ترجمة: د. مي التلمساني
«لم يعد المرء يحمر خجلاً من رغبة الموت»
فرانتز كافكا
فى مسرح متقشف تُعرض مسرحية بدت خاتمتها مثل لعبة أطفال، لولا أن الأطفال شاخوا أثناء العرض، وقد غلفتهم شبهة أن تكون الحقيقة قد تخفت وراء ما يقولون. من جانب المتفرج، ثمة شعور مماثل بالضيق. رؤية كل هذه الأيدى وهى تتحد، قد يدفع البعض للاعتقاد بأن الناس يصفقون، فيما هم يكتفون بنفث أبخرة كبريتية. لو غادرنا القاعة، يتضاعف الفزع. فى الخارج، يبدو الثلج مثل رسالة مهملة لم يفضها أحد.
كائنات كافكا تهيم بلا هوادة. تسير ليل نهار، فى المدينة، على تخوم الريف، فى غرفة مغلقة، فى أى مكان. إنهم بمعنى ما رجال-شطائر السر. تقودهم رحلتهم إلى ما وراء منصة المسرح، أقول حيث لا توجد منصة مسرح ممكنة، هناك حيث يكف المرء عن أن يكون مرئياً. حين يبلغ ك. فى تجواله الشريد، أرض القصر الموحشة، قرب الغسق، يقدم نفسه باعتباره «موظف مساحة». قد نتلمس هنا مفهوماً مركزياً فى أعمال كافكا، منتهى قدر الإنسان حيث كل شيء لا يعدو كونه تهديدا وجهلا متجددين على الدوام. يتوقع المتشرد-المساحأن ينكشف أمره ويطرد فى الظلام. لكن مفاجأة مرعبة تسقط فوق رأسه وتثير اضطرابه: العالم، القصر، يؤكدان مصيره.
«وخز ك. أذنيه. لقد عينه القصر مساحا. من ناحية كان الأمر سيئا: والدليل أن القصر يعرف عنه ما يكفى، بعدما تم حساب القوى المتاحة وقبول خوض المعركة بابتسامة…» وأيضا «أنهم يظنون بأنفسهم القدرة على تخويفه بشكل متصل وذلك بالاعتراف بامتهانه مهنة مساح.»
عندما يقرر ك. الاتصال بالقصر فى صبيحة اليوم التالى، فى محاولةيائسة للسماح له بدخول القصر، يرد عليه صوت عابث قائلا: «نعم…نعم… أعرف. المساح الأبدى.» إن الأمل الذى يدفع ك. لإجراء المكالمة الهاتفية، الأمل الذى يتضمن بالقوة فشله المحتوم والذى يُمحى لديه بكياسة نادرة الوجود، ليس سوى، علينا أن نعى ذلك جيداً، عنصر تمثل بسيطاً. الأمل لا يمثل هنا سوى واحدة من الإحداثيات عديمة الجدوى لحركة السير المستمرة بلا نهاية التى يقترحها كافكا. فكما أن هناك مسيرات للجوع ورحلات سحرية يسيطر عليها سراب الصوف الذهبى، فإننا نشهد، عبر أعمال كافكا، مسيرة وجودية حقيقية، مسيرة المعرفة المرفوضة.تُختزل ثيمة المعرفة فى صورة نشاط بدنى بدائي: السير جيئة وذهابا. بين العاشق الأبدى والمحقق الأكبر، نجد أنفسنا بصدد شخصية تتبوأ مكانتها فى أسطورة الأدب، شخصية نظرتها ثابتة وخطوتها واسعة منعزلة، شخصية المساح الأبدي.
لمهمة قياس الوجود هذه ميزة فائقة، كونها هذه المرة لا ترتبط بالذهاب بعيدا. يخالطها فى الواقع شعور بالتعب. ولا يجاوزنا الصواب إن قلنا بأنه تعب أصيل يحل محل أى مشروع فى الحال، يعتم الشاطئ. فى التو يشعر المرء بالأسر، فى التو يتم تحذيره من استحالة التوصل إلى حكم، سبر أغوار الجرح. هكذا فى «طبيب أرياف»، النص الذى يبدو أن كافكا يكشف فيه أوراقه أكثر من أى موضع آخر:
«فى الجانب الأيمن، عند مستوى الخاصرة، انفتح جرح كبير بحجم طبق الفنجان… انفتح مثل بئر فى منجم. كان يبدو هكذا عن بعد. عن قرب، كان الأمر أكثر سوءاً. من بمقدوره أن يرى ذلك دون أن تند عنه زفرة خفيفة؟»
غير أن صبر أهل القرية ينفد، فيتململون، ويغنون، ويصرون أن تتوقف فضيحة ذلك الجرح. يظن الطبيب أنه أخطأ، أنه «استجاب لناقوس الليل عن غير حق» وأنه «أمر لا سبيل لإصلاحه أبدا». أما الرجل الذى تعج خاصرته بالديدان، فيهمس فى أذنيه: « ليست لدى ثقة كبيرة فيك. لقد ألقى بك أنت أيضا فى أى مكان، لم تأت على قدميك. بدلا من أن تعيننى، تقرب بينى وبين فراش الموت… أنا من أتيت إلى هذا العالم بجرح جميل، هو كل ما جلبت معي.»
