محمود عماد
لعبت البساطة الدور الأكبر والأكثر فعالية والأصدق في مكونات الفيلم الأكثر شاعرية وحميمية مع المشاهدين في هذه الفترة الأخيرة، فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” الفيلم الذي يلعب بطولته النجم الصاعد بقوة عصام عمر في أولى بطولاته السينمائية، ركين سعد، أحمد بهاء، وأهم أبطال الفيلم الكلب رامبو، من تأليف محمد الحسيني وخالد منصور، وإخراج خالد منصور في أولى تجاربه للأفلام الدرامية الطويلة.
نحن هنا أمام فيلم من إنتاج عام 2024 قام بجولة جيدة للغاية في المهرجانات السينمائية العالمية حول العالم في العام الماضي حصد فيها الجوائز المختلفة والإشادات الكبيرة، وأعاد مصر لمهرجانات عالمية غابت عنها كثيرا، وعاد الفيلم لمصر في عرضه التجاري الأول، وفي صالات عرض هي الأقل لأي فيلم، ولكن الفيلم حقق معادلة غريبة حيث وصل الفيلم للناس مثلما وصل للنقاد والمهرجانات، بل ربما وصل بشكل أعمق بكثير وصل لجميع فئات الناس حتى وصل لأن يبكيهم، وحقق إيرادات كبيرة بالنسبة لكونه لا يصنف كفيلم تجاري، وبالنسبة لدور العرض السينمائية القليلة التي تواجد بها.
لماذا استحوذ رامبو على مشاعر المشاهدين بهذه الطريقة؟ هنا نحتاج للعودة للفيلم نفسه وأدق تفاصيله لكي نفهم كيف صنعت تلك اللوحة الفنية، ونفهم أيضا كيف نفذ رامبو لوجدان كل من شاهده.
افتتاحية الفيلم ترينا الثيمة الرئيسية لأحداث الفيلم، إننا أمام بطلا الفيلم منذ المشهد الأول مجتمعين في كادر واحد البطلين الذين نقصدهما هما الكلب رامبو وحسن “عصام عمر”، نعم إن رامبو هو بطل رئيسي في أحداث الفيلم، بل ربما لكونه الذي يحمل الفيلم اسمه وكون الصراع يدور حوله هو بالأخص يمكننا اعتباره البطل الرئيسي، وحسن هو البطل المساعد، إن الافتتاحية ترينا أن رامبو ليس مجرد كلب إنه أحد أفراد العائلة فهو ليس فقط ذلك الصديق الحميم لحسن بل هو أيضا يحظى بحب الأم، ومنذ اللحظة الأولى نشعر بافتقاد حضور الأب الضلع الثاني في العائلة والذي من الممكن أن نعتبر رمزيا أن رامبو هو الذي يشغل ذلك الغياب.
أيضا الافتتاحية تقترن ببساطة الصورة فنحن في بيت بسيط للغاية في منطقة بسيطة هي الأخرى، وستبقى هذه البساطة مسيطرة على كل مشاهد الفيلم تقريبا صانعة حالة خاصة في نفس المشاهدين. أيضا الافتتاحية تحتوي على ذكر فيلم الغول والذي يريد حسن مشاهدته في عيد ميلاده بدلا من الخروج، وذلك الربط بين مصير بطل الغول وبين حسن الذي سنعرفه مع أحداث الفيلم.
تنطلق بعد ذلك أحداث الفيلم وتكون في كل لحظة الكاميرا الواقعية للمخرج حاضرة كاميرا تصور القاهرة من أحيائها البسيطة المعدمة إلى أحيائها الجميلة الغنية هنا تعود المدرسة الواقعية للسينما في الظهور على السطح مجددا، وهنا القاهرة بكل تناقضها بخنقها لقاطنيها، وحبها ورعايتها لآخرين.
