الالتباس الفاجع بين المتحف الشعري لسعدي يوسف ويقينياته السياسية

سعدي يوسف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صلاح عبداللطيف

1ـ غابة بلاغية متخمة بفقه جمالي مبتكر

  صباح الخير يا حفيد امرئ القيس

  لا أدري لماذا سألوذ بالماضي ليكون شاهدا على الحاضر؟ ألأن الحاضر مشغول بتناكف خصماء الدهر، رغم أنهم في قلب الظلام، وأنا أعرف أن الرواية وصاحبها كونراد من نجوم حياتك. دعنا نتباسط يا سعدي كما فعلنا، يوم تعالت الشمس إلى نضجها في ذلك اليوم الشتائي مطلع العام 1972. أتذكر؟ كنا نجلس في أحد مقاهي أبي نؤاس، أنا وصديقي المترجم الجميل الراحل سعدي عبداللطيف، ونحن نقطر بثمالة حكايات عن الآمال الخادعة والأصدقاء الذين مضوا دون سبب وجيه، وبعضهم مؤمن بقوة اليأس، رغم العبء العراقي الذي يكسر ظهر فيل. كان سعدي عبداللطيف ينظر إلى ساعته بين الفينة والأخرى، وكنت مدركا أنه ينتظر غياب الشمس لنذهب معا إلى حديقة باره المفضل[ البحرين]. وبين الدقيقة والأخرى كان يسألني، كم الساعة، فكنت أقول له ساعتي لاتنفعك لأنها بتوقيت غرينتش.

  فجأة لكزني سعدي قائلا بصوت عال: أنظر من في الخارج! كنت أنت يا سعدي يوسف، وقد وصلت إلى بغداد من سيدي بلعباس الجزائرية أواخر العام 1971، نهض سعدي عبداللطيف إلى الشارع مسرعا، فقد فهمت منكما أن رابطة عائلية توشجكما، فأصول عائلة سعدي عبداللطيف من البصرة أيضا، ويبدو أنها قريبة من فرع عائلتك، لأنكما تبادلتما الأسئلة عن فلان وعلان من العائلتين، وظل سعدي عبداللطيف يخاطبك بحب شديد [ يا إبن عمي] .

  جلست معنا فقدمني سعدي عبداللطيف إليك، كنت أنت مضيئا، كامل الهدوء، بسمارك الجنوبي وعينيك الباسمتين، كأنك وعل خرج من أسطورة قديمة، ووجهك مخضب بحمرة الخجل. أنا يومذاك في مطلع العشرين من العمر، وسعدي عبداللطيف يكبرني بعام واحد، وقد درسنا نفس التخصص، اللغة الإنكليزية، ودخلنا معا إلى نفس التنظيم السياسي في مرحلة الثانوية، الشيوعية بفرعها الجيفاري القتالي، لكن سعدي عبداللطيف عاد إلى الحزب الأم، بعد أن ظهر المسؤول الأول للقيادة المركزية، وانتهى كل شيء، فيما واصل البعض العمل بعناد حماسي ومنهم أنا. في تلك الأيام صدر ديوانك الشعري الفارق[ نهايات الشمال الأفريقي ]، وكنت قد كتبت عنه قراءة في مجلة الموقف الأدبي السورية، مجلة اتحاد الكتاب السوريين، مشيدا بانقلابه على دواوينك الشعرية القديمة، التي قفت في أثر الشعر النضالي، وخصوصا عبدالوهاب البياتي. أتذكر الآن ياسعدي كيف جمعت شجاعتي ووجهي يتخضب بحمرة الخجل، فقلت لك مبروك يا أبا حيدرعلى ديوانك الجديد، فسألتني بين الدهشة والغبطة، وبتواضع مدهش: هل قرأته؟. ولحسن حظي أنقذني سعدي عبداللطيف سائلا إياك إن كنت قد قرأت مقالا عن الديوان بعنوان[ هل الشمال الأفريقي نهاية؟] فأجبته أنت، نعم ، فرد عليك سعدي عبداللطيف هذا هو صاحب المقال. في تلك اللحظات استفسرت مني عن مغزى العنوان، فأجبتك بحياء غامر، لأني أظن بأنك لن تبقى هنا. خشيت لحظتها كفتى غرحدث السن أن  تشدني من أذني قائلا، هذا أمر لا يجوز الخوض فيه من غير دراية، بل قلت لي بحدب الأخ الأكبر وتواضع مدهش، سنرى. ومنذاك، تأكدت أن ثمة تطابقا بين سعة الأفق وسعة الأخلاق، فأنت ربحتني بتواضعك وحدبك على ولد لا تعرفه، قارئا متابعا لما تكتب، وإنسانا اعتز بمروءة أخ أكبر منه رحب الصدر.

  التقينا بعد ذلك مرارا، وغفرت لي بعض زلاتي وما أبسطها، من فتى خنقته حماسته وتمرده على الظلم السياسي والإجتماعي وقرفه من شقاء الحياة و العالم. ولن أنسى أنك طلبت مني أن أكتب في الصفحة الثقافية لطريق الشعب، التي أصبحت أنت محررها، وعندما مانعت بسبب الحزب الذي يدير الجريدة، أقنعتني بأنني سأكتب في الصفحة الثقافية، ولن أشرب قطرة من كأس الحزب الذي تعود له الجريدة. وافقت بعد أن اعتاص علي القرار أول الأمر، ونشرت لي كل ما كتبته، بل أنك رعيتني وشجعتني على المزيد.

  كان صديقي الأعز إبن عمك سعدي عبداللطيف فرحا بما نشرته في صفحتك الثقافية، حتى أنه كان يهاتفني من سامراء، حيث عين في إحدى ثانوياتها مدرسا للغة الإنكليزية، ليناقشني حول كل مقال. وينبغي هنا أن أذكرك يا أبا حيدر بأنه كان واحدا ممن اهتم بباخاتين ونظرياته في الرواية والكتابة من العراق، لكنه لم يبدأ بالكتابة عنه والإشارة إليه إلا بعد انتقاله إلى لندن، بعد مرحلتي بيروت والجزائر. سعدي عبداللطيف هو نص حياتي رائع، لم يذكر يوما أحدا بسوء، لكن الحياة خذلته بألاعيبها، ولم يتماش مع حيلها، فظل بريئا كفتى لم يفقس من البيضة، نسيجا إنسانيا يشعر بأن وظيفته اصطياد الفرح لتقديمه لأصدقائه ومعارفه.

  بعد تخرجي من الجامعة، عينت في ضواحي مدينة حلبجة، مدرسا في مدينة سيد صادق، على بعد خطوات من الحدود الإيرانية، ثم نقلت بعد شهور إلى مدينة خانقين الكردية أيضا، مسقط رأس أمي المولودة هناك، قبل أن تنتقل إلى بغداد بعد زواجها من أبي. بعد عام دعيت إلى الخدمة العسكرية، فقضيت سنة كاملة، كأنني سمكة على وشك الإختناق في نهر جليدي. عدت بعد الخدمة العسكرية إلى نفس المدرسة في خانقين، وفي تلك السنة شعرت أن في أعماقي أعاصير جارفة، لأن روحي تشققت إلى نتف صغيرة. كانت القراءة والكتابة في مدينة خانقين هما ترياقي الروحي، فكنت أبعث لك من هناك مقالات أو أجلبها معي إلى بغداد في عطلي الأسبوعية، ولم أنقطع عن متابعة قصائدك ومقالاتك التي كنت تنشرها في أكثر من مكان، وخصوصا طريق الشعب.

  في خانقين انتبهت إلى أن قصيدتك الجديدة تخلصت إلى حد كبير من الاختزالات السياسية السهلة، وأن معجمك الجمالي صار أكثر ثراء، وأنك صرت تلاعب اللغة بمهارة نادرة، سالكا في دهاليزها العميقة، لتطلع على محبيك بشذرات خاطفة، فصرت نبتة خضراء تطل على رأس جيل تال للرواد، كان من أصواته محمود البريكان، يوسف الصائغ، وصلاح نيازي، وعبدالرزاق عبدالواحد، ورشدي العامل، ومحمد سعيد الصكار. أصبحت قصيدتك تردم بلا حذر المسافة بين الشعري والنثري، في ذهابها إلى اليومي والمألوف وتزويجهما شعريا برهافة العناية البليغة بالحواس. ورغم كل ذلك لم تتخل عن الإيقاع وأنت تشحن في قصائدك بعض المشاهد شبه الفوتوغرافية، خصوصا في ديوانك اللاحق [ الأخضر بن يوسف ومشاغله ]. كل ذلك كان من حسن حظ الشعر العراقي والعربي كما أظن، بسبب التوازن الذي نشأ بين صخب بعض الأصوات الستينينة وبين قصيدتك التي أشارت إلى ضرورة التخفف من الرطانات، التي لا يحتاجها شاعر مجيد من طرازك. وكم لفتني في قصائدك وبعض مقالاتك، تطويعك للمعجم بخصوبة تنم عن معرفة عميقة وموهبة نادرة. كانت بعض قصائدك ناعمة الملمس شوكية الحواف، كعصفور يختبئ بين الأشواك كي يفلت من بنادق الصيادين.

  في العام 1974، دعيت إلى خدمة الإحتياط بسبب الحرب التي هيأها صدام حسين للشعب الكوردي، بعد الفشل النهائي لاتفاقية آذار/ مارس 1970. عدت إلى بغداد، ولم ألتحق بتلك الخدمة العسكرية، فصرت محسوبا على الفارين من خدمة الوطن، وعقوبة ذلك الفرار كان الحكم بالموت كما تعلم. تخفيت في بغداد في أماكن متعددة، أغلبها في شقة زميل لي في الدراسة الجامعية، وتدبر لي صديق آخر هوية مزورة من معمل البيرة، الذي كان يعمل فيه بأسم [ ماهر مجيد الحديثي ] ، فاستطعت التحرك بحرية نسبية، حتى خروجي الأخير من العراق في 1/7/1975.

  في تلك الفترة، أخبرني الصديق العزيز الشاعر عبدالرحمن طهمازي، بأن الثقافة الجديدة تنوي اصدار ملحق شعري على شكل كراس، وأنه اقترح أسمي عليك، فوافقت أنت على الفور. كانت اللجنة تتكون من الشاعر فاضل العزاوي، الشاعر والفنان صادق الصائغ، الشاعر عبدالرحمن طهمازي، وأنت وأنا. كنت الأصغر عمرا بينكم، نافرا، أعرف ذلك، قلقا، أعرف ذلك أيضا، فلا الأمكنة أمكنتي، ولا الناس أهلي، ولا ذلك الجحيم وطني. ومع ذلك كتبت مساهمتي في الكراس الذي ظهر بعد خروجي من العراق، وأرسله لي أحد الأصدقاء مشكورا إلى الجزائر حيث أقمت أول الأمر. لم أخبرك يومها باشكاليات وضعي القانوني تفاديا للإحراج، حتى صديقى الأقرب إلى قلبي عبدالرحمن طهمازي، لكني خمنت بأنه قد سمع بطريقة ما. اجتمعنا في شقة فاضل العزاوي لمناقشة القصائد، بعد أن أخذتنا أنت بسيارتك الرونو السوداء، التي أظن أنك جلبتها معك من الجزائر، وكانت أمسية رائعة، قدم لنا فيها الشاعر فاضل العزاوي، وزوجته الكريمة القاصة سالمة صالح شواء، مازلت حتى اليوم مأخوذا بطعمه.

