الإخلاص للفن.. كراهية الاختلاف

غربان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى ذكري أحبَّ ميلان كونديرا، وانقلب عليه، لأنه شعر بـ"أفورته"، وذهنيته التي طفحت على كل شيء وباتت صعبة وغير مقبولة، أتحدث عما قاله لي، لا عن رأيي الشخصي، مع أن مصطفى ينتمي إلى الأرضية ذاتها التي ينتمي إليها كونديرا، لا أتحدث عن العوالم بالطبع، لا عن التاريخ الشخصي للكاتبين، لا عن طريقة البناء، ولكن عن طريقة التفكير في اللغة، والأفكار، مع المسافة الشاسعة بينهما، باختصار أتحدث عن أن الاثنين لا يوردان كلمة سوى في مكانها، لا معنى لوجود موقف لديهما سوى أنه يخدم شيئاً ما، في اللحظة التي تنسى فيها هذه الكلمة، سيقومان باستدعائها مرة أخرى، لتكتشف أنها مفتاح مهم في فهم عالميهما، هل تخلى مصطفى في أحد أعماله عن الذهنية العالية؟ لا.. لم يفعل.

يهيأ لي الآن أن التنازل الوحيد الذي جرى عند مصطفى ذكري هو “بوستاته” السياسية على “فيسبوك” التي تخلى فيها عن لغته العالية، وتقريباً قبل عام ونصف العام من الآن كان مصطفى ذكري في ذلك القبو  الذي صنعه لنفسه، على طريقة كافكا، وحتى حينما كان يطل من نافذة “فيسبوك” كان هو نفس الشخص، الذي لا يأبه للعالم، المتعالي، الغامض، أو الذي يريد أن يبدو هكذا، المعتزل، الذي يبدو غير مؤمن إلا بالفن الذي يتماشى مع فكرته عن الفن، الحاد الذي قد يذبح كاتباً تافهاً، في وجهة نظره، بسطرين أو ثلاثة، الذي لا يُجامل، لأنه طوال الوقت بعيد جداً عن منطقة الصراع بين الكتاب والمثقفين وأماكن تواجدهم، الذي لا يجد حرجاً في إعلان أنه شخص بلا أصدقاء، في وقت يتوقع كثيرون، وأنا واحد منهم، أنهمأصدقاء مقربون منه، الذي لا يكتب حرفاً إلا بعد أن يضعه على ميزانه شديد الحساسية، الذي لم يتخل عن لغته وتسريبه للأفكار سواء في أعماله الأدبية أو حتى في مقالاته عن السينما، أنا أفكر في أن مصطفى يعيد كتابة كل سطر يكتبه عدداً مهولاً من المرات، ربما أكثر من ميلان كونديرا نفسه، وهو قد يلتقط بأصابعه هذه الكلمة ليليقها على الأرض، ثم يشعر بأنه أخطأ فيعيد البحث عنها والتقاطها، ولكنه يعيدها إلى مكان آخر، وحينما ينظر إليها يشعر أنها في مكانها، ليست بارزة، وليست منحرفة، وليست غارقة في تجويف بالحائط، وهكذا يصير الحائط سليماً، وهو سيتكفل بتلميعه كثيراً، لتشعر في النهاية أنه مصنوع لا قام بنَّاء بتشييده على مراحل، من فرط دقته وحريرية سطحه، والفارق بين فنه ومقالاته خيط رفيع جداً، فلماذا انحرف مصطفى فيما يتعلق بالسياسة؟ أصبحت مقتنعاً أكثر من أي وقت مضى بأن الأيديولوجيا قادرة على تحريك الأشخاص من مواضعهم، الأيديولوجيا أقوى من الفنان. كانت انحيازاته الفنية هي ما يحركه خارج الفن، ولكن السياسة دخلت على الخط، وأظنها شيئاً عارضاً.

بولأوستر،دايفدهيوم،إيريسمردوخ، إميلسيوران،هيمنجواى،دريدا،كافكا،باختين،جاككرواك،إيكو،بوزان،بلزاك،جيمسهنرىبريستد،مليكةأوفقير،كالفينو،موراكامى،توماسمان،جونترجراس،كونديرا،هيجل،سلمانرشدى، وطبعاً جيمس جويس.. انظر إلى كل هذه الأسماء، التي يفضلها ذكري. حتى في اختياراته ستجده قارئاً انتقائياً، وستجد أن الخيط الذي يجمع كل هؤلاء أنهم جميعاً مفرخة للأفكار عن العالم والحياة، الحكاية قد تكون حاضرة بقوة عند بعضهم، ولكنها وعاء لتلك الأفكار، وهو حينما يتحدث أحياناً تشعر بأنه يريد أن يقول لك شيئاً من وراء كلامه، لا يتحدث ليحكي، ولكن ليفكر، ولينقل إليك أفكاره، وهو لا يجد حرجاً في إعلان بعض أرائه شديدة الغرابة كرأيه في الرقابة، وأيضاً في ضرورة أن يكون الفن غامضاً، وفي التناسب العكسي بين رواج الكتابة وجودة صاحبها، الكاتب المنتشر بالنسبة له كاتب رديء، بشكل أدق الكتابة المنتشرة كتابة رديئة، وأيضاً في فخره بأن قراءه قليلون، وفي احتفاظه بمعظم النسخ التي يحصل عليها من الناشر مع كل عمل جديد له تأكيداً على تلك الفكرة، وهو بالنسبة لي حالة غير طارئة وغير عارضة، أقرأ أعماله بمحبة، وأظن أنه سيصير علامة على الإخلاص الكامل للفن، حتى ولو صار في الوقت نفسه علامة على التعالي، وكراهية الاختلاف.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم