رزان نعيم المغربي
قد يبدو لمن يراقبهما، ويتتبع آثار المسافات التي يقطعانها، والأماكن التي يرتادانها، كأنه يرى مشاهد سينمائية، لرجلين في منتصف العمر، مختلفيْن في الهيئة بل نقيضيْن في كل شيء، وهما يطاردان شبح امرأة، يتوقعان أنها ستكون في أحد المقاهي التي يؤمها الأدباء والفنانون، وهذا هو المقهى الخامس، كما يقول لصديقه صاحب المجلة الممنوعة من الدخول إلى البلاد، وهما يهمان بدخول المكان، أما هو فيؤدي دور الشخص المهووس الذي أضاع فرصة التقاط اسمها، أو شيء يمكّنه من الاستدلال عليها لمّا التقاها في مقهى المطار، واستفاق بعد رحيلها مسرعة باتجاه بوابة الطائرة، تجذب يد ابنتها، لتلحق برحلتها. همس لنفسه: ما أنهكتني إلا الأشياء التي أفلتها، في الوقت الذي يتوجب أن أقبض عليها.
هذا المساء، بدا المقهى مزدحماً بالوجوه التي يعرفها الصحافي، بينما كان معظمهم لا يزال مجهولاً بالنسبة إليه، وهو العائد بعد غياب عن البلاد دام طويلاً، كثيرون يلقون التحية على صديقه، بعضهم يحدق في ملامحه محاولاً أن يتذكره، لكنه سرعان ما يشيح ببصره عنه، فهو ليس بشهرة الفنانين والسياسيين بعد، كان له ظهور مميز في إحدى الفضائيات المعروفة، تحدث عن خطة لإنقاذ البلاد من الفوضى الاقتصادية الغارقة فيها. في ذلك الظهور على الشاشة حاول ألّا يكون حاداً في انتقاده للنظام القائم، لأنه ينوي بالفعل زيارة بلده بعد هذا الانقطاع.
متململاً همس لصديقه الصحافي المغضوب عليه من النظام: هذا خامس مقهى ندخله لا تبدو أنها من رواده، إلا أن صديقه مشتت الانتباه، يقف مرة لزميل ويعانقه، ومرة أخرى يستوقف كاتبة أو شاعرة، يتحدث إليها متعمداً، لعلها ضالة صديقه، عاد لانتباهه واتخذ هيئة جدية محدّثاً صديقه الخبير الذي يتمنى إنقاذ البلد وسأله:
-عليك أن تخبرني مجدداً بالقصة، ربما غابت عني بعض التفاصيل، سألتقطها وأتنبأ بمن تكون بطلتك، ثم خطر له شيء وقهقه بصوت عالٍ، وعاد وأغلق فمه بيده، تمالك نفسه واستطرد قائلاً: هل تعلم أني الآن ألعب معك دور الشرطي المحقق؟ غالباً ما كنت في الطرف المقابل معتقلاً في أحد المراكز الأمنية، أجلس مثلك هكذا، ضحك وأَكمل: – مقابل رجل يستجوبني ويطالبني بتكرار روايتي، أسلوبهم معروف كما تعلم!! ارتعش صديقه قليلاً، أحس بخوف غامض، ثم ضحك مدارياً مشاعره، ورضخ لطلبه:
– كنت قبل ثلاثة أشهر في إحدى رحلاتي أتنقل بين بلد وآخر، وفي مطار القاهرة، بعدما مررت بالسوق الحرة، اشتريت بعض الهدايا، ودخلت إلى صالة كبار الزوار (الترانزيت) كانت رحلتي كما أتذكر باتجاه دبي، وهناك رحلة متأخرة إلى هنا، أقصد طرابلس، أحمل فنجان قهوتي بيد وكيس الهدايا باليد الثانية، وأبحث عن كرسي لأرتاح بعض الوقت، نظرت نحو ركن المقهى وجدتها، كانت غارقة تماماً ومنسجمة مع رواية سبق أن قرأتها وأثارت ضجيجاً عند صدورها، لا أدري كيف اتجهتُ نحوها وخاطبتها: إلى أين وصلت فيها؟ رفعت رأسها تأملتني ملياً، أجابتني: من الجيد أن يكون لرجال الأعمال وخبراء الاقتصاد وقت لقراءة الروايات.
