الاحتيال المنفّر والمستساغ

موقع الكتابة الثقافي art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ماجد ع  محمد

بما أن أعداد العناوين المخادعة في عالم الأخبار والتقارير الصحفية اليومية لا تحصى، لذا من المستحسن ألا نطيل التوقف عند أفخاخها المنصوبة أمام مرتادي المواقع الإخبارية، ولكن حتى نضع بين يدي القارئ مثالا حيا من العناوين الماكرة في الفترة الأخيرة هو هذا العنوان الخبري الذي لمجرد أن يفتح القارئ من باب الفضول الرابط حتى يُعلن عن غضبه أو نفوره من العنوان وكاتب الخبر وناشره، ألا هو: “سوري في تركيا خطرت على باله فكرة عبقرية فكسب الملايين منها بلمح البصر” فمن يقرأ الخبر قد يخطر على باله أن ذلك السوري ربما  فتح مشروع تجاري أو صناعي أو زراعي أو بيطري أو تقني مميز يدرالأرباح بالملايين، ولن يخطر على باله قط موضوع اللوتو، ولكنه بعد أن يتم تشويقه عبر التحايل ويفتح الرابط سيتفاجأ بصلب الخبر وهو: “أفاد موقع (غازي عنتاب) الإلكتروني أن لاجئاً سورياً في ولاية غازي عنتاب فاز بربع جائزة اليانصيب الكبرى التي تم سحبها في 31 كانون الأول 2019، وقدرت قيمتها بـ 20 مليون ليرة تركية” فأين مكمن العبقرية في شراء بطاقة اليانصيب لا نعرف؟ ولكن الحيلة انطلت عليّ وربما على المئات من أمثالي.

أما حيال البهارات التعريفية لدى الأطباء في مضاربنا فحدّث ولا حرج، إذ أن بعض الأطباء في بلادنا مقتنعين تمام الاقتناع بأن اللوحة التعريفية المعلقة على العمود أو الجدار بمثابة العنوان الدال على أهميتهم، وأن تلك اللوحة عبارة عن اكسير رئيسي قادر على جذب الأصحاء والمرضى على حدٍ سواء وبأقل الطرق كلفةً، بما أن العنوان أو اللوحة التعريفية لها تأثير بصري قوي على اختيارات المواطنين بشكل عام، ويرون بأن ذكر كل الشهادات والخبرات في تلك اللوحة الإعلانية كفيل بجر المواطنين إلى عياداتهم، ويعتبرون أن لذلك الخطاف المعنوي دور نفسي مباشر على ميول الناس وآرائهم، وصحيح أن ذلك الأمر نجح نوعاً ما مع الكثير من المواطنين الذين وقعوا تحت تأثير صدمة المعلومات الدالة على قوة الطبيب، ولكن بنفس الوقت هنالك أناس نفروا من الطبيب فور التعرف إليه على أرض العيادة، أو بعد أن لاحظوا بأن خبرته الواقعية مع الأجساد لا تساوي ربع إعلانه الترويجي، وذلك بعد أن خدعتهم اللوحة التعريفية في الشارع.

على كل حال قد يعتبر البعض بأن إعلانات الطبيب مشروعة طالما أنها تلامس الحقيقة كون صاحبها بالفعل طبيب، أما المبالغة في إيراد المعلومات التي تلمّح إلى قدرة الطبيب على إيقاظ أهل الكهف من سباتهم، فبتصورهم أنه أشبه بالبهارات في الأعمال الإبداعية لدى الكتاب والفنانين.