بعد ذلك نصطدم بالعقدة الأساسية للفيلم، والتي ستؤدي للأحداث المتوالية، والتي يمكن أن نعتبرها حدثا عاديا حدث كثيرا، ويحدث، وربما سيحدث كثيرا أيضا ألا وهو كارم “أحمد بهاء” الذي يريد طرد حسن وأمه من بيتهما الذي عاشا فيه سنوات عمرهما، والذي لا يملكان غيره يريد كارم مالك المنزل والورشة أن يوسع ورشته بالاستيلاء على منزل حسن وأمه في نوع من الاستبداد، وقضية يمكننا أن نفسرها برمزيات كثيرة أبرزها ستكون سياسية، ولكننا عندما نرى تكوين الصورة في مشهد محاولة التفاهم بين أم حسن وحسن من جهة، وبين كارم من جهة أخرى سنرى الكادرات ولغة الجسد في المشهد التي تعبر بلا ما لا يدع مجالا للشك على قوة كارم الكبيرة وضعف موقف أم حسن وحسن في الجانب الآخر إنها تشبه طاولة المفاوضات للوصول لحل وسط بين أصحاب الأرض الحقيقيين، وبين المحتل المغتصب دون وجه حق والذي يريد فرض رأيه ورؤيته المستبدة مقابل جنيهات معدودات في مقابل ترك الحق، وربما هذا يحيلنا لرمزية أخرى وهي القضية الفلسطينية بأن يمثل كارم المحتل الإسرائيلي الغاشم، وبين أم حسن وحسن اللذين يمثلان الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، ورغم ابتعاد واقع الفيلم عن تفسير مثل ذلك، ولكننا مع معطيات متقدمة لمشاهد الفيلم، وتكوينات معينة لصور الفيلم سنرى إحالات لتلك الرمزية. من هذا المشهد أيضا نرى شخصية حسن والذي كان وراء أمه لم يشارك في التفاوض تقريبا هنا تتكشف لنا شخصية حسن شخصية صامتة مهزومة وسلبية بطل يتماشى مع فيلم هكذا.
نبدأ نكتشف بعد ذلك الغياب الملحوظ للأب الذي غادر، والذي في بدايات الفيلم لا ندري هل مات أم اختفى، لكن تشبث حسن بأي شيء منه حتى لو كان صوته يحيلنا لفكرة أن أحد أهم أسباب هزيمة حسن هو الغياب المحوري والهام للأب في حياته، ومرة أخرى يمكننا أن نقول بأن حضور رامبو بهذه القوة هو حضور موازي لغياب الأب في محاولة فانتازيا من حسن لملئ هذا الفراغ.
النقطة المحورية في الفيلم ستكون تلك الشرارة التي سيشعلها كارم عندما يقوم بالتعدي بالضرب على حسن فيثور الصديق الوحيد بل ربما يمكننا أن نقول الآن بجزء كبير من الحقيقة الأب رامبو لما حدث ويدافع عن حسن، ويصل الأمر لأن يعض العضو الذكري لكارم، وهنا لن تكون تلك العضة لتلك المنطقة تحديد أمر اعتباطي، بل هو إنهيار لقوة الظلم من منطلق أن العضو الذكري رمزا كبيرا للقوة والصلابة، ويمكننا أيضا إحالة الأمر مرة أخرى أنه يخص الفلسطينيين، وهي فكرة تسيطر على المشاهد في مشاهد كثيرة في الفيلم فحتى لو قلنا بأن الفيلم لا يقصد السابع من أكتوبر وما تلاه فإن تاريخ الصراع الفلسطيني مليء بذلك الكر والفر، وبذلك الانتقام الذي قام به رامبو من المستبد كارم رغم ما سيحدث بقية الفيلم.
يضرب رامبو بعد ذلك على رأسه فيأخذه حسن محاولا علاجه وإيقاف النزيف وبما أن الوقت متأخر لا يجد عيادات بيطرية أو مستشفيات فيلجأ لحلاق وبعدما يربط الحلاق رأس رامبو ويخيطها يمسك حسن بالمرآة ليري رامبو شكله، وهنا نحن أمام واحدة من أهم مشاهد الفيلم إن التكوين البصري لهذا المشهد يحيلنا إلى جوهر الفيلم وهو عندما تغطي المرآة وجه حسن ويصبح إنعكاس وجه رامبو في المرآة فيصبح رأس رامبو وجسم حسن، وهنا تتكشف لنا حقيقة جديدة ومحورية في بناء الفيلم وهو أن الفيلم بشكل ضمني هو البحث عن منفذ لخروج السيد حسن، ولكن ذلك لن يتم إلا عن طريق رامبو أقرب أصدقاء حسن، بل إن صح القول صديقه الوحيد.
