فرانسوا باسيلي
يلجأ الغرباء إلي الليل
تحت أقواسه ينحنون
حاملين الذي يتسرب من روحهم
من تراب الحنين لما لا يبين
ولا يملكون
وهم يدخلون عواصم منفاهم
تلمع أعينهم بنجوم البلاد التي
سقطت من أياديهم
وإذ يلتقون بأحبابهم
في السراديب
يهتفون بهم أين أنتم؟ تعالوا
إننا دونكم ضائعون
وإذ يلتقون يَبشُّونَ، يحتضنون، ويستضحكون
ضحكاً كالبكاء
وفي نظرةٍ للفضاء البعيد يقولون
دون كلام:
أين البلاد التي خفقت في سماها
طيور أناشيدنا البيضاء
ويستفسرون
أما زال للحرية الحمراء
بابٌ يدق
بأيدٍ مضرجةٍ بالدماء؟
ويستفسرون عن الأغنيات القديمة
عن المفردات القديمة
“أخي جاوز الظالمون المدي”
وعن المجد، والحق، والشهداء
وعن كل ما مات من كلماتي
.
لنا الآن ذاكرة الورد
أسرع من عبقٍ عابرٍ، لا بقاء
لما حفر الدهر في الجرح
من أحرف الضاد والياء
فمن يتذكر ما كتبته الرياح
علي جبل الروح
أو ما قاله الأنبياء!
.
بأي ضريح
بقلبي
سأسجي لغتي
وأبكي علي قبرها
في الخلاء!
.
يمر الغرباء في الليل في حذر
لكي لا يثيروا غبار التراتيل
أو يوقظوا ألماً نائماً
حولهم في الهواء
يستفسرون بقلبٍ ثقيل
عن الخير والشر
– شيء مُحَيِّر
كيف حقاً تَغَيَّرَ ما كان لا يتغيّر؟
كيف صار الجميل قبيحاً
والقبيح بأثماله يَتَجَمَّل
وكيف تَبَدَّلت الأشياء
دون أن تَتَبَدَّل؟
.
ويستفسرون عن الأصدقاء
الذين أتوا
حاملين خناجرهم
وعمن تربص بين الأشقاء من أعداء
ويستفسرون عن المستحيل الذي
كان أقرب من قاب قوسين
وعمن سيأسر فارسة الصحراء
يمزق عنها الرداء
ويعرضها في مواكب نصرٍ
علي قيصر العصر
كي تتلألأ فتنتها في عيون أباطرةٍ
يشتهون ارتشاف ينابيعها
من يَرُدّ عيون الذئاب عن الفتنة البيضاء
وكيف سَأَسْتَلُّ سيفي
لأحمي حماها
وقد بعته في عواصم منفاي
واشتريت به جسداً من رصيف الليل
أتدفأ في حضنه ساعةً
قبل أن أستعيد الصقيع
في المطارات والطرقات الحزينة
والطعنات التي تتوالي بلا صرخةٍ
تتشابه في أوجه الغرباء العواصم:
زحامٌ وعيدٌ وزينة
والموت فيها هو الموت
قلبٌ شريدٌ وروحٌ رهينة
ما نفع أن أتسائل مَنْ
مِنْ بلاد الشتات ستقتلني فجأةً
أو أسأل عن إسم هذي المدينة !
.
هم الغرباء، فرسان هذا العصر
بغير سيوفٍ بإيديهم، أو خيول
لهم تتنكر أزمانهم
وتخدعهم أعينٌ
فتصول بأحلامهم وتجول
فالعصور التي خلفهم
تتراءى لهم في الأمام
وتلك التي ستجيء
تلوح لهم في الوراء
وفصول تواريخهم
تتداخل فيما بهم من فصول
فإذا بالرحيل يطول ولا من وصول
وإذا بالقضايا تَحلُّ بغير حلول
وإذا أمةٌ تتهاوي
فلولٌ مشتتة،
وبقايا فلول
.
فكيف
سنرجع
يوماً
إلي
حيِّنَا؟
.
وأي الممالك تفتح للغرباء عن العصر
أبوابها للدخول؟
أين يقيمون؟
أين يكون لهم سكنٌ وحلول؟
علي أي بابٍ لأي سماء
سأقرع دون رجاء
وإن فتح الباب أي عزاء
لروحي
وما خلفه غير أوجه مَنْ حَلّ مِنْ غرباء
فلا أحدٌ في البلاد ولا أحدٌ في المنافي
يَمُتّ إلي أحدٍ، أو يطيل البقاء
وشمس البلاد البعيدة
راحت، كشمسي، تميل
ولم يبق لي في البلاد
إلاً دم الصحراء
يسيل
لم يبق لي بلدٌ في دمشق
ولم يبق لي بلدٌ في الجليل
لم يبق لي بلدٌ في الفرات
ولا عدت ألمح وجهي
علي صفحة النيل
ولا في النخيل الذي في الوادي
فإلي أي أرضٍ أعود
وماذا أقول لها، أو أقول
لنفسي، وقد ضاع مائي وزادي
وضاع الذي
كنت أحسبه في الخيال الوطن
هل رَبِحْتُ إذن؟
أم خسرتُ، حين في مرفأ الريح
ذات ليلٍ
مرتجفاً كالذبيح
تركت بلادي؟