وفي عالم المؤلفات ثمة عناوين تتضمن عنصري التشويق والاستغراب في آن واحد فيجرك إليه البنط العريض للتعرف إلى الكائنات المنعوتة بطريقة مستقبحة لدى مواطني هذا العصر، وبنفس الوقت عندما يربط الصفة القبيحة بشيء يصعب تقبله، فتصبح في حيرة من أمرك أمام هذا التلاقح الغريب في الجمع بين الزّهيد والباهظ، بين المكروه وذلك الذي له مكانة عالية في تطور البشرية منذ طفولتها في الكهوف والمغاور، ولكنك بعد أن تنتهي من قراءة ذلك السّفر تقول في سرك ما أجمل أن يغلف الكاتب كتابه بعنوان شيق وفور سماعك به وملاحظته في مكتبةٍ ما تتذكر بسرعة البرق محتواه الجدير بالقراءة، وذلك بدلاً من العنوان الطلسمي الذي لا يدل على أي شيء من عالم المكتوب بين دفتي ذلك الكتاب.

وهنالك عناوين قائمة على المفارقات الغريبة والجميلة في آن منها على سبيل الذكر وليس الحصر، كتاب عبدالرحمن أسامة سفر “لصوص النار” الذي يسرد قصص العبقرية عبر التاريخ والرابطة الوثيقة بين العبقرية والفضول، والذي يركز فيه على نعمة الفضول التي كانت وراء كل عبقرية في هذا العالم، فصحيح أن كلمة اللص، السارق لا شك هي مستقبحة الآن من قبل معظمنا ولها وقع سلبي مباشر، بينما إيجابيات لصوص النار في الكتاب لا تحصى، وإيجابياتهم على كل حال لا علاقة لها بـمغامرات روبن هود، إنما لأنهم أحفاد بروميثيوس وذريته الفكرية، أولئك الذين يدفعهم الفضول للمضي في دروب لم يسبق لأحد أن وطأها، وصحيحٌ أن الفضول كثيراً ما يكون سبباً لشقاء صاحبه وقد يُعاقب على سماته الشخصية شر عقوبة، ولكنه في النهاية يُسطّر اسمه بماء الذهب في أوليمب العباقرة.

وبعض العناوين قدرة المغنطة فيها عالية بحق ولكنها لا تشير إلى المكان الذي تذهب إليه، ولا يعطيك العنوان أي إشارة إلى ما كنت تبحث عنه، ولا يذكرك بما طال انتظارك له، ولا يخبرك بأنه الدواء الذي انتظرته وصدفة وقع بصرك عليه في رفٍ ما، ولا يجعلك ذلك العنوان تخمّن أي شيء من المحتوى إلاّ إذا ما قرأت العنوان الفرعي له أو قرأت بضعة صفحات منه، عندها تتفاجأ بأن المضمون ربما كان أبهى من العنوان الذي تصدر به الكتاب نفسه ومن تلك العناوين كتاب إدواردو غاليانو أطفال الزمن أو أطفال الأيام حسب طبعات دور نشر أخرى.

 وثمة عناوين بعد أن تقلب حوالي ٢٥ صفحة من الكتاب تشعر بأنك تعرضت لعملية خداع محبوكة، لأنه بالرغم من أن ذلك الشعور يرافقك ليزيد من ترددك وحثك على التوقف عوضاً عن المضي نحو أعماق القرطاس، تراك بنفس الوقت مصراً على قلب الصفحات علّك تعثر على بركة ماءٍ بعد الظمأ، أو تكتشف الواحة التي نويت بلوغها وهي ماثلة أمامك خلف الكثبان والهضاب؛ وهذا الإحساس خامرني عندما عثرت على كتاب “آن لاموت” الذي تحمست كثيراً لقراءته يوماً ما بناءً على عنوانه الشيق (طائر إثر طائر) المثير والشبيه بفخاخ جميلة منصوبة بعناية أمام القارئ، إذ في البدء تصورت أن المكتوب سيكون محتواه كندف الثلج السريعة الذوبان، ولا تكلف المرء عناء البحث عن مواد هاضمة، أو أشبه بالبوشار الذي يأكل منه المرء بكميات كبيرة من دون الشعور بالشبع منه، فخلت بأن السِّفر عبارة عن سطور متفرقة تشبه كتاب فيرلين كليكنبورغ “بضع جمل قصيرة عن الكتابة” أو لعلها ستكون مثل كتاب سلمان العودة “لو كنت طيراً” أو “ربيعيات” ربيع السملالي أي عبارات مقتضبة وجمل تتضايق من الإسراف في رصف الكلمات، ولن تسيطر على قارئها رغبة العثور على مواد تمده بالصبر والمثابرة، لكني تفاجأت بأكوام كبيرة من الكلمات والسير المتراكمة فوق بعضها، وما عليّ إلا إزاحة كل تلك الأكوام لأجد مبتغاي تحتها في أسفل البيدر، وهو الذي حصل، وغدا حالي إلى أن أتممت الكتاب أشبه بمن يزيل تلال من التراب حتى يلتقط بضعة خرزات يجمعها في ختام رحلة البحث ليزين بها عنق حبيبته، أو يجد عقب البحث الطويل ضالته فيفرح بها أيما فرح إلى الدرجة التي تجعله ينسى كل شقاء الأيام والليالي التي قضاها في الحفر والتنقيب.