على فراش الكائن المستلقى بعدما هزمه الجرح الذى يقوم مقام القربان، يظهر من يسمى بحامل الدواء، السائر المزيف، الرجل الذى لم يأت سيرا على قدميه. بلغة كافكا، يبدو هذا التعبير حاملاً لشحنة اللعنة القصوى فى نظري.
«المحاكمة» شبح ليلة، هكذا يقول كافكا عن كتابه. ينطبق هذا على نصوص أخرى أيضا، وأعترف بأنى لم أعرف شيئاً شبيهاً باستكتاب الأشباح الرتيب هذا، والذى يكتسى، فى بعض المواقع، لمحة طيبة مرعبة. فما أن يشرع المرء فى جس نبض تلك الكتابة النظامية، حتى ينتبه لأمسياتالجنون والموت الممتدة الصامتة، المعلقة وراء كلمات عارية من المعني.
• • •
على أهون تقدير، مع كافكا، لم يعد بالإمكان قبول فكرة «لنبتهج أيها الأخوة لأننا ضعنا!» التى قررت السلفية الأدبية أن تدثرنا بها. ينأى بنا كافكا عن أن نتعاطى تحطيم النفس كالمناولة، الأمر الذى شكل التدريب العضلى المفضل لدى دوستويفسكى. إنه ينزع من فمنا خبز القربان المقدس لليأس ليتركنا صائمين، مفتوحى الأعين فى وضع غريب، أقرب إلى التبلد… وضع الإنسان الذى ظل حب الاستطلاع لديه خالصا وإن كانت قدرته على الاستجواب قد طالها التدمير بشكل غامض.
نعرف المقولة المحبطة: «لا نملك شيئا للا شيء». يحدث كل شىء وكأنما آل كافكا على نفسه أن يبين لنا بأننا لا نملك شيئا حتى ولو لشىء. ومن هذا فإن صورة السلوك الزائفة التى تنغمس فيها شخوصه تذكرنا بحفل فاشل لتوزيع الهبات والعطايا. أحدهم مستعد للتنازل عن هويته، وضعه الاجتماعى، حياته الخاصة، فى مقابل حكم يقرر له مصيره، ولكن لا، فهو لا يعثر على شخص أو سلطة يمكن بفضلهما لهذا التبادل أن يتحقق فى نهاية الأمر. والآخر يسعى لفض مصارينه، ماذا أقول، بل يتحول لأكثر الحشرات وضاعة، غير أن احتضاره يظل بلا رجع أو صدى. الإنسان يعطى ويستسلم، وحفل توزيع العطايا الفاشل يتحول إلى طقس أضحية، دون أن تظهر علامة واحدة إيجابية من شأنها أن تعوض خسارة المضمون، أو تقديم ما يشبه المغزى التعويضى لهذا الوداع البائس للذات.
ولو أننا لمنتبين تحديدا ما يريد كافكا، فإننا نرى فى المقابل بجلاء كيف يقود كائناته بدافع من نداء داخلى يدفعهم للغرق بلا رحمة فى استغلاق الحياة المحكم. الإنسان المعتاد يخشى فوق ذلك كله حصار اللامعقول. سعادته اليومية المتواضعة تقوم على توليف تفاسير منفرة لكل ما هو غرائبى. يتقدم بخطوة تبدو وكأنها مطردة (يخالجنا شعور بأنها مرتعدة) وطريقته فى المضى فى الحياة تكفى لإضفاء منطق الغياب المرعب على عالم بلا قانون. لا نرى بهذه القوة فى أى عمل آخر غير عمل كافكا أن الإنسان بداهة حامل إشارة عفا عليه الزمن. كل إيماءة، إلزامية أو متضرعة، يجب استعادتها من الصفر.المرجعيات والرموز التى لم نزل نستخدمها بشكل آلى لم تعد تنطبق إلا على قانون تلاشى، لا نجرؤ حتى على تصور ملامحه، غير أننا نسعى جاهدين للبحث عنه بشكل ملغز على غرار مسابقات ركض المكفوفين فى لوحات بروجل. ندخل بيوتاً خاوية، نرفع الستائر، ننحى جانباً أبسطة الحائط السامة، نفتح الخزانات، – أى مخبأ هذا الذى نسعى بأنفسنا لغلقه بمغلاق ثقيل؟ – كل هذا وكأننا نتوقع اكتشاف قانون صالح لخزانة بُقر جوفها. مثل هذا الإصرار المهووس بالموت يؤدى فى النهاية لإعادة الكائنات إلى عتبة البراءة المفقودة. بهذا المعنى، يمكن وصف أعمال كافكا بأنها سابقة على الفردوس. لا فائدة للسماء على الإطلاق – ورغم ذلك يسود تلك الأعمال روح الاغتباط بالأسوأ، وبمساعدة الإضاءة، يتحلى بروح لا أدرى كنهها تعلن استعادة الفردوس. وهنا أيضا من شأن المقاربة مع بروجل أن تلهم الذهن.