يطالب كارم بتسليم رامبو ويرهن الأمر بأنه قد يراجع موقفه من تهجير حسن وأمه من البيت إذا سلماه رامبو كي ينتقم منه، وهنا ولأول مرة يكسر حسن سلبيته ويرفض ويبدأ في البحث عن منفذ لخروج رامبو لن يسلم حسن رامبو حتى لو كلفه ذلك العيش في الشارع دون منزل يأويه هو وأمه وحتى لو تعرض لبطش البلطجي كارم.
تحلينا رحلة البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو إلى جوانب أخرى من حياة حسن فنرى حبيبة حسن، والتي تكون أول شخص يخطر في باله لكي تبدأ الرحلة من عندها، ورغم كونها مخطوبة وضائعة من حسن بالفعل، ولكنها تساعد حسن بل نشعر في أجزاء من مشاهد الفيلم أنها تريد وصل ما انقطع، ولكن حسن كان منهزما لأقصى درجة، ولم يجد أي شيء يخرجه من سلبيته إلا البحث عن منفذ لخروج رامبو، وسنرى في رحلة البحث عن المنفذ شاعرية العلاقة بين حسن ورامبو، وكيف أن حسن يهمه أن يخرج رامبو خروجا آمنا.
نقطة أخرى تتكشف لنا من شخصية حسن وحياته، وهو الأب الضائع الذي ذهب ولم يعد لا أحد يعلم هل هو ميت الآن، أم حيا يرزق ينتظر الفرصة بالعودة الضعيفة إنه سؤال يؤرق حسن، ولا يستطيع تجاوزه هو سؤال محوري في حياته، ونرى تمسكه بأي شيء من آثر ذلك الأب الغائب، ولو بعض شرائط قديمة، والتي تحمل صوتهما معا في طفولة حسن المبتورة، والتي تظهر في مشهد المراجيح التي ملأتها الصدى إنها إسقاط على طفولة حسن التي لم تكتمل وعلاقته بوالده التي كانت حميمية، فكانا يذهبان معا لمشاهدة الأفلام على القهوة في عيد ميلاد حسن، ونعلم أن رامبو قد أخذ اسمه من فيلم رامبو الشهير الذي شاهده حسن مع والده، وهنا نعود لفكرة أن حسن يحاول جعل رامبو يملأ ولو جزءا بسيطا من معادلة غياب الأب، كما نسمع في الشريط غناء أغنية “شجر الليمون” للكينج محمد منير، والأغنية من كلمات عبد الرحيم منصور، وألحان أحمد منيب، ويمكننا اعتبار الأغنية هي الثيمة الرئيسية للفيلم هي الأب الروحي للأحداث، وخاصة جملة “كل شيء بينسرق مني”.
في رحلة البحث عن المخرج والتي تكللت بصعاب وإخفاقات كبيرة تبدأ أم حسن في التراجع ومطالبة حسن بتسليم رامبو لكارم في ظل تهديدات الأخير المستمرة المتمثلة في الإعتداء على البيت والتهديد والوعيد، وهنا وعكس شخصية حسن يقرر حسن الإستمرار تاركا خلفه كل شيء معلنا مصلحة خروج رامبو الآمن فوق كل مصلحة، وهنا نرى زيارة حسن لعمه، والتي تحيلنا إلى القضية الفلسطينية مرة أخرى، وذلك عن طريق الكادر الخاص بعمه وفي الخلفية صورة للسادات ومعاهدة السلام، وكلام العم بأن يسلم حسن رامبو لكارم دون مشاكل، وهذا سيرفضه حسن مرة أخرى، ويتضح بعد ذلك أن حسن جاء من البداية لمحاولة سؤال عمه عن أبيه الغائب العقدة الأزلية في حياة حسن.