  بعد أشهر قليلة، تدبرت على جواز سفر جديدا، بأسم عائلي آخر لا زال يلازمني حتى اليوم. أما قصة تدبير جواز السفر فهي طويلة ولا محل لشرحها هنا. شعرت بأن الضيق قد رفع عني، وأن أيام الفواجع والمواجع قد انتهت. لكنها كانت بالنسبة لعائلتي أعراسا مرة، فأبواي كانا يتمنيان أن أخرج من العراق لتفادي موت مؤكد، لكن أمي كانت تعتبرني قلادة حياتها، الولد المدلل المفجوع في مدن الألم والنشيج، والذي سيهرب في ليل بهيم إلى اللامعلوم. لكنها بعد مفاوضات شاقة، استخرجت كامل شجاعتها الجبلية، وسحبت من جورب قطني حرزا أو بازبند كما كانت تسميه، ثم قالت بعناد مصدره جيناتها الكوردية [ لن أعاند الله في قدره ] . ثم أردفت بحنان أمومي، ولكن حافظ على هذا البازبند أيها الأحمق، فسوف يحميك من الأشرار. كانت قد ورثت ذلك الحرز من أبيها الشيخ المتصوف عبدالكريم القره داغي، بأعتبارها أبنته الكبرى. أما أبي العربي، فكان صامتا طوال الوقت في تلك الحديقة العامة الواسعة، محاذرا من لدغة الأمل الجريح كعادته، ولم أره بعد ذلك، فقد توفي في عمر مبكر في العام 1978، أثناء إقامتي في المغرب قبل محطتي الألمانية.

  أعود إليك يا حفيد أمرئ القيس، كنت أنت الشخص الوحيد الذي ودعته قبل خروجي بيوم. توجهت إلى مكتبك في وزارة الري، كنت تجلس وحيدا في غرفة كئيبة لا يحسد عليها أحد، تكتب وكأنك تريد أن تتحرر من ثقل تلك اللحظات الوظيفية، وحياتك المفقودة بين تلك الجدران الأربعة. استقبلتني بفرح، وقلت لك بعجالة سأسافر يا أبا حيدر، لم تسألني إلى أين، بل قلت لي برقتك المعهودة وأنت تغمض عينيك متلذذا: بالتوفيق والسلامة.

  بعد رحلة شائكة عبر سوريا ثم تركيا ثم اليونان فمصر وليبيا، وصلت إلى الجزائر، وجدت فيها عملا في التعليم الثانوي في مدينة سكيكدا، في شرق الجزائر. عثرت على الطمأنينة والأمان هناك، حياة جديدة لشاب في الخامسة والعشرين، يتلمس بصعوبة دربه الجديد. كانت حساسية البلاد الجديدة مختلفة، لا وجود للكتاب العربي، وانتساب شعبي عميق للأصالة بسبب جروح سنوات القتال ضد الفرنسيين، المدرس مثلي ينادى عليه من قبل الطالبات [ كانت ثانوية للبنات فقط ] والإدارة بالشيخ، حتى إن كان مدرسا للغة النصارى، باستثناء المتفرنسات جدا، فقد كن يجازفن بمناداتي بمسيو. وجدت نفسي في فضاء مختلف تماما عن الشرق الذي زرت قبل ذلك أكثر بلدانه. حاولت ترتيب الأشياء في حياتي الجديدة، فبدأت بمحاولة تعلم الفرنسية بظمأ إلى نوع من الكمال اللغوي، فقد كانت اللغة الثانية التي اخترتها في دراستي الجامعية هي الألمانية، على عكس الكثير من زملائي يومذاك، الذين اختاروا الفرنسية كلغة ثانية، لأن فصول الفرنسية كانت مليئة بالفتيات الجميلات. عقدت صفقة مع مدرس الفرنسية في ثانويتنا، فرانز الكندي من كيبيك، بتعليمي الفرنسية مقابل تقوية إنكليزيته التي عانى من ضعفها، وبعد ستة شهور وجدت نفسي أدبر نفسي في الأسواق مع بعض البائعين الذين لا يعرفون أو لا يريدون أن يتكلموا العربية. فأرض الجزائر كانت رجراجة زلقة، بين قلة من المعربين، وهم على الأغلب من ذوي التوجهات الإسلامية، ومفرنسين روحا ولغة، رغم أن بعضهم من بيروقرطيي حزب جبهة التحرير، الحزب الواحد الأوحد الماسك برقبة البلاد يومذاك، والمتشبث بالنهج السوفيتي ولكن بشوق فصيح للحياة الفرنسية بملابسها وبضائعها وثقافتها. كنت أسافر في العطل الصيفية إلى فرنسا، وفي عطلتي الربيع والخريف إلى المغرب ومليلية الإسبانية، فكانت طلبات الأصدقاء الجزائريين، السراويل الجينز والملابس والأحذية، فالشعب الجزائري يحب الأناقة، والفرد مستعد لدفع ثلثي راتبه الشهري كي يظهر أنيقا بين الناس. وربما كانت هذه النقطة إحدي مشكلاتهم مع المدرسين المشارقة، الذين يمضون أربع سنوات عمل تقتيرية [ هي مدة العقود الرسمية التي عقدتها الجزائر مع مصر وسوريا والعراق، أثناء سنوات التعريب، وقد تمدد لسنة واحدة في أقصى الحالات، أما العقود الخاصة مثل حالتك وحالتي يا أبا حيدر، فذاك شأن آخر، أليس كذلك ! ] ليعودوا إلى بلدانهم بكميات وافية من الفرنكات الفرنسية، عملا بالمثل القائل [ عندما تعود إلى بلدك، لن يسألك الناس ماذا أكلت ولبست هناك، بل بماذا أتيت معك ] . لذلك كان الجزائريون يتضايقون من إهمال المشارقة لثقافة الأناقة في عملهم وحياتهم العامة.

  صارت أيامي الجزائرية الأولى بجدتها وفرحها نوعا من العدالة التي اقتصت من أيام العراق الصعبة، ظللت أتابع ما تكتبه أيام عطلاتي الصيفية في فرنسا بما يصل إلى من بعض الأصدقاء. وبدأت الأعداد الأولى من أصدقائنا الذين توهموا حرية كاذبة أيام الجبهة الوطنية، تصل إلى فرنسا وتحدثنا عن حملات الاعتقال والإنهيار المؤكد لتلك الزيجة. فالبعث بعد أن فاضت موارده المالية بعد الفورة البترولية، لم يعد بحاجة إلى من يزكيه في ما سمى بالبلدان الإشتراكية، لأن الدولار تكفل بوظائف مركبة، فهو يزكي ويجعل العيون تغض بصرها عن تكميم الأفواه والظلم، بل أن له القدرة على إحلال قيم المنفعة، لدرجة أن مناضلين من أرجاء البلدان العربية، اندفعوا في مديح نظام البعث العراقي، وحادي ركب الموت فيه، صدام حسين، بركاكة يتجاوز منسوبها سقف الخيال.

  لذلك اندفعت من باريس في العام 1977 ثلة من أصحاب الأحلام المغدورة، تشكلت من الأصدقاء عبدالحسين الهنداوي، جبار ياسين، فاضل عباس هادي، حاجي دهقاني، الراحل عامر العاني، لإصدار مجلة أدبية فكرية بأسم أصوات، صدر عددها الأول بامكانيات متواضعة من باريس صيف ذلك العام. كانت تلك المجلة مغامرة نبيلة، سمت نظام البعث في دراسة للصديق العزيز حاجي دهقاني بالفاشي، في الوقت الذي كان المحفل الذي مازلت تدور في غرفه يا أبا حيدر يستثقل ذلك التوصيف، بل يتردد في تسمية النظام بالدكتاتوري حتى العام 1979، بعد القطيعة شبه التامة. في ذلك العدد الأول نشرت قصيدة بأسم يوسف عبداللطيف. ومن باب الأمانة، فأن محرك تلك المجلة والناشط في طباعتها وتوزيعها، كان الصديق عبدالحسين الهنداوي، دكتور الفلسفة الهيغلية لاحقا من جامعة بواتيه الفرنسية. واصل الهنداوي اصدار المجلة لوحده كما أظن حتى مطلع الثمانينات، لحين توقفها بعد ذلك.

  انغمرت أنت في العمل الفلسطيني اللبناني تلك الأيام، وكان الكثير من الكتاب والمثقفين العراقيين يحملون أسمك أينما حلوا، خصوصا أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا الغربية مبكرا، إذ كانوا يشعرون بنقصان هوية الشعر العراقي دون ذكر منجزك الشعري، رغم التباعد والتنادد. ولم تتح لي فرصة اللقاء بك ثانية إلا في العام 1991. فقد هاتفني في صيف ذلك العام الأستاذ مفيد الجزائري من براغ، الذي لم أره أو أعرفه سابقا، موجها لي دعوة لحضور احتفالية ثقافية عراقية في برلين، وعندما سألته عن الحضور، أخبرني بأنك ستكون موجودا. ويبدو أن الشاعر خالد المعالي، جاري في مدينة كولونيا يومذاك تلقى نفس الدعوة، وكذلك المترجم والروائي الراحل حسين الموزاني، الذي كان يقيم يومها في مدينة مونستر الألمانية. اتفقنا نحن الثلاثة على السفر إلى برلين بسيارتي. كان يوما صيفيا ثملا بحرارته غيرالمعهودة تلك السنوات في ألمانيا، فجاء الموزاني يضع فوطة مبللة فوق رقبته، كأنه متجه إلى جبهات القتال.

  دخلنا إلى قاعة اللقاء، فرأينا العديد من الأصدقاء القادمين من لندن ومن مناطق العالم الأخرى. لكن المفاجأة الأولى كانت دخول سركون بولص، والذي لم نره من قبل إلا على صفحات الجرائد. ضغط الموزاني على رسغي، ثم همس في أذني: أنظر سركون بولص. نفخت كل شئ كان مكتوما في صدري، فخرجت كلماتي في شكل تنهيدة طويلة لم أكن قادرا على كتمها: [ أخيرا آلام بودلير وصلت ] وهي قصيدته التي نشرها في الستينيات في مجلة شعر اللبنانية، والتي أثرت في جيلنا تأثيرا فاصلا. وبنبرته الموغلة في التهذيب ووجهه المثقل بالفرح، استطاب سركون بولص تلك الملاحظة، وظل واقفا بيننا يسأل ويدردش، وكان خامسنا كما أتذكر الشاعر والمترجم المتميز كاظم جهاد.

  بعد قليل وصلت أنت يا حفيد إمرئ القيس، لم تتغير كثيرا، سلمت بحميمية ولكن بصوت مخدوش قائلا لي: [عاش من شافك ]. كم فرحت برؤيتك من جديد، وبسعادة تلك الصدفة، ثم سألتك محاولا مسايرتك ولكن بذهول فاضح [ بشر، شلونك] ، فرددت والجملة لا تزال راسخة في عقلي [ كنت مرشحا للموت في العديد من المرات، لكنه أخطأني كي أراكم ] .

  بعد بعض القراءات الشعرية، اقترحت علينا أنا والمعالي أن نخرج إلى المدينة. تجولنا ثلاثتنا بسيارتي ثم اخترنا حانة جميلة، واقترحت عليك شرب  Weizenbier، بسبب ضخامة الكأس الذي توضع فيه. جاء النادل بالكأس، فأعربت عن إعجابك المبالغ به، وقلت معلقا [ هذا قبس للمخيلة ] . وبعد ذلك لا أعرف ما الذي حصل، لكني أظن أني أوصلتك إلى شقة أبنتيك في الجزء الشرقي من برلين، ويومها لم يعد هناك ما يفصل بين برلين الشرقية والغربية بعد الوحدة الألمانية.