• • •
أن ينشأ فى سويسرا وسط حدائق الزهور أو فى الهند وسط فضلات ابن آوى، يظل الإنسان مخلصا لمفهومه العميق عن الضلال. يعرّف الكائن الضال نفسه بأنه إنسان مأخوذ فى الوقت ذاته بالمطلق وبوسائل الانسلاخ منه. أما تعاقب الأزمنة فليس سوى التاريخ الدؤوب لهذا الانسلاخ. الطفرات، بلا شك، تحدث بلا نقصان – الحرب والحب: ورفاهية المسميات الحاسمة، نداء الروح والقدر. كافكا، وحيدا على المتن، لا يعلن العثور على قارة أتلنتس المفقودة. لا ينضم لسرب المروضين الذين يصارعون، كما يدعون، ضد الشتات. همه ليس تهذيب الإنسان. ربما كان همه تشفير ذلك الحزن الأصيل المقدس برقة، الحزن الذى يُعد اللغة الوحيدة الكونية بحق، – حزن بعض هؤلاء الذين تعلموا التخلى عن الحقيقة دون الكف عن معانقة اسمها والبحث عن حميميتها المحرمة.
لم يفتأ كافكا يقول لنا: «اتبعوا العراب!» وهو يعرف تمام المعرفة أن العراب إنسان منهك، تكمن رغبته الممضة غير المعلنة فى كونه بلا أتباع. ذلك أن القانون الذى طالما تم استدعاؤه، قانون لا يتحلى بقوة سوى قوة الرماد والنسيان…
أصبح من السائد أن نتبنى هذا الشكل أو ذاك من الفلسفة، من اليأس، أو المصير. مثل تلك المفردات لا تنطبق على كافكا. ليس بوسع أحد أن يستوعب كافكا. كافكا يطوقنا بظلمات حالكة لا قبل لنا بها إلا عبر الشعوربأرق الوجود الحقيقى. يطوقنا كما تفعل حركة المد المعتدل، كما تنمو إساءة فهم الأسى. ما يواجهه العقل لدى كافكا هو انضباط كل ما هو غير قابل للذوبان، الهذيان الإقليدى (نسبة لأقليديوس) البارد لحيوات رُسمت بخطوط متقطعة بلا التقاء واضح، ولا تقاطعات خطرة، حيوات غير مصرح فيها بالابتسام للحيوات الموازية.
فرانز كافكا مات منذ ثلاثين عاما فى براج، فى غفلة عارمة نكاد إلى اليوم نخشى عليها من الخدش.
يؤكد البعض أنه كان متقدما على عصره، سباقا فى تخيل هذا العالم الشهير الذى لم يأت بعد أوان الخلاص منه، عالم معسكر الاعتقال. هل يوصم بالقسوة كمؤلف؟ لعبة النوايا لا تليق بكافكا إذ لو افترضنا وجود نية، لحكمنا على أنفسنا بعدم الخروج من المتاهة أبداً. قسوته الوحيدة قائمة على تذكيرنا بأننا منقطعو الصلة بمنابع الحياة. وبالمناسبة فهو يسخر من جهود الشفعاء، وسطاء الخلاص… ذلك أن صحبتهم أشق بغضا على نفسه من الوحدة. بدرجة أقل، فإن حامل الرسالة مقصود بدوره. تتقلص حركته باستمرار، ويُمنع من أداء مهمته. فتصل الرسالة متأخرة أو لا تصل على الإطلاق.
إننا نعتبر أعمال كافكا «آنية معاصرة» إذ نشهد بأعيننا المأساة الإدارية الكريهة التى يعانى منها «الأشخاص المشتتون». لكن ما يبدو بالنسبة لنا كاشفا هو منطقة سبق لكافكا الوصول إليها. كافكا كاتب الخروج. بالنسبة له، حطام السفينة سابق على الإنسان، الجرح سابق على الحياة.
اليوم تتجاوز حساسية الخروج تلك بشكل فريد عالم اليهود. فالجرح ينز فى خاصرة آخرين. يحضرنى هنا ما كتبه لى منذ نحو عامين ريمون ألبيون: « تزداد قناعتى يوماً بعد يوم بأن الغربيين، وخاصة اللاتينيين منهم، بصدد أن يصبحوا يهود المرحلة الجديدة… ومما لا شك فيه أيضا، بعد أن تتهدم معابدنا، لن يتبقى لنا سوى قدر الأسر أو الخروج، عندئذ سنصبح بحق الخميرة والجرثومة».
…………………………………………
*ترجمة المقال المنشور فى كتاب «Allusion À Kafka»– أو «لمحات عن كافكا» المنشور عام 1954 فى القاهرة