لنا عبد الرحمن
مثل رمية نرد يكررها أصحابها مرات ومرات كي يبلغوا مرادهم، يغامر أبطال رواية”أيام الشمس المشرقة” بمصائرهم عابرين البحار والمحيطات والجبال بحثاً عن مأوى آمن لإنسانيتهم المهدورة، لكن هذا الحلم يظل عصياً وبعيد المنال.
بين عملها الروائي السابق “بروكلين هايتس” الذي حاز جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية، وروايتها “أيام الشمس المشرقة” (دار العين- القاهرة) ثمة مسافة زمنية وسردية تتخذها الكاتبة ميرال الطحاوي لتقدم في جديدها واقعاً غارقاً في مأساويته يختلف عن مجمل أعمالها السابقة، على الرغم من إعطاء البطولة المكانية في كلا العملين لرقعة من الأراضي الأميركية، حيث أبرزت الطحاوي في “بروكلين هايتس” الاسم ليكون عنواناً للرواية، في تناص ذكي مع “ويذيرنغ هايتس”، فإنها تختار في “أيام الشمس المشرقة” مكاناً يقع على الشاطئ الغربي الأميركي، منعطف جبلي شكّل أرضاً منخفضة صودف أن أصبح مدينة حدودية يتسلل إليها المنفيون والغرباء وأبناء السبيل.
هذا المكان الذي يحتوي من تقطعت بهم السبل ينفي فكرة الهوية الفردية عن قاطنيه، ليصير البؤس الإنساني هوية مشتركة بين جميع الشخوص، وكأنهم أبطال وجدوا على هامش الحكومات والبلدان، غير مرئيين إلا بما يمارسونه من أعمال دنيا ليسدوا بها رمقهم، حيث يجتمع العربي والأفريقي والأميركي والآسيوي وأصحاب هويات كثيرة أخرى، ينصهرون معاً في وجود واحد تتداخل العادات وتغيب التقاليد فيه، وتمتزج اللهجات مع روائح البخور والتوابل الشرقية ودخان الماريغوانا، وللمفارقة فإن أرض “الشمس المشرقة” تنام تحت أقدام سلاسل جبال قرمزية “منحنية بتواضع بين مفارق الطرق التي تؤدي إلى المنتجعات الجبلية في الشمال”.
تقدم الرواية تقاطعات حادة بين الأمل الإنساني والموت، تبدأ بحادثة انتحار وتنتهي بموت جماعي، فجميع الأبطال من دون استثناء يرتحلون من أماكنهم مع رجاء العثور على بصيص أمل لحياة أكثر إنسانية ورحمة، لكنهم يجدون أنفسهم محل سر، وفي المرايا يصير الموت بتعدد مستوياته الملمح الرئيس للحياة، موت مجاني نتيجة حدث عارض أو جريمة قتل أو غرق أو شجار أو مكيدة، لكن الكاتبة تعالج هذه القضايا في ارتباطها بالمصير الانساني ككل، وبالتوازي مع السخرية من اعتبار أميركا أرض الأحلام، فليس من حلم مهما بلغت بساطته تحقق لأحد الأبطال.
ما المراد من اتخاذ هذا المكان تحديداً على الرغم من حضور أميركا في “بروكلين هايتس” و”أيام الشمس المشرقة”؟
لا توجد أي تقاطعات بينهما، وهنا تقدم الكاتبة وجهاً أميركياً مختلفاً قلما نراه عادة في الأدب، وربما نشاهد بعضاً من ملامحه في السينما مع الأبطال الذين يغادرون بلداتهم البعيدة يحدوهم طموح الوصول إلى ولايات سطع نجمها وتستطيع أن تمنحهم الأمل الذي يبحثون عنه. وهنا نسأل الطحاوي، هل من الممكن الحديث عن المسافة الابداعية بين العملين؟ لماذا كانت “أيام الشمس المشرقة” مسرحاً درامياً لأحداث الرواية؟
تقول ميرال “الفرق هو التجربة، كتبت (بروكلين هايتس) كتجربة تؤرخ لأيامي الأولى في مدينة نيويورك وحي بروكلين، فالرواية كانت استدعاء وحنيناً لكل ما تركته خلفي، فالبطلة امرأة تصحب طفلها في أول أيام الغربة، وكل ما تراه من مشاهدات يومية يحيلها لما تركته وراءها. (بروكلين هايتس) تجربة ذاتية تستدعي الحنين الى الماضي في الوطن، بالوحشة التي يعيشها المهاجر فور إدراكه أنه فرد وحيد في مدينة كبيرة بهذا الحجم”.
وأضافت، “في (أيام الشمس المشرقة) تجربة مختلفة تماماً، البطل هو المكان، هو تلك المدينة التي تسمى الشمس المشرقة والأبطال مجرد سكان لهذا المكان الذي لا يهتم فيه أحد بمصائر الآخرين، ففي هذه الرواية أحاول القبض على فكرة النجاة وهي الفكرة التي تخايل المغترب، ثم يتضح له في النهاية أنها شرك وخدعة كبيرة. يظل الوطن والبيت والمحبة والكراهية والطفولة والذكريات في مكان ما بعيد، بينما يعيش الأبطال حياتهم في تلك الخدعة الكبيرة اللامتناهية التي تسمى شاطئ النجاة”.