  في حزيران/ يونيو من العام 1992، صدر لك عن دار الجمل ديوان ” قصائد باريس شجر ايثاكا “، نشرت عنه مراجعة بتاريخ 22 يونيو- حزيران من نفس العام، في القدس العربي، التي كان يشرف على صفحتها الثقافية الشاعر الراحل أمجد ناصر بعنوان [ كيف تأتي الأغنية؟ ]. ومما جاء في تلك القراءة لديوانك، ” قبل حوالي عشرين عاما، حينما صدر ديوان سعدي يوسف، نهايات الشمال الأفريقي، توقع بعض النقاد أن سعدي يوسف يودع بذلك الديوان غربته الثانية، فقد كان الخصام الفكري آنذاك مشتعلا بين من بالغوا بأن العراق مقبل على تحولات تتسع لجميع أبنائه، وبين من توجسوا نذر شؤم كانت مقدماتها تلوح في الأفق. غير أن الأحداث اللاحقة، قالت كلمتها لصالح الأخيرين، فقد اضطر العشرات من الكتاب والمثقفين العراقيين، في نهاية السبعينيات لمغادرة بلدهم، ومنهم العديد من ممثلي الاتجاه الأول، دون أن يتصور أحدهم أن غربته ستمتد إلى يومنا هذا “.

” وسلاما أيها البيت الذي ضاق بنا

حتى انفجر”

وأضفت في نفس المقالة ” تلجأ قصيدة سعدي إلى لغة إشارية بسيطة موحية، وهي ضد البذخ في الوصف أو البناء، لذلك تتوسل المرئيات فتظهرها، وتجوب بحثا عن الحياة فتتجذر فيها ” .

 

2- أهاج وشتائم وخرافة الشيوعي الأخير

  قبل كل شيء يجب الإشارة إلى موهبتك النادرة، وزخرفتك لروح القصيدة العربية في دربك الكتابي الطويل، بنزعتك التجريبية الجريئة وأناقة عبارتك الإرستقراطية مرة والكلاسيكية مرة أخرى، فضلا عن قلبك الطري، وهي أشياء قربتك من الأجيال اللاحقة شعرا وحياة، وجعلت فريقا منهم يعتبرك جزءا أساسيا من مكتبته الشعرية والثقافية.

  ولملاحقة تطورك الحياتي القاسي بعد ذلك، ربما من النافع هنا إضاءة بعض العوامل النفسية، التي أحاطت بطفولتك المبكرة، والتي قد تضيء نواح من سيرتك الحياتية والشعرية اللاحقة. فقد ولدت في قرية حمدان التابعة لقضاء أبي الخصيب في البصرة في العام 1934. وكان فقدان الوالد المبكر في طفولتك، دافعا لتعهد شقيقك يعقوب بك، ورويت أنك في فتوتك صرت تقرأ امرؤ القيس، وقد أعجبت بصورته الجميلة المتخيلة ومغامراته ويسره حتى في لغته، ثم تعرفت على علي محمود طه، وإلياس أبي شبكة، فأدهشك ديوانه أفاعي الفردوس، لكن النقلة الكيانية والشعرية كانت مع ديوان محمود حسن إسماعيل [ أين المفر]، الذي جعلك لسنوات طويلة في شبابك تردد بيته الأثير على قلبك [ ألقيتني في شباك العذاب.. وقلت لي غن ]. ويبدو أن جروحك النفسية جعلتك تردد مرارا في فتوتك [ أليست إقامة البشر على هذه الأرض ضربا من اللامعنى؟ ] . وهي جملة وردت على لسانك في الملف الذي أعده من القاهرة الأستاذ محمد شعير، في سبعينيتك.

  ورغم خضرة قريتك حمدان ومحيطها في أبي الخصيب، وكثرة غابات النخيل والجداول المائية، وطلاقة الحياة وبساطتها يومذاك، ورغم أن قراءاتك الأولى تمت في المسجد وفي التكية النقشبندية، فأنك انتسبت مبكرا إلى الحزب الشيوعي في عمر الخامسة عشرة. وهو أمر يمكن فهمه في بلدان لم توفر لشبابها منافذ لتصريف طاقاتها الجامحة في تلك المرحلة الحياتية، وقد مررنا جميعا بما مررت به، فقد قفزنا إلى قارب اليسار أو الشيوعية، ظنا بأنه سينقلنا إلى ضفة سنرى فيها نور أحلامنا الثورية الرومانتيكية، رغم أن ذلك الوهم كلف الكثير من الشباب سنوات من السجون في أحسن الأحوال، إن لم يكلفهم حياتهم.

  بعد اتمام دراستك الثانوية، انتقلت إلى بغداد لتدرس الأدب العربي في دار المعلمين العالية، التي تحولت إلى كلية الأداب في ما بعد. وبعد التخرج في العام 1957 سافرت إلى الكويت لتعمل معلما هناك. ثم عدت إلى العراق بعد انتهاء الحكم الملكي، واعتقلت للمرة الأولى في زمن عبدالكريم قاسم، بسبب اشتراكك في تظاهرة صاغ شعاراتها الحزب الشيوعي العراقي، تدعو لإيقاف الحرب في كوردستان [ السلم في كردستان، يا شعب طفي النيران ]. ثم اعتقلت ثانية بعد مجيء حزب البعث في انقلابه الأول في العام 1963، وأودعت في سجن نقرة السلمان الصحراوي، على الحدود العراقية السعودية، عند بادية السماوة التي قتل فيها أبو الطيب المتنبي، ثم نقلت إلى سجن بعقوبة، ليطلق سراحك ليلة انقلاب عبدالسلام عارف على البعثيين في 18 نوفمبر-تشرين الثاني1963. وذكرت في إحدى الشهادات، أن علي صالح السعدي القيادي البعثي ونائب رئيس الوزراء، سأل صديقك الشاعر حسين مردان إن كان هناك شعراء لا يزالون سجناء، فذكر له مردان أسمك، فأرسل السعدي برقية إلى سجن بعقوبة تطلب بإطلاق سراحك فورا. وأضفت أنك لم تنس جميل السعدي، فحضرت في دمشق مجلس العزاء الذي أقيم له بعد وفاته مغضوبا عليه من صدام حسين.