كيف أصف مشاعري لحظتها، لا أعلم! لم يكن ردها تقليدياً، لم تنفر من اقتحامي عالمها، بل عرفتني وهذا يعني أنها متابعة جيدة لما يجري. هنا قاطعه الصحافي الذي يؤدي دور المحقق: شعرها طويل، قصير؟ طولها؟ تبدو رشيقة مثلاً، كم تقدر عمرها؟ ولماذا ظننت أنها كاتبة هل أخبرتك بهذا؟
– سبق أن وصفت لك ملامحها، لكن لفت نظري أناقتها إذ تلف رقبتها بشال حريري أزرق، أتذكر كيف تحدثت عن أسلوب الرواية السردي، وصفته بالجديد، ثم أسرعت للتشكيك بأنه لن يختلف عن نمط السرديات العربية، ولا يقارب متعة قراءتها لرواية بلغة أجنبية.
لم يقتنع صاحبه بعد أن تسحره امرأة لأناقتها أو حتى لو كانت جميلة، يعلم بأن صديقه رجل ليس من السهل الإيقاع به، عاد يستجوبه مازحاً: – صف لي جمالها؟
– بصدق رأيت جمالاً مبهراً حينما انتقدت حضوري على إحدى الفضائيات، عقد حاجبيه واستمر: – أتذكر اخترقت أعماقي لدرجة أحسست بما يشبه السم المخدر، وهي تخبرني برأيها، وبأن كل النظريات التي أطبقها في بلدان أخرى تحقق نجاحاً خاصاً، لكن غاب عني أن بلادنا لا تملك آلية التغيير، لأنها هشة، بل أساسها مقوض ومبني على فوضى بشرية، ثم فسرت الأمر بأنه ولو حدث انقلاب على النظام في أكثر الاحتمالات لن نجد من يقود التغيير الذي أنظر له، لا توجد موارد بشرية مؤهلة، لأنها تبرمجت عقولها على التسول من الدولة وليس البناء.
صمت، ونظر إلى صديقه ليرى ردة فعله، وكان يعبث بقلم على طرف جريدة ملقاة على الطاولة، ثم رفع رأسه وقال: كنت أعلم أنها أبهرتك بشيء ما.
في تلك اللحظة انفتح باب المقهى ودخلت سيدة أنيقة، ضغط الصحافي المحقق على يد صديقه لشد انتباهه، بينما أسرعت متوجهة حيث يجلسان، وقفت مرحبة تبتسم وتتحدث بلهفة مع صديقه، تبدو المعرفة وطيدة للغاية، وبدا وكأنه نسي وجوده، ولم يقدمه للسيدة، وسمعه يسألها عن صديقتها، وصفها بالمجنونة، وضحكا معاً، وأخبرته بأنهما اتفقتا على السفر إلى مهرجان في طنجة، وستكون نصف الرحلة للحضور الثقافي، والنصف الآخر من أجل المرح، وسوف تطغى على الرحلة أجواء عائلية لمرافقة ابنتيهما، بسبب العطلة الدراسية، مما دفعه لسؤالها عنهما ذاكراً اسميهما، أحد الاسمين كان له رنين مألوف عليه وهو يلتقط أطراف الحوار، ابتعدت عنهما متنقلة بين الرواد وغادرت مسرعة، كانت تبحث عن شخص ما لم تجده.
بدا شارد الذهن وهو يفكر هل يخبره بأنه سمع سيدة مقهى المطار تنادي ابنتها بالاسم الذي سمعه قبل لحظات يردده أثناء محادثته مع الكاتبة؟ صحيح أنه لم يكن مهتماً بما يتكلمان فيه، إلا أن اسم الفتاة أحدث وقعاً لديه. وقرر أن يبوح بشكوكه: ربما تكون المرأة ذات الشرود الآبق التي يبحث عنها هي صديقة الكاتبة، التي غادرت قبل لحظات. نظر إليه الصحافي، سأله بلهفة؛ كيف وصلت إلى هذا؟ أجابه: كان اسم ابنتها الذي ذكرته أثناء حديثك مع الكاتبة، ثم استدرك قائلاً: أظنه اسم دلع، كانت تناديها: نوميا، نوميا!
عندها أخرج المحقق هاتفه من جيبه وأخذ يجري اتصالاً، مرة بعد مرة، ثم أعاده إلى مكانه، وسأله مجدداً: هل أنت متأكد من الاسم؟ أجابه: متأكد، وأضاف: – وكانت تحدثها بالإنكليزية.
نهض الصحافي ودفع الحساب، قائلاً: أظن أننا نجحنا في العثور عليها، طلب منه أن يؤجل سفره يوماً، لأنه حاول الاتصال بالكاتبة وصديقتها وهاتفهما مغلق، وموعد سفرهما بعد يوم غد، خرجا متجهين إلى السيارة، وقبل أن ينطلقا، أبلغه بموافقته على التأجيل، واقتنع بالسفر معاً قائلا: احزم حقيبتك!
أمضيا أسبوعاً في البحث حتى تسنى لهما حجز مقعدين في رحلة متجهة صوب طنجة، كذلك وفقا في حجز الفندق، الذي يُتوقَّع وجود الصديقتيْن فيه، كان وصولهما وقت موعد العشاء تقريباً. أخذ الصحافي يستعد للسهر خارج الفندق، وغفل عن هدف صاحبه، الذي أمضى الوقت مع موظف الاستقبال، يحاول استدراجه مستفسراً عن ضيوف المهرجان، والذي عاد خائباً حينما أبلغه أن معظم الضيوف غادروا. لكن عرف منه أن الكاتبة التي ذكرها حجزت في مكان آخر بعد انتهاء المؤتمر، ويعتقد أنها ستقيم في شقة سياحية، منحه بعض النقود، ورافق الصحافي لأحد أماكن السهر، لم يكن معتاداً دخول مثل هذه الحانات الصغيرة، وعلى الصخب الذي يحدثه روادها، عادة يتصرف بحذر شديد، محافظاً على ما يسميه مكانته العلمية. فهو لا يدخن ولا يحتسي الكحول، فيما أسرف صديقه في الشراب. كان جو الحانة ضبابياً. قرر الخروج. تنفس بعض الهواء النقي لدقائق. الطقس الصيفي في الخارج لطيف، أغراه بالمشي مبتعداً، وجد نفسه في شارع محمد الخامس، الصاعد على هضبة، وكاد ينسى صاحبه حيث يسهر، حينما صادف صديقه المغربي، وهو وزير سابق يهتم بالثقافة والفكر، بعد محادثة قصيرة، طلب منه أن يحدد موعداً للقاء خلال الأيام المقبلة، وعده ثم تذكر أن عليه العودة إلى الحانة، اعتذر منه، ورجع يمشي بخطوات أسرع ليجد ما لم يكن يخطر بباله، كان الصحافي مدمى الوجه ينزف من أنفه، بعد عراك مع رواد ليبيين التقاهم هناك وتعرفوا إليه، شتموه بعدما استفزه أحدهم متهماً إياه بالارتزاق من الخارج، وبمعارض للنظام، دخل في عراك خاسر، وكان الخبير الاستراتيجي وصل في الوقت المناسب، قبل أن يبلغوا السفارة بالأمر، سحب صديقه المناضل، وفي استعلامات الفندق أجرى كل الاتصالات ليحجز تذكرة عودة باتجاه القاهرة، لينقذ سمعته ويحفظ أمن الصحافي المتهور صديقه.
بعد أكثر من شهر انشغل بعمله في القاهرة، اتصل به الصحافي، كان قد عاد إلى رشده، أخبره بأن عدداً مميزاً من المجلة على وشك الصدور، وسوف يحمل نسخاً منه إلى البلاد، بحقائب مهربة بعيداً من أعين الأمن، ويوزعها ضمن مؤتمر يجري في أحد المدن الصغيرة، ويضم نخباً من المفكرين الذين لديهم اتجاهات معارضة، لكنها معارضة ناعمة كما يطلق عليها، ودعاه إلى مقهى في وسط البلد.
حينما انضم إليه في المقهى، وجده جالساً مع بعض الكتاب المصريين، هذه المرة لم ينس تقديمه لهم بصفته ابن بلده المقيم في الخارج، وبدوره كان مسروراً حينما التقى الكاتب صاحب الرواية التي كانت سبباً في كل مطارداته غير المجدية، واعتبرها إشارة، ثم انسحبا إلى طاولة أخرى، أخذ يلح عليه صديقه الصحافي المتمرد لحضور المؤتمر، وكان رده ساخراً: أنت تجيد نصب الفخاخ، لكن يصعب عليك العثور على زميلة، ربما تكون كاتبة. لم يفوت الصحافي الفرصة ورد عليه: أنا أعمل من أجلك، أدعوك إلى المؤتمر لعلها تكون بين الحضور. ثم عاد لدور المحقق، وقال له: هل لديك ما نسيت إخباري به، وألحّ عليه أن يتذكر جيداً، بالنسبة إلى رجل يسافر ويتنقل، ويُعد دراسات وخططاً اقتصادية ويلقي محاضرات، ذاكرته منظمة لتخدم عمله، أول مرة يجد نفسه متورطاً بسرد قصته مرات ومرات لصديقه، وفجأة لاح له أهم ما جرى بينهما، حينما ناولته الكتاب مفتوحاً على الصفحة التي وصلت إليها أثناء القراءة، في تلك الأثناء امتدت يده إلى جيب بذلته، وسحب بطاقة تعريف شخصية، كتب عليها أرقام هواتفه الخاصة، وضعها بين طيات الصفحات وأغلق الكتاب، في حينها أعلن مكبر الصوت قيام رحلتها، كان صديقه يستمع منه لأول مرة لهذا التفصيل، هز رأسه وكتم سخرية حادة، ربما كانت تسبب حرجاً لشخص صديقه، فهو لم ينس أن يرويها بل تناسى عمداً، ولأنه يعني ببساطة عدم اهتمامها لإعادة التواصل معه، بينما هو يطاردها من مكان لآخر.
يبدو كأن القدر يعاند كل الأشياء التي يخطط لها مسبقاً، ولحدوثها كما يأمل لها، بل تنتهي بعض الأحيان بشكل يفاجئ الجميع، بعد يوم من بداية المؤتمر، ظهر مقال يحرض على الحضور ويتهمهم بالعمالة، كان يتصدر أحد صفحات الجرائد المحلية، بالنسبة للمشاركين اعتادوا ردات الفعل على نشاطاتهم، لكنه وهو الغائب عن البلاد، لا يريد أن ينتهي في معتقل، على رغم سعادته بمعرفة بعض الحاضرين وبوادر التمرد على الوضع السياسي، ونصحه لهم بأن يكونوا إصلاحيين وليس متمردين، وفضل المغادرة قبل أن تتطور الأمور نحو الأسوأ، مكتفياً بدعمه وتمويله السري لصديقه الصحافي المعارض.
كان في صالة الانتظار في مطار شرق البلاد، يفكّر برحلة طويلة تجبره على السفر باتجاه العاصمة والإقامة بفندق لليلة واحدة، وفي اليوم الثاني يغادر باتجاه دبي، جلس في الصالة محدقاً باتجاه بوابة الصعود إلى الطائرة، فوجئ بيد صديقه تربّت على كتفه ومعه حقيبة صغيرة، جلس في المقعد المجاور، وقبل أن يستفسر منه، تطوع بشرح الموقف، وأن عليه مرافقته في هذه الرحلة إلى العاصمة، وتوسل إليه الموافقة على زيارة فنان تشكيلي في مرسمه، بما أنه سيمضي ليلة قبل مغادرته البلاد.
شعر بأنه بدأ يتعرف إلى أشخاص لم يكن يعلم عنهم الكثير، لكن أغلبهم يدورون في فلك صديقه، معظمهم لم يكن النظام راضياً عنهم، كانا في طريقهما نحو المدينة القديمة، توقفا مقابل قوس ماركوس أوريليوس، كان الوقت قريباً من السادسة مساء، انعطفا نحو اليمين، وسارا باتجاه مدخل مبنى له بوابة واسعة، كانت هناك فسحة في الداخل، يقابلها مقهى صغير وحديقة صغيرة، وزعت على أرضها المعشبة الكراسي والطاولات عشوائياً، همس لصديقه ساخراً: هذا مقهى سري أيضاً؟ ضحكا وصعدا درجات سلم ضيق متجهين إلى مرسم الفنان، كان بانتظارهما، وقد أعد مائدة صغيرة عليها بعض المقبلات وكؤوس شراب، رحّب بهما، ومشى الفنان المضيف خطوات نحو ركن صغير، ليعد فنجان قهوة للضيف الذي لا يفضل تناول الكحول.