وكذلك الأمر كتاب مكسيم ديكو (في مديح القارئ السيئ ) توقعته قبل القراءة أن السفر يأخذنا بعيداً للتعرف إلى عوالم الأشخاص السيئين ويخبرنا عما كانوا عليه ماضياً وعما هم عليه راهناً، لكننا بعد القراءة رأيناه يتحدث عن طرق وأساليب القراءة؛ وربما لو جاء العنوان على الشكل التالي (طرق القراءة السيئة) لكان أصدق تعبيراً عنه؛ ولما أساء ذلك العنوان للمضمون أو خفّف من جاذبيته، عموماً فعدا عن قصة التماهي التام مع أبطال الروايات من قبل بعضهم وغير الاقتياد والاعتصام بأساليب حياة الشخصيات في الأعمال الأدبية، فالقراءة السيئة لدى القارئ المتيم هو التعامل مع المكتوب من باب التقديس المبالغ فيه، حيث يأخذ ذلك القارئ بكل كلمة أو جملة في النص وبناءً عليه يتصرف مع العالم خارج الكتاب، لأنه انفصل عن العالم الواقعي وصار يعيش مع المكتوبات وهي التي تلهمه وترسم مساره في الحياة المعاشة، والقارئ السيء إن أضيف إليه آلية التعصب الأعمى لغدا خطيراً في تعاطيه مع كل من يخالف ما ورد في الكتاب الذي يُقدس حروفه، وبالنسبة لمن يريد التحول إلى قارئ سيء فالطريقة المثلى لدى الكاتب هي :”أن ترخي العنان لنفسك لتتأثر بكتاب ما على نحو من الإسراف والغلو الذي يجعل أفعالك وأفكارك تتغير من النقيض إلى النقيض”.