  كنت في دواوينك الأولى، القرصان وهي قصيدة عمودية طويلة، ومجاميعك الأخرى التي سبقت نهايات الشمال الأفريقي، شاعرا يسير على نفس الدرب الذي فتحه عبدالوهاب البياتي، تحمل راية اليسار الشيوعي في المبدأ والمنطلق، فمفرداتك وصورك وموسيقاك ازدحمت بغنائية تغادرك مرارا لصالح التأليب والتحشيد. وقد ظلت قصيدتك في مراحلك الأولى، وفي سنواتك الأخيرة، باستثناء مرحلتك الوسطى في نهايات الشمال الأفريقي والأخضر بن يوسف معبأة باستثارة حماس المتلقي وتأليبه على الأعداء، من [خونة ومستعمرين وباعة للأوطان] . لذلك يعجب بعض متابعيك من المهتمين بالشعر، بمزاجك الكتابي المشبع بالتوبيخ الجارف دون تردد، وأنت الكائن الواهن الرقيق في جلساتك الخاصة.

  أعود إلى بعض ذكرياتي، ففي العام 1994، اتفقت مع والدتي أن نلتقي في عمان بعد فراق قرابة العشرين عاما. كان في زيارتي في ألمانيا الصديق الشاعر العماني الراحل محمد الحارثي. أخبرته بقراري بالسفر إلى الأردن، فاقترح مصاحبتي إلى هناك، خصوصا أن أخاه سعيد الحارثي يدرس في عمان. وصلنا إلى عمان والتقيت بوالدتي، التي أصبحت حاجة لا تقوى على المشي، لكنها ظلت محافظة على سطوتها وقوتها وبياضها الجبلي، رغم كل متاعبها الروحية بعد وفاة أبي. كانت تحب أبي حبا حقيقيا، لأني لم أسمعه يوما وقد رفع صوته عليها أو علينا. ترك كل أمور البيت في حياته لها، لذلك تحملت فوضاه الحياتية، وظلت تنهرنا في مرحلة الفتوة، عندما ننتقده أمامها على بعثرته العمياء لأمواله. ومن الأشياء التي لن أنساها، أن والدتي قررت شراء دار في العام 1966، فأرادت أن تخبره بالأمر. ولما أخبرته بالأمر قال لها : ومن أين لي بهذا المبلغ؟ فأجابت مبتسمة : موجود. كان يعطيها كل ما يفيض عن حاجته، قائلا لها : اشتري بها أشياء لك وللأولاد. لكنها بغريزتها الأنثوية وبشعارها الخالد [ الفلس الأبيض ينفع لليوم الأسود]، كانت تخزن الدنانير في دولاب ملابسها، حتى جمعت مبلغا اشترت به منزلا عامرا من ثلاثة طوابق.

  استأجرت لها في عمان سيارة يقودها زوج أختي، الذي دار بنا كل عمان والمناطق السياحية هناك. وعندما تنتهي تلك الجولات، استأذنها كما لم أكن أفعل عندما كنت في بغداد، فتسألني متى تعود، فأقول لها ليس قبل منتصف الليل، وأنا أعرف أنها لن تنام قبل أن أدخل الدار، فقد وضعت فراشها قرب فراشي في غرفة واحدة، أما الغرفة الأخرى فكانت لأختي وزوجها وأولادها الأثنين. وعندما أعود فأنها تفتح كيسها البلاستيكي، كي تلفت نظري بخشخشته، ثم تسحب أدويتها المتنوعة، وتبدأ بالحديث عن لوعتها مع أطباء العراق أيام الحصار، وأنا أصغي لها. كنت أقول لها [ ماما، تعالي إلى ألمانيا للعلاج وسأعيدك إلى بغداد كما تعرف عليك عبداللطيف] . كانت تجد مختلف الأعذار كي لا تغيب عن منزلها كثيرا، منها مثلا [ لا، لقد كثر اللصوص في بغداد ]، مع أني أعلم أنها أسكنت في الدار أثناء غيابها عائلة من أقاربنا. وقد أخبرني أحد أخوتي، أنهم نزحوا إلى مدينة خانقين أثناء القصف الأمريكي لبغداد في العام 1991، بسب بعد خانقين عن بغداد. وأضاف قائلا، أنها كانت في ذروة قصف بغداد، تسألهم كل ساعة، متى نعود إلى بغداد ؟ كانت مداميكها مغروزة في مدينة بغداد، التي قضت فيها أجمل سنوات حياتها، حتى وفاتها في العام 2006.

