ وجهه في التراب.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم