“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”.. مرويات عديدة للضيق ذاته

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

تقدم افتتاحية فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، من إخراج خالد منصور وتأليف محمد الحسيني، وبطولة عصام عمر وركين سعد، مشهدا موازيا للمشهد ذاته، ربما أيضا مشهدا موازيا للفيلم بأكمله، الفيلم المعني بلون داكن يسيطر على مشاهده الشاعرية كتعبير ضمني وانتصار فني لضيق ذوات شخوصه، تلك الشاعرية المنبعثة من رؤية الفيلم الإنسانية للعالم، يظهر بالمشهد الافتتاحي بالتلفاز الرابض خلف البطل، المهمش بدوره،  وكلبه البلدي رامبو، مشهدا لضبع ملطخ بالدماء انتهى من التهام الحيوانات المهمشة والمستضعفة، تماما كأبطال الفيلم، هكذا يقدم الفيلم ثنائية الهامش/المركز (السلطة) من عالم الحيوانات، الذي تبناه الفيلم كمركز، كأنه ينتصر لذاك الهامش، يحول هامش عالم الحيوانات لمركز سينمائي، ومع تقديم علاقة حسن بأمه وكلبه يظهرون محاطين بحوائط موازية تعبر عن الضيق الذي يعيشون به، ثم أول طلة لكادر على الشارع، العالم، تكون بين شباك يحصر العالم، معبرا بذلك عن الضيق الذي يرى شخوص الفيلم به العالم، ومع طرح مروية الفيلم وبنيته الدرامية يظهر الأسطى كارم، الذي يريد طرد حسن وكلبه وأمه من منزلهم، بكادر يكشف ظهره العريض، ويمثل الحوار تناصا مع المشهد الافتتاحي عندما يخبر الاسطى طفلا أن ما اعطاه اياه ملطخا بالدماء، ويعبر أيضا الجزء الافتتاحي عن الضيق عندما تخبر الأم ابنها حسن أن يرتدي “فانلة” ، فيرد قائلا إن ارتادءه إياها يخنقه، يشعره بالضيق، ومع انطلاق الحدث المحوري وبدأ البحث عن مخبأ لكلبه، يرتدي حسن الفانلة ليكون باعثا ضمنيا ورمزا لشعور حسن بالضيق.

يعرف الفيلم المدينة المبتلعة قاطنيها من خلال حسن وكلبه، أثناء سيرهم تظهر يافطة بعنوان “صيدليات ريتش”، كأنها تناقض المدينة، بين هامشها ومركزها السلطوي، ذلك يتبع مباشرة علاج الكلب رامبو بعد اعتداء الأسطى كارم على حسن في أداء تمثيلي يظهر انكسار حسن، أثناء ذلك الاعتداء ينقذ الكلب صاحبه من اعتداء الأسطى كارم، فيضربه أحدهم، كأن المروية تنتصر للهامش، الكلب الذي يقهر السلطة، بعدما انتصرت له قبلها عندما حاول الأسطى كارم فرض سلطته على حسن وإهانته بجعله يذهب للورشة ويعود ليلقي السلام عليه، فيلقي حسن السلام أولا على طفل يعمل في الورشة قبل خضوعه للأسطى، الطفل التي تنتصر مروية عابرة وموازية إليه هو رمز التمرد والتهميش، من هنا يخرج حسن وكلبه للمدينة، يصطدمون بها وبقسوتها وبعدم تقبلها لهم، حيث يعالج الكلب حلاق بدلا من طبيب، بعدها تقدم علاقة حب مبتورة بين حسن وفتاة تساعده.. ذلك المشهد المحوري، الذي ينتصر فيه الكلب على السلطة بعض عضوه الذكري، رمز الفحولة والسلطة، يعد هو الباعث على الروي، على اقتفاء مرويات عديدة للضيق ذاته، لتعرية ذاك الضيق وفهمه على مستويين فنيين أولهم الكادرات والسينماتوغرافيا وثانيهم اللغة، التي تتفرع للحوار المدعم بالأداء التمثيلي وطبقات صوت الممثلين، وثانيهم التضمين، وهو ما يمارسه الفيلم منذ افتتاحيته كتقديم لبنيته، تضمين مشهد الضبع بالافتتاحية ثم تضمين أعمال فنية موازية في مشاهد عديدة مثل مقطع موسيقي لعبد الحليم حافظ “على طول الحياة نقابل ناس نفارق ناس” يوازي طرح العلاقة المبتورة بين حسن وأبوه وهو يجتر من ذاكرته علاقته بأبيه الغائب كطفل، بينما يستند للعبة ملاهي بالية تكشف الطفولة المعطلة، والحياة بلذتها المعطلة لهامش يدعى حسن، أو طرح أغنية شجر الليمون لمحمد منير وكلمات عبد الرحيم منصور، التي تعبر عن حالة الضيق ومفهوم الفقد الكائن بالعلاقة المعطلة بين حسن وأبيه، “وكل شيء بينسرق مني/ العمر من الايام/ والضي من نني/  وكل شيء حواليا يندهلي/جوايا بندهلك/ ياترى بتسمعني؟”، وهو ما يتكرر كالكورس الموسيقي بالفينالة حيث التضمين بأغنية “شجر الليمون” هو الأكثر تعبيراً عن الحالة الضمنية ومشاعر شخوص الفيلم، بعد التحول ببنية شخصية حسن وتغير نظراته كأداء تمثيلي من الفنان الشاب عصام عمر عند انتقامه من الأسطى كارم وحرق عربته والتورط في شجار معه، يجلس حسن وأمه يتأملون المدينة التي قهرتهم ويشهدوا التضمين المعبر عنهم، الشيء الوحيد الذي انتصر لهم بمدينة قاسية، الفن. أو مشاهد أخرى تُضمَن بها تواشيح النقشبندي معبرة عن مشاعر حسن الروحية والعامة، كمشهد يجلس به حسن بالمسجد محاصرا بأسماء الله “المعز المذل، الخافض الرافع” ، تلك للثنائيات التي تعبر عن البنية الدرامية للفيلم، أيضا يكشف المشهد حالة بطله بكادر مرتفع يكشف حسن المهمش صاحب الضيق بمنزلة منخفضة تعري انكساره تحت اسم الله، تحت اسم السلطة الالهية، السلطة الأولى لثنائية الانسان/ السلطة.. هكذا تنتصر تتعاطف كل الموجودات مع ذلك الهامش حسن، كالتضمين بأعمال فنية موازية تجتفي بالفن ودوره، وكالجمادات التي توهب حياة اضافية لحياتها كجماد، حياة كعنصر فني، فبأحد مشاهد الفيلم بينما يستند حسن على أخشاب محمولة على سيارة نقل تحدث مشادة بمكالمة هاتفية بين حسن وأمه، تخبره فيها أن عليه تسليم الكلب للأسطى كارم، لينتقم منه بعد اعتداء الأسطى كارم على منزلها وقوله إنه سيطردها بعد يوم واحد، هنا يفقد حسن ما كان يستند عليه من دعم أمه، ويفقد بدوره الدلالة الفنية الموازية، فرحل العربة، ويفقد الجماد الأخير الذي استند عليه، أخشاب لا تدري طريقها، تماما مثله، ذلك يحدث بالتزامن مع انبثاق ضوء احمر تجاهه يغير من الطابع الداكن لمشاهد الفيلم، لكنه، عبثا، يغيرها لمأساة دلالية أكبر، الأحمر لون الدماء، ذاك ضيق أكبر يحاصر شخوص الفيلم به بداية من افتتاحية الفيلم والمروية الموازية الغير مكتملة للضبع الذي يلتهم الحيوانات حوله، والتي يستكملها الفيلم بواقع مواز.

تلك المرويات العديدة حول الضيق ذاته يطرحها الفيلم بمشهد Master seen حين يحاكي حسن الواقع مع كلبه ممثلا مشهد موت، قتل للكلب، بأصابعه قبل إطلاق الأسطى كارم طلقة حقيقية، من لحم ودم عكس المحاكاة، انتقاما من الكلب الذي أفقده سلطته ومركزيته ضمنيا، هنا يؤكد الفيلم بنيته القائمة على توازي مشاهدات عديدة للحكاية ذاتها، بذلك المشهد، يظهر كارم من وراء قضبان حديدية تشبه قضبان السجن، كأنه السلطة بتصورها الخام.

عبثا، يحاول حسن الا يطرح مروية جديدة للفراق كما حدث مع أبيه، يحاول الاحتفاظ بكلبه، حتى يعطيه لمن يتبنوه بكندا؛ انقاذا له من واقع موحش ومدينة قاسية، يقول إنه بالبلاد البعيدة سيجد واقعا أفضل، بينما يحتفل العالم ويشيع الضوء الابيض بذلك المشهد من حوله، يكون حسن وحده يحيا الضيق والفقد كهامش أخير ووحيد في عالم سعيد.

مقالات من نفس القسم