الإخراج المسرحي لعروض الأطفال

حميد بن خيبش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حميد بن خيبش

قبل أن يوجد المخرج كانت النصوص المسرحية تحمل في طياتها إرشادات وتوجيهات، تحدد شكل العرض وصياغته المشهدية. وبتتبع تاريخ العرض المسرحي في كل الحضارات، أمكن رصد التشكلات الأولى لدور المخرج باعتباره مسؤولا عن الولادة الثانية للنص، من خلال تنظيم مكوناته من أداء، وديكور، وموسيقى، وأضواء.

في القرون الوسطى كان ترتيب المناظر والحيل المسرحية، كما يصفها أرسطو في كتابه (فن الشعر) يقع على عاتق مدير اللعبة Meneur de jeu، وهي المهمة التي قد يتولاها الممثل الأول في الفرقة أو حتى مصمم الديكور. لكن في نهاية القرن التاسع عشر سيترافق ظهور الإخراج، كمكون أساسي في العملية المسرحية، مع ميلاد السينما، والتغيير الهائل الذي أحدثته في تركيبة الجمهور وأذواقه. وسعى منذ ظهوره إلى التجريب والبحث عن صيغ وجماليات متنوعة. لكنه خلال رحلته المديدة التي يُرجعها العلماء إلى زمن الفراعنة، لم يلتفت لجمهور الصغار إلا قبل مئة عام أو يزيد قليلا.

من المعلوم أن مسرح الطفل نشأ في سياق البحث عن طرائق تربوية جديدة لتربية وإرشاد الأطفال. وبفضل المنجز الذي حققته الأبحاث في ميادين علم النفس، برزت سمات وخصائص نمائية لمرحلة الطفولة، شجعت على توظيف المحاكاة الفطرية التي يتمتع بها الطفل منذ سنواته الأولى، ضمن إطارها الفني، عبر ثلاث محاور: التمثيل للطفل، والتمثيل مع الطفل، ثم الطفل يمثل بمفرده. هكذا نشأت بوادر الكتابة المسرحية للطفل، وتقريب مكونات العرض المسرحي من عالم الطفولة الفريد، ومن بينها الإخراج بطبيعة الحال.

إن تطوير الذوق الفني والجمالي للطفل، وبناء ثقته بنفسه، وتغيير توجهاته الفكرية والثقافية والاجتماعية لهي أهداف يلتئم حولها كاتب النص ومخرجه. بمعنى أن العرض المسرحي الذي يؤديه الطفل ويشاهده، ليس فقط وسيلة تربوية لغرس القيم، وتوجيه السلوك وجهة محمودة، وإنما هو أيضا اندماج مع عالم مواز لحياته اليومية؛ أعني عالم المسرح بتقنياته المختلفة، من اكسسوار وماكياج وإضاءة ومؤثرات صوتية. وهو الاندماج الذي يحتم العناية بالعملية الإخراجية، والتعرف على أسسها وقواعدها التي تسهم في إعداد الممثل الصغير.

يبدأ عمل المخرج بعد أول قراءة للنص المسرحي، وترجمته بشكل مبدئي من خلال تحديد الموضوع، والقيم الأساسية، ثم المميزات الإجمالية للشخصيات. وينتقل في خطوة ثانية إلى وضع الخطة العامة للإخراج انطلاقا من إجابته على الأسئلة التالية:

  • هل عدد الممثلين ضخم أم قليل؟ وهل ينبغي حذف بعض الشخصيات غير الضرورية؟
  • ما عدد المناظر التي ينبغي استعمالها، وكيف سيتم تغييرها إن كان ثمة تغيير؟
  • بالنسبة للملابس هل سيتم صنعها أو استئجارها، أم إدخال تعديلات على ملابس موجودة؟
  • الإضاءة هل ستكون عادية أم تتطلب أجهزة خاصة؟
  • كيف سيتم إعداد الديكور اللازم للمشاهد؟ (1)

تحدد الأجوبة ما يمكن أن نعتبره تصورا أوليا للعرض المسرحي، حيث سيتم تقدير تكلفة الإنتاج قبل البدء في اختيار الممثلين، انطلاقا من المميزات الإجمالية لشخصيات النص، ثم وضع جدول زمني للتداريب. غير أن من المهام الأساسية التي قد يغفلها المبتدئ في عالم الإخراج المسرحي هي تلك المتعلقة بنحت رؤيته الفنية الخاصة، وذلك من خلال تحليل وتفكيك كل عبارة في النص للكشف عما وراء الحوار والشخصيات، وفهم أبعاد الحدث. إنها الخطوة التي تساعد على تحقيق المعامل التجسيدي لكل شخصية، وتوجيه الموقف الدرامي بشكل يحقق التناغم بين لغة النص ولغة العرض.