أظن أيضا أنه لا يمكننا أن نغفل أحد أهم الكادرات وتكوين الصورة بالفيلم كله، ألا وهو مشهد حسن في المسجد أثناء علاج رامبو من الطلق الناري الذي أصابه في مشهد يشبه الماستر السين الممزوج بالغرائبية، طلق ناري من كارم العائد المنتقم في ملجأ الحيوانات الذي حاول حسن وضع رامبو فيه، ليلاحقه كارم ويطلق عليه النار، ولكن مات رفيقيه الآخرين، وأصيب رامبو في عينه، وهنا ذهب حسن للمسجد، وبدل ملابسه كأنه يجب أن يكون نظيفا من كل أوساخ هذه الحياة أن يتحرر من كل ما فيها قبل دخوله للقاء ربه في مشهد شديد الروحية، مشهد يستسلم فيه حسن ويجلس ثم يزيد الاستسلام بالاستلقاء والنظر إلى السماء مع أجواء روحية تواشيحية وإضاءة شديدة الشاعرية، وكادرات توضح أسماء الله الحسنى المختلفة، مثل المعز والمذل في حالة تضاد تؤكد معنى ذلك المشهد، واستسلام حسن يعني هو تقبله لقدره بين يدي الله مهما كان.
في النهاية ينجح حسن بمساعدة حبيبته القديمة وخطيبها في الوصول إلى منفذ لخروج رامبو، وهذا يزيد من هزيمة حسن أكثر فأكثر سواء من حيث أن يساعده غريمه الذي أخذ حبيبته، ومن ناحية أخرى يعني إيجاد المنفذ افتراق حسن ورامبو، والافتراق يتأكد بما أن رامبو سيسافر خارج مصر، وفي مشهد شديد الشاعرية وبتكوين صورة هو تتويج للهندسة البصرية طوال أحداث الفيلم نشهد مشهد الوداع مشهد يدور في ذلك الديسكو الصاخب، ورغم كل تلك الضجة لا يأبه حسن ورامبو إلا بافتراقهما في وداع مكتوب بحرفية وتماسك شديدين، وبجعل رامبو يتحدث.
ختام الفيلم يكون بطرد كارم لأم حسن وتشريدها، وبعد معرفة حسن يصل إلى ذروة التغيير الذي بدأه منذ بدأ رحلة البحث عن منفذ الخروج لرامبو، إنه تحول كامل من ذلك الشخص السلبي، لذلك المنتقم الذي يضرب ويحرق، ولكن بعد فوات الأوان بعد ضياع كل شيء، بعد أن أصبح حسن وأمه يعيشان في الشارع، وتمثلهما أغنية شجر الليمون بكل رمزيتها، ورغم طرحها من سنوات، ولكنك تشعر بأن هذه الأغنية قد كتبت خصيصا للفيلم، هي تعبر عن كل شيء في عن بطله المهمش حسن الذي يشبه الكثير من المهمشين الواقعيين، والذي سرقت منه أحلامه وبيته وحبيبته وصديقه الوحيد.
سيبقى فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” علامة مدهشة في السينما المصرية في عصرها المعاصر، علامة تثبت بأننا ما زلنا نملك المواهب على المستوى، التمثيلي، الإخراجي، والتأليفي، وأن البساطة التي تملؤها الصدق قادرة على صنع الفارق، وأن باستطاعة الفيلم أن يكون محبوبا نقديا وجماهيريا، وبأن مقولة هذا ما يريده الجمهور هي مقولة كذب وبهتان، فالجمهور لم يجد إلا هذا، ولكن عندما يجد أفلام فنية حقيقية مثل رامبو سيدهشنا بتفاعله معها، أظن أن رامبو والأفلام التي من نفس نوعيته العابرة للنوعية التقييمية من كونها تجارية أم مهرجانية هي طوق جديد لعودة السينما إلى قوتها المعهودة، والتي للأسف تراجعت في السنوات الأخيرة، وشهدت حالة من الصعود والهبوط، وأظن أيضا أن الفيلم سيكون بداية نجومية جديدة كبيرة لكل صناعه، وسيبقى السؤال مطروحا من فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” لكل المهتمين بالسينما في مصر “يا ترى بتسمعني؟”.