  التقيت في عمان بالشاعر عبدالوهاب لبياتي، ومعه شلة من الشعراء والكتاب الذين هربوا إلى بغداد بعد حرب الخليج الثانية. كان البياتي في غاية اللطف والكرم معنا، الحارثي وأنا. ولما سألته عنك، قال لي بكل أدب أنك مسافر إلى الشام. ومن الأصدقاء الأخرين فهمت أن أبا علي حزين لأنك اتهمته، بأن عدي صدام حسين كلفه بضبط تحركات الأدباء، الذين فروا إلى عمان، بعد حرب الخليج الثانية، ابتداء من 1991. وهي فرية لا يستحقها الشاعر البياتي، الذي طبع لمجموعة من الشعراء في تلك الأيام من أمواله الخاصة دواينهم الشعرية بعد نيله لجائزة العويس. كما أنه ساهم في تسريع عمليات لجوء الكثير من الشعراء والكتاب إلى البلدان الأوربية، نتيجة ثقله الإعتباري وكلمته المسموعة عند مكتب الأمم المتحدة للاجئين في عمان. وطوال الاسبوعين الذين قضيتها مع البياتي، حيث كنت ألتقيه كل ليلة، لم يتعرض لك بأي سوء، إذ كان منصرفا في تلك الأيام لكتابة قصائده الصوفية، التي أسمعنا بعضها في لحظات صفائه، مبتعدا عن قصائد الأهواء السياسية، التي كرس أغلب حياته الشعرية السابقة لها. لاحظت في ساعات الليل المتأخرة، أن روح البياتي أصبحت مثل غصن خريفي ينتظر السقوط، وهذا ما حصل له بعد خمسة أعوام في دمشق، فرحل مرفوع الرأس، ملتصقا بجوهر الشعر والحياة، متجاهلا قانون السن البغيض في يومياته، رافضا أن ينحني لعالم قاس لا يرحم.

  ويبدو أن ملامح بعض العصاب الإجتماعي، وسلسلة الشائنات، المستور منها والعلني، بدأت تظهر عندك منذ أيام بيروت، بعد خروجك من العراق في العام 1979. ففي مقالة بتاريخ 21 حزيران/ يونيو من هذا العام 2021، كتب المخرج السينمائي العراقي قاسم حول في صحيفة العالم الجديد [ ذات ليلة من ليالي بيروت، جاءني في ساعة متأخرة من الليل الشاعر سعدي يوسف، وهو مدمى الجبين…. ينزف منه الدم مع أورام في عينيه… وقال لي لقد ضربني الشاعر فلان، ويصعب علي الذهاب لمنزلي…. سأقضي الليلة عندك… مسح بقايا الدم عن جبينه وخديه ونام ].

  وقد حدثني الصحفي والشاعر الراحل شريف الربيعي في لندن، أنه حينما كان يعمل في قبرص صحفيا، كانت تأتيه من العراق مجلة الأقلام الأدبية العراقية [ كما كانت تأتينا نحن أيضا في ألمانيا، أيام كان الناقد حاتم الصكر سكرتيرا لتحريرها، وكنا ممتنين له، لأنه أتاح لنا الاطلاع على المشهد الثقافي العراقي أيام الحصار والعسف]. واصل الربيعي حديثه بطريقته الكوميدية لمن يعرفه. فقال أنه في جلسة كنت أنت حاضرا فيها، أخبر الربيعي الجميع فرحا بالأمر، وعرض المجلة على من يريد الاطلاع عليها بعده. ثم واصل الربيعي قائلا، فوجئت بأن سعدي يوسف قال فورا : من يقرأ هذه المجلة فأنه من عملاء صدام. واصل الربيعي قائلا، حاولت تطييب خاطر سعدي يوسف بطريقتي الرخوة المائعة، لكنه أصرعلى سيول عباراته الإرشادية العلاجية المتدفقة بتلذذ شرير، مما اضطرني لأن أقلب الطاولة بما فيها من جهة سعدي يوسف.

  وشخصيا أصدق، أيها الأخ الأكبر، رواية الراحل شريف الربيعي، لأنها تفسر ينابيع وجذور محاولاتك لإعادة ضبط الصحة السياسية والنفسية لعشرات من معارفك السابقين، وتصنيفاتك لدول وتجمعات بين منيعة أو منحطة، بعد أن تكفلت بالجهاد اللفظي ضد كل أشكال خلخلة العالم الذي توهمته مثاليا، وتحصنت خلف استعلاء [ الشيوعي الأخير]، وهي عبارة نرجسية غير منزهة من تبخيس الآخر، إضافة لزيفها الفعلي، لأن ممارساتك وحياتك لا توحي بذلك، أو بعبارة أهذب لأن العبارة تشبه منوما يقرب خضوعك الإنبهاري بالذات، ويخفف عنك الشعور الجواني بالذنب. وسأورد بعض الأمثلة المؤلمة الجارحة، على صعيد علاقاتك الخاصة، أو تصوراتك لما دار في العالم، منذ وصولك إلى لندن وحتى مغادرتك لهذه الدنيا.

1_ بعد وصولك إلى لندن مباشرة، تطوعت لنهش الكثير من أصدقائك السابقين، بطريقة معتمة غير متزنة، بمقالات ذات بعد تسطيحي تدميري، لا تليق بك أولا، بل أنها لا تستحق التفنيد والدحض، لآنها دعائية رخيصة، سريعة العطب أمام الحقيقة. وأسماء ضحاياك كثيرة ومعروفة، وصلت أحيانا إلى حد الغلو في الكراهية، حتى سميت الصحفي الراحل فائق بطي بالمقبور بعد رحيله عن الدنيا، والقيادي الشيوعي الراحل رحيم عجينه بنفس الصفة بعد وفاته. كيف طاوعك قلمك على استخدام مثل هذه العبارة السياسية- الدينية المقرفة، التي تحاشاها حتى بعض عقلاء التكفير ضد خصومهم.

