د. جمال فودة
دراسة في قصيدة (العاشق الذي انتحر جواده) لمجاهد عبد المنعم مجاهد
تعتمد بعض القصائد في أسلوبها على (السرد) الحكي فتقدم تصويرا لحكاية أو مشهد ما، ويستعين الشاعر في ذلك بالصورة الشعرية، خاصة عند وصف البيئة وتصوير ملامح الشخصية ونفسيتها، بينما يكثر اعتماده على التعبيرات الحرفية لدفع الحكاية / القصيدة نحو النمو والتطور، أي لتحريك الأحداث والزمن، وإن كانت هذه القصائد التي تروي أحداثاً متتابعة يتضاءل فيها دور الصورة الشعرية إلى حد ما.
وأحياناً يعتمد الشاعر على بعض عناصر التعبير الدرامي من حوار خارجي وحوار داخلي وحدث يمثل محور الصراع والحركة، فضلاً عن البطل والزمان والمكان وغيرها من عناصر العمل الدرامي.
وتمثل قصيدة (العاشق الذي انتحر جواده) للشاعر مجاهد عبد المنعم مجاهد نموذجاً للبناء السردي الذي يزاوج بين الصورة الشعرية والتعبير الحرفي على نحو متميز، وتبدأ القصيدة بهذه الصورة الشعرية:
ودخلنا مدن العشق السبعة أحمل صاحبتي
أحملها وكأني بطل
وهي بداية تثير عاطفة المتلقي وفضوله لما حدث بعد ذلك، متسائلاً في أعماقه: أين هذه المدن؟ ولماذا ذهب الشاعر إلى هناك؟ وما مظاهر البطولة التي يتحدث عنها؟
من خلال هذه البداية / الصورة استطاع الشاعر أن يجذبنا معه لمتابعة الأحداث، خاصة ما يتعلق بجانب البطل (كأني بطل) إذ يشعر في اعماقه انه ليس بطلاً بالفعل!
تأخذ القصيدة / الحكاية بعد ذلك طريقها إلى التطور في الأحداث من خلال الصور الشعرية، فها هو شاعرنا قد وصل إلى مدن العشق، لكن المدينة خاوية على عروشها! تُرى ماذا حدث؟ وأين ذهب العشاق؟
أنزلت انا صاحبتي
فالصمت يخيم فيها
أترى العشاق بها قد رحلوا؟
يصور الشاعر الوحشة التي تعلو المكان بالصورة الموحية (الصمت يخيم فيها)، فلا صوت إلا وقع القدم ودقات القلب، ومن ثمّ كان السؤال: أترى العشاق بها قد رحلوا؟ ليخرج من حيز الصمت الذي يملأ المكان ويثير الحيرة والدهشة.
وفي محاولة من الشاعر لاستكناه حقيقة ما حدث راح يجول في المكان باحثاً عن أثر ينبئ عن الحقيقة، وتتنامى الحداث كلما مضى في طريقه قُدماً: الدماء في كل مكان تثير الخوف والفضول، لكن من فعل هذا؟!
إن الجثث الممزقة الأشلاء تشير إلى وحشية القاتل، أعاد التتار من جديد؟ فلا يفعل ذلك سواهم، أم تُرى زُلزلت الأرض زلزالها؟ أم جاء الطوفان فجأة فلم يتسع الوقت للفرار؟!
لكن باقات الورد مدماة فوق الأسفلت
تنتحر عليها القُبل
في زاوية ألمح عاشقة قُتلت وبعينيها
ذعر كاد بها يشتعل
من جاء بكوكبة من خيل بري؟
فالعشاق جميعاً
تحت سنابكها قد قُتٍلوا
أتُرى هجم التتر عليها
أم زلزال فاجأها فاندكت
بَرَك عليها الجبلُ
ماذا فاجأهم؟ لم يجد العشاق لديهم وقتاً
كي يرتحلوا
ترسم الصورة السابقة مشهداً مأساوياً ـ بكل تفاصيله ـ فكل ما كان مصدراً للسعادة قد صار مدعاة للحزن والألم؛ ” فباقات الورد مدماة “، و” القبل تنتحر “، ثم تزداد الصورة بؤساً وكآبة حين يظهر في أحد جوانبها ” عاشقة قُتِلت “، ليس هذا فحسب بل: بعينيها ذعر كاد يشتعل “.
ثم كان الاستفهام الذي يترجم مشاعر الدهشة والحيرة التي تملكته من جراء هذه المذبحة (من جاء بكوكبة…؟)، لكن القاتل لا زال مجهولاً؛ لذلك تتسع دائرة الاحتمالات: أتُرى هجم التتر عليها؟، أم زلزال فاجأها؟
ثم كان تذييل المشهد بالصورة (اندكت برك عليها الجبل) ليمحو أي أثر يبوح بما حدث!