المراكب المحروقة
يناقض عنوان “أيام الشمس المشرقة” مضمونه محيلاً إلى حال من السخرية التي تجنح إلى كسر النمطيات، وهذا يتضح ضمن أكثر من مستوى في العمل، ويمكن اعتبار جملة (المراكب المحروقة) عبارة تنطبق على جميع أبطال الرواية، إذ لا تتوانى الكاتبة منذ الصفحة الأولى عن زج قارئها في عالم تراجيدي دام يمكن إيجاز كيانه بما يرد في نهاية المقطع السردي الأول، “الكوارث التي تحدث في الجوار يصعب عدها أو تقدير حجم ما تسفر عنه من خسائر”، وهكذا لا تشي هذه العبارة فقط بحجم الكارثة المرتقبة للبطلة “نعم الخباز”، بل يبدو الموت هنا قدراً مرفقاً بسلسلة من المآسي لجماعة من المنفيين طوعاً أو قسراً فروا من ماض كابوسي، فإلى أين يمكنهم المفر مرة أخرى، بينما يعيشون واقعاً ديستوبياً أكثر سوداوية وظلاماً من واقع بلادهم التي غادروها بلا أسف ولا حنين ولا رغبة في العودة.
لذا يحضر التساؤل عن المنبع الذي استلهمت منه الطحاوي روايتها فتقول، “روايتي الجديدة (الشمس المشرقة) تمثل واقع تلك البلدات التي تقع على الحدود وتكون مستهدفة من قبل المتسللين، واستلهمتُ عالمها من رحلتي الطويلة في التنقل بين الولايات الأميركية كأستاذة جامعية تنقلت في العمل بين عدد من الجامعات، ومهاجرة تركت بلدي منذ مدة طويلة وامرأة عربية أو من العالم الثالث. أعرف بطبيعة الحال كيف تكون مناطق المهاجرين وتجمعاتهم وحوانيتهم ومدارس أبنائهم، وكنت أبحث عن هذا العالم في تلك الرحلة وتعرفت فيه على كثير من النماذج البشرية التي لا أستطيع نسيانها”.
بنت شيخ العربان
تعرف القارئ إلى ميرال الطحاوي مع أول أعمالها رواية “الخباء”، وكان للروح البدوية حضور قوي من خلال شخصية فتاة بدوية شابة ترتحل إلى القاهرة، ثم عادت وكتبت عن هذا العالم في روايتها الثانية “الباذنجانة الزرقاء”. وفي “بروكلين هايتس” أيضاً كان ثمة حضور لملامح البطلة البدوية، فيما غاب هذا العالم تماماً عن “أيام الشمس المشرقة”، فهل هناك تشبع أو اكتفاء من تقديم ملامح بيئة خاصة تميزت بها كتاباتك؟
تؤكد ميرال الطحاوي “لم أغادر عالمي القديم بل حملته معي، فكتابي الأخير على سبيل المثال (بعيدة برقة على المرسال) 2021 ونشر عن دار المحروسة، هو عن تجربتي كفتاة جاءت من قبيلة وعانت ما تعانيه أي بنت عرب من قهر، مثل تدريب الناقة على الطاعة. يقولون بنت العرب مثل “الناقة الطوع” (الطائعة) تنقاد للجام وتصبر على القسوة وتحتمل وتحمل العابرين فوق ظهرها، لأنها حمول ولا تطلب متاعاً ولا كلأً، وتصبر على النزوح من تلة إلى أخرى ومن ربعٍ إلى ربعٍ، وتسير عارفة طريقها بين التلال المحنية الظهر مثلها، مستكينة صابرة منكسرة، لأن ذلك ما هو متوقع منها”.
والنص الذي سبق ذلك “بنت شيخ العربان” 2020 رصدت فيه تاريخ القبائل العربية ككاتبة وساردة تحاول أن تجعل من التاريخ الموثق والمدسوس في ثنايا الكتب القديمة مادة لتفسير علاقة العرقية داخل المجتمع المصري، إذ لم أنتصر لأحد لأننا في النهاية قبط وعرب وفلاحون مصريون نكون هذا النسيج، لكنني سعيت إلى فهم تلك العلاقة المعقدة بين تلك الجبهات التي يحميها النزاع أحياناً والعيش في ظل التراضي معظم الأحيان، فالقبائل العربية في مصر جزء من تاريخي الشخصي وجزء من تاريخ هذا الوطن.
لقد بحثت طويلاً وحاولت صنع صورة كبيرة عن ظهور العنصر العربي وسيادته، كما يقول المؤرخون منذ الفتح، وعلاقة تلك القبائل بعرابي ومن بعده عبدالناصر، وهي علاقة معقدة ولكنها تكشف كثيراً من طبقات هذا الوطن. الكِتابان قد لا يمثلان تجربة روائية، لكنهما تجربة إبداعية، فكلاهما فيه من البوح والحكي والتأريخ والتأصيل لفكرة البداوة الكثير”.
وتؤكد ميرال، “سأعود للكتابة عن القبيلة لكنني أيضاً أعيش منذ 15 عاماً في تجربة مختلفة، وأظن أن الكتابة عن عالم القبيلة يجب أن تعكس وعياً جديداً”.