2_ اختلفت مع الشاعر الراحل محمد الحارثي وأخيه محمد، بسبب صديقتك البريطانية، التي زعمت أنها اختطفت من الإثنين، أثناء زيارتكما لسلطنة عمان. وبصرف النظر عن تفصيلات الأمر، الذي سمعت عنه روايات متضاربة، فأنك بعد تلك المشكلة، كتبت قصيدة استثقلها أغلب من عرف أهل تلك البلاد، بطيبتهم وكرمهم وتسامحهم، البلاد التي استضافتك منذ الثمانينات مرات ومرات. أما شعراء الحداثة العمانية دون استثاء، ومن جاء بعدهم، فكانوا، وأظن لا زالوا يعتبروك في صدارة المشهد الشعري العربي، بل أيقونتهم. وهذا ما جاء في القصيدة :

إذا أتيت عُمانا أو سكنت بها يومين

فالشر في المأتي وفي السكن

قوم بلا ذمة، لا شأن يؤنسهم

إلا حديث عن الأسلاب والهجن

  لقد كنت مدعوا في العام 2004 إلى مهرجان عن القصة في عُمان، ورغم أني درت الكثير من بلدان العالم، فأنني لن أنسى ذلك البلد الكريم، الذي يأخذ زائريه من كل الأصناف بالقوة إلى الأحضان، حتى أنني لم أستطع حتى الآن ترويض حنيني إليها.

3_ عندما اندلعت الثورة السورية بعد سنوات القهر الأسدي، كتبت عن ثوار حمص [ مرتزقة فرنسيون أرسلهم ساركوزي إلى حمص ]. يا للفجاجة، قل لي، أيها الأخ الكبير، من نم لك بخبر رخيص كهذا. شباب خرجوا بصدور عارية للمطالبة بحقوق بسيطة تمتعت أنت في أيامك الشامية بأضعافها. وما ينسف دعواك تلك حول عمالة أولئك الشباب، ما أوردته في حوار حول أسباب طلبك للجوء في بريطانيا ما يلي :[ كان من المقرر أن أشارك في أحد الاحتفالات الثقافية في دمشق، وكنت قادما من عمان… وأثناء دخولي تم ايقاف الأتوبيس، وتم تفتيشه وتم توقيف عاملين أردنيين كانا معي ومنعا من الدخول. اعترضت يومها بشدة وقررت العودة من حيث أتيت، معتبرا أن عبوري وحدي نوع من الخيانة لأفكاري. ولم تمض أسابيع قليلة حتى طلبت اللجوء السياسي إلى لندن…] .

4- في صيف 2015، هاجم داعشي فندقا في مدينة سوسة التونسية، قتل فيها 38 سائحا أجنبيا، بينهم 30 بريطانيا. وقد كتبت مبررا، بأن الشاب قام بفعلته بسبب ضيق صدر الشاب من تهميش التوانسة، وعدم السماح لهم بزيارة مثل تلك الفنادق. وكم أسقمني تصنيفك وتبوبيك للحادثة بتلك الطريقة، رغم سقوط ذلك العدد الكبير من الضحايا الأبرياء، الذين حصلوا على عقد أمان، حينما دخلوا البلاد بتلك الصورة القانونية، أيها الشاعر الكبير. مثل منهجك التبريري يقدم خدمات مجانية جليلة للإرهاب في بلداننا، المنكوبة بالغزاة والطغاة والغلاة، هذا ناهيك عن أن دعواك باطلة، لأن كل تونسي كما رأيت في زياراتي المتكررة لتونس، يستطيع أن يسكن في تلك الفنادق إن كان ميسور الحال، ويستطيع أن يتناول قهوته أو يتعشى إن كان من متوسطي الحال.

5- أما بالنسبة للعراق، فقد فقدت الاتزان اللازم للأسف، ولم تتريث قبل نشر شتائمك التي لا تحصى، والتي تغذت من وقود الغرائز والعواطف واللاعقل، ضد كل من تصورته ضمن تخيل هوسي عدوا. سأسهل عليك الأمر يا سيدي، العراق محتل بعد 2003، نعم قاطعة جازمة. المليشيات المسلحة تعبث بأمن البلاد بل تحكمها، نعم أيضا. أنا قلت جميع المليشيات، أجزاء كبيرة من الحشد الشعبي، ولكن القاعدة، والدولة أيضا، وكل بقايا النظام السابق، التي انضم أغلب عناصرها إلى داعش بعد سقوط صدام حسين. فهل تريد أن تكون مرغوبا مرهوبا في مثل هذا المحيط. أنت كررت أكثر من مرة بأنك لا تريد أن تعود إلى العراق، وهذا من حقك، أيها الولد الطليق. لكنك في نفس السياق تحرم على غيرك رؤية الأمور بطريقة أخرى. فللناس حق زيارة العراق، والعمل في مؤسساته، بل حتى الإيمان بالحل الأمريكي أو الإيراني، شريطة عدم استعمال العنف الفعلي أو اللفظي مع المغاير. وشخصيا تخلصت من مخاطر التنميط والتصنيف، إنها اجتهادات في نهاية المطاف، ومن يخطئ فله أجر واحد على الأقل، يرحمك الله في أبديتك. وقد تكون تلك الأبدية فرصتك للإعتذار من بعض من تعديت عليهم، البياتي أو جبرا إبراهيم جبرا، الذي قلت في آخر حوار لك عنه [ لا أراه فاعلا ثقافيا في التجربة الحداثية. خدم الثقافة الرجعية وانحاز لمصالحه الشخصية]. وقبل ذلك الشعب الكوردي، بمثقفيه ومواطنيه، الذين طالما أحبوك وتغنوا بشعرك ودافعوا عنك، لكنك سميت وطنهم [ قرد ستان ]، فيا لفصاحتك ويا لطلاقتك، ويا لحظهم العاثر معك ومع غيرك.

  الموضوع طويل، أيها الشاعر الكبير، ولكن ما سيبقى هو شعرك، أما الملاسنات فأنها ستصير مثل بعرة بعير في المد الكبير. وفي الختام أقول لك، إن الموتى محظوظون، لأنهم يصبحون خارج مرمى البصر، فقد انتهى كل شئ بالنسبة لهم، أما الشعراء والمبدعون فأنهم يختفون، لكن إبداعهم لن يموت أبدا.

 

مقالات من نفس القسم