ويبدو الشاعر حريصاً على تشويق المتلقي وإثارة فضوله بتأخير سرد الأحداث، واللجوء إلى التفاصيل الجزئية، حيث يقفع ن الحالة النفسية التي كان فيها العشاق قبل المأساة، وما انتهى إليه أمرهم بعدها:
يبدو أنهم كانوا في ساعات الصفو
فكأس محبتهم في أيديهم… لكن يبدو
أنهم من كأس الحزن قد ثملوا
كان العطر يفوح من الأعطاف
الآن بعطر الموتى اغتسلوا
كان الفرح يكحل أعينهم
ها هم بمراود ليل اليأس
اكتحلوا
في هذا المشهد صورتان: ظاهرة وباطنة، إلا أنهما متطابقتان، فالشاعر يحاول اكتشاف أعماق الصورة الباطنة لسبر أغوارها مستعينا في ذلك بتفاصيل ودلائل من الصورة الظاهرة؛ فالعشاق قد أُخِذوا على غرة؛ إذ كانوا في أوج سعادتهم تشهد بذلك (ساعات الصفو وكؤوس المحبة).
ثم يترك الشاعر الصورة الباطنة إلى الصورة الظاهرة (لكن يبدو أنهم من كأس الحزن قد ثملوا)، فإن ارتشف العشاق من كأس افرح قطرات فقد شربوا من كأس الحزن حتى ثملوا، يبرز ذلك المشهد التصوير الاستعاري الإضافي (ساعات الصفو، كأس الحزن).
مرة اخرى يرتد الشاعر إلى الصورة الباطنة ليعود حاملاً لنا فتات لحظات السعادة التي عاشها العشاق؛ حيث استنشق رائحة ذكية تفوح بشذا العطر، ورأى الفرح يكحل العيون، ثم ما يلبث أن يصعد إلى السطح ليتخبط في دهاليز الصورة الكئيبة المظلمة فيجد العشاق (بعطر الموتى قد اغتسلوا).
ويراهم (بمراود اليأس قد اكتحلوا)، فالصورة هنا توحي بالمفارقة التي اعتمد عليها الشاعر في إبرازها على التجسيد من خلال الاستعارة الفعلية والإضافية.
بعد ذلك تتطور الأحداث حتى تصل إلى ذروة التأزم التي تنكشف كومضة خاطفة؛ حيث كان الشاعر غارقاً بأفكاره في بحر المأساة ن ولم يكن يدري ان وراء الكمة ما وراءها، فجأة يدق سمعه وقع سنابك الخيل على الأبواب ن وعلى الفور تفر إليه صاحبته وقد ملأها الذعر، تتساءل: ما العمل؟ عندئذ تنكشف الحقيقة، فيسقط عن وجهه قناع البطولة، وتخور قواه، ويلقي سيفه، وما إلى خروج من سبيل !! فقد سُدت في الوجه السبل، والحزن الآن هو البطل!
آهٍ إني أسمع وقع الخيل ورائي
عبثاُ تسأل عينك يا صاحبتي: ما العمل؟
لست بطلاً، ولئن حملتك في البدء بطلاً
وتبدد في داخل أعماقي الرجل
عبثاً تنتظرين.. فسيفي مكسور
وأصاب الرجلين الشلل
أُغلقت البوابات وكل التتر على الأسوار
وها نحن أسارى سدت في الوجه السبل
عبثاً تنتظرين فسيفي مكسور
والحزن الآن هو البطل
إن المشهد الذي تتنوع فيه الأصوات يكون اكثر حيوية وتأثيراً، فمن خلال التجاذب بين الأصوات تتضح لنا أبعاد الموقف وتنطبع في نفوسنا صورته ؛ لهذا كان استخدام الشاعر لأسلوب الحوار كاداة تعبيرية موحية ومؤثرة، خاصة إذا كان السؤال بلغة العيون التي هي أبلغ من كل كلام ! لكن للأسف تأتي الإجابة مخيبة للآمال كاشفة عن السلبية والانهزام : لست بطلاً، وإن كنت في البدء بطلاً، فما البدء كالختام.
إن الصور تتوالى لتكشف عن ملامح الخوف والجبن المستترة في أعماق الشاعر، وما يكمن بداخله من انكسار، إذ يؤكد كل هذه المعاني حين يُصدر الصورة بقوله ( عبثاُ ) ويكررها ثلاث مرات معلناً أنه لا حول له ولا قوة، وما كان السيف ليغني عنه شيئاً وهو مكسور القلب والروح، وأنى لفاقد الشيء أن يعطيه؟!
وهماً كان ـ إذن ـ أمل الذات / المحبوبة في أن صاحبها سيقف إلى جانبها كي يحررها من أسر اغترابها، وما دار بخلدها يوماً أنه هو الذي يحتاج لمن يأخذ بيده، كنت من كربتي أفر إليهم.. فهم كربتي فأين الفرار؟!
لقد نجح الشاعر من خلال اعتماده في بناء الصورة على أسلوب السرد في تقديم تجربة درامية موحية، فضلاً عن طابع الإثارة الذي انتظم القصيدة من بدايتها بعرض التفصيلات الحية، فخرجت القصيدة كبنية متكاملة متفاعلة.