ومن العناوين المخادعة عنوان كتاب آين راند “فضيلة الأنانية” إذا من الوهلة الأولى يخال للمرء بأن الكتاب فيه دفاع مستميت عن الأنانية والنرجسية لدى الفرد المطوسن وهجوم شرس على قيم التضحية والايثار إلا أننا بعد قراءة نصوص الكتاب نرى الأمور بخلاف ما تصورناها بناءً على العنوان، وعن دور العناوين في لفت الانتباه للمنتج المعرفي أياً كان حقله الكتابي، وعن قدرتها على جذب القارئ وتسويق المادة المكتوبة، ينوه الكاتب السوداني أمير تاج السير في كتابه “ضغط الكتابة وسكرها” أنه ياما اقتنى كتباً لا يعرف عنها شيئاً ولكنه انجذب إليها لمجرد أن الاسم أعجبه، ولكنه لم يكن موفقاً في كل مرة؛ وهو ما جرى معي مرتين، مرة كنت في بيروت وتحديداً في حي البرير في التسعينات وحيث لفت انتباهي في واجهة إحدى المكتبات عنوان أحد الدواوين الشعرية، ومع أني عادة لا أفرط بالكتاب الذي أشتريه بسهولة، إلا أن كثرة انزعاجي من ذلك الديوان الذي شعرت بأني انخدعت به جعلني أترك ذلك الديوان على مقعد الباص الذي أقلني من بيروت إلى حلب، وفي إحدى فترات الحظر الكوروني في اسطنبول وتحديداً في 30/4/2021 جاءني طرد فيه بضعة كتب كنتُ قد طلبتها عبر الكاركو، وأحد الكتب بينهم كان يتألف من 380 صفحة وهو عبارة باقة من الأدب العالمي وقد اشتريته بناءً على عنوانه والمعلومات التي عرضها الناشر على صفحته في الفيس بوك، فخلت بأنه يحوي مختارات مهمة من نتاج كل من من: ايميل زولا، فولتير، فيكتور هوغو، غوستاف فلوبير، فرانتز فانون، سيمون دي بوفوا، ألبير كامو، جان بول سارتر، أندريه جيد، توماس مان، شيلر، بريتولد بريخت، فرانز كافكا، هنري ميلر، غونتر غراس، غوته، صادق هدايت، ومن الكتاب العرب محمود درويش، أمين معلوف، نجيب محفوظ، ولكن بعد أن صار الكتاب بين يدي فلم أتمم حتى مقدمة الكتاب بعد أن تصفحت الكتاب، وذلك لأنه لم يكن يحوي شيء من نتاجات الأدباء المذكورين، إنما كل ما حواه ذلك الكتاب بين دفتيه هو ببلوغرافيات شخصية وبعض ما قيل عما كتبوه.

ومن العناوين المخاتلة ولكن خداعها بدا جميلاً وليس مستقبحاً عنوان كتاب (لا تعشقي كاتباً ابداً) إذ يظن قارئ العنوان للوهلة الأولى أن الكتاب هو لمؤلفة عانت مرارة الحياة لزوجها الكاتب، أو أنها تحكي عن تجربة اللواتي عانين من ظروف تعيسة مع رجالهن الكتاب، وبالتالي يحذر الكتاب من أن تخوض أي فتاة تجربة الاقتران بالمؤلفين لما لتلك التجربة من خاتمة مأساوية محتلمة، بينما بعد أن يتدرج القارئ في القراءة يرى بأن الأمر بخلاف ذلك، وأن الرسائل التحذيرية لم تكن إلاَّ لزيادة التشويق، والاستهلال حقيقةً ساحر يشد القارئ، ولكن ملاحظتي كانت في عدم وجود نهاية واضحة تفصل المدخل عن المضمون وذلك بما أن العمل ليس برواية إنما بمكتوبات منفصلة عن الكتاب الكلاسيكيين وتفاصيل حياتهم العاطفية والزوجية.

فصحيح أن بعض الكُتّاب يضعون جل اهتمامهم بالعنوان إلى درجة الشعور حيالها بالفخ التسويقي المحكم الذي سرعان ما يكتشف القارئ بأنه كان ضحية وابتلع الطعم وما عليه بعدئذٍ إلاّ تمضية بعض الوقت مع المكتوب من باب الاطلاع لا أكثر، أو يمضي به إلى غرفة الحطب وهو غير نادم، وذلك لكي تكون الكلمات زاد نيران الشتاء كاخوانهم الذين بقوا على حالهم حطباً ولم يتجرعوا عناء مسيرة التحول من الخشب إلى ورق، بينما يحس القارئ حيال بعض المؤلفات بداية بأن العنوان خدعه، ولكنه بعد أن يتنعم بقراءة المكتوب، يسترطب عملية الغش ويدرك بأن الاحتيال كان جميلاً ويغدو حاله بُعيد لحظات من مشاعر التضليل كحال الموعود من قِبل أحدهم للذهاب إلى الغابة والتعرف إلى شعابها الضيقة، وإذ به بدلاً من الغابة الكثيفة التي تحرمه من النظر إلى الأفق، يرى نفسه وسط بستانٍ بهي فاتن وذا منظرٍ خلاب، إضافةً إلى احتوائه أفضل أصناف الفاكهة الطيبة.

مقالات من نفس القسم