جلس على الكنبة في مواجهة نافذة تطل على الميناء، كانت جدران المحترف تزينها لوحات كثيرة بأحجام مختلفة، يتأمل اللوحات المعلقة، تذكر أنه سبق له أن شاهد بعضا منها في الصحف، الفنان معروف بأسلوبه السريالي، واحترافه للواقعية بكل أشكالها، إلى يمينه بورتريه بقلم الرصاص لشابة جميلة، فيما انشغل صديقه والفنان في حديث جانبي، اعتقد أنه غير معني به، قرر أن يقف ويشاهد اللوحات المعلقة على الجدار خلفه، استدار واقفاً كان في وقوفه يعطي بظهره للرجلين خلفه، فيما سمعا شهقة صدرت عنه، لم يتمكن من ضبط مشاعره، حينما وقع بصره على لوحة المرأة في الشرفة، ابتلع ريقه، حدق بلهفة، كانت اللوحة لسيدة تجلس في شرفة تتأمل البحر وجبالاً بعيدة في الأفق، سيدة مرتاحة في جلستها، ترفع ساقيها بشكل متصالب على السور المعدني المشغول بزخارف وفراغات لا تمنع من رؤية الشاطئ، توقف عند غموض تركه الرسام، محاولاً إخفاء أكبر قدر من ملامح الوجه، همس لنفسه، لكن نفس استرسال الشعر ولونه، حتى تشريح الجسد والانحناءة، كاد يصرخ من الدهشة، وهو يرمي ببصره إلى طاولة صغيرة في الركن تبعثرت فوقها أشياء كثيرة، لكن ما يهمه هو الرواية، امتدت يده تلتقطها، شعر بأن صديقه توقف عن الكلام مع الفنان فجأة، صمت في المكان، محاولاً التقاط انفاسه، وناظراً باتجاههما، كانا في الوقت عينه يحدقان في ملامحه، أشار بيده إلى اللوحة، وقبل أن ينطق بكلمة، سأله الرسام: نالت إعجابك؟ صديقه قاطع الحوار ملتفتاً إلى الفنان وسأله: متى وأين رسمتها؟
تناثر فيض القهوة على جوانب الموقد، أسرع وأطفأ الشعلة، وهو يجيب: هل تذكر يوم اتصلت بك أثناء مرضك المفاجئ في طنجة؟ في ذلك الوقت كنت هناك مدعواً لمهرجان أصيلة الفني، ضحك وتابع، ألهمتني صديقتنا المقتفية أثر جنون صديقتها الكاتبة، هذا العمل ورسمتها، ثم نظر الفنان إلى يد ضيفه القابضة على الرواية، وأكمل قصته: بالمناسبة أهدتني هذا الكتاب ولم يتسنَّ لي الوقت لقراءته. واقترب من الضيف، وضع فنجان قهوته على الطاولة مقابله، بينما صديقه الصحافي غارق في ضحكة قصيرة، ومشى نحوه، وهمس قائلاً: كنت أعلم أن كل الأشياء تناديك وتقترب منك لتعثر عليها.
أحس بيقين لا ريب فيه، بمكيدة صديقه العابث، ومحاولات تضليله مرة والإمساك بيده مرة أخرى، أخذ يقلب صفحات الرواية، لم يعثر على بطاقة تعريفه، تنفس عميقاً، على الرغم من أن يده التى تكاد تلامس أثرها، في كل مرة. يتلاشى كل شيء، ولطالما كانت كل الأشياء لديه أكبر من مشاعره، وحان الوقت ليعترف لنفسه وصديقه بها، اقترب منه، وأسر إليه: إذا أحببت أحداً، أقبل عليه بقوة، لا تدع الخيبة تنهي الأقدار بعدما وضعته في طريقك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية ليبية .. نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية 2020
روائية ليبية .. نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية 2020