بعد إجراء قراءة متعددة للنص، ينتقل المخرج إلى توجيه أصوات الممثلين ومشاعرهم وحركاتهم بما يتناسب مع الرؤية الإخراجية. ويتم ذلك عبر خطوات تحدد التغير الصوتي والحركي المطلوب منها:

  • قراءة الفقرات الحوارية ليتعرف الممثلون مناطق الوقف وأنواعه، وكذا النقلات الشعورية.
  • قراءة تعبيرية جمالية يُبرز من خلالها الممثل كيفية التعبير عن كل نقلة شعورية يؤديها في دوره، واستخراج الحالات التي يجب أن يتدرب عليها بإتقان ” التساؤل، العتاب، الإدانة، الحسرة…”
  • التعبير الحركي وهي حركة الجسم وسكونه لإعطاء معنى أعمق، أو للدلالة عما وراء الفكرة الظاهرة.
  • تقسيم خشبة المسرح: لرسم حركة الممثلين على الخشبة، وتدريب الطفل على العلاقة بين التقسيمات التسع للخشبة وتأثيراتها النفسية.

يثير هيننج نيلمز ملاحظة مهمة حول حركة الممثلين الذين يؤدون أدوارا غير بشرية، تتضمن أشباحا أو جنيات أو وحوشا، وهي المشاهد التي قلما خلا منها نص مسرحي موجه للأطفال. يتعلق الامر بحركة الممثل التي يجب ان تكون حقيقية بدون تكلف، وأن يُراعى ظهوره على خشبة المسرح من موضع منعزل عن البقية، بحيث لا يستعمله ممثل آخر. كما يجب أن يبتعد الشبح عن الأشخاص الأحياء بقدر الإمكان، وألا يحدث اتصال إلا إذا اقتضت خطة المسرحية ذلك. إضافة إلى أن تحقق الإيهام يتطلب تفادي الحركات التي تُظهر بشريته، مثل جلوسه على مقعد وثير حتى يغوص بين الوسائد بسبب وزنه، أو خروجه من الباب خلافا لما تعوده المُشاهد من قدرة الأشباح على اختراق الجدران!

ويُعد تأثيث الأماكن والفراغات على الخشبة انشغالا تاليا للمخرج، انطلاقا من كون الفضاء المسرحي بمثابة إطار تشكيلي، يستوعب قيما فنية وجمالية تسهم في شد انتباه الطفل للنص الدرامي. فما يطلق عليه “السينوغرافيا” هو رؤية متكاملة تشتبك عناصرها، من إضاءة وموسيقى وديكور ومؤثرات، مع رؤية المخرج لتزويد عين المشاهد الصغير ببواعث ومثيرات لونية وصوتية، تعوض الصورة التي يريدها في مخيلته.

يضع المخرج تصوره للمناظر والديكور، وللحيل وأشكال الخداع التي يتطلبها العرض. وبالنسبة للمناظر فإنها تحقق أهدافا مختلفة؛ فالمنظر الخلفي يمنع تشتت ذهن المتفرج الصغير ويحصره داخل نطاق العرض. والبعض الآخر منها مهمته هي نقل المعلومات، كنوع المكان، والزمان، والخلفية الاجتماعية. بينما تؤدي مناظر ثالثة دور الوسيط الإخراجي، حيث تساعد على تنظيم تدفق الأحداث.

كذلك يصمم المخرج خطة للإضاءة المسرحية، تحدد ألوان الإضاءة، وحركة الضوء والظلام، ودرجات الخفوت والسطوع وفق طبيعة الصراع ومستوياته داخل النص. ومعلوم أن للإضاءة أثرا قويا داخل العرض المسرحي، فهي تقدم معلومات عن زمن الأحداث ” نهار، ليل، فصول السنة…”، وتؤثر على المزاج حيث يمكن الانتقال من جو الكآبة أو الخوف إلى جو المرح بزيادة الإضاءة، أو بتغيير اللون من رطب إلى دافئ. ولتغيير الإضاءة فإن بإمكان المخرج أن يعتمد مفاتيح من داخل العرض، قد تكون كلمة أو إشارة أو حركة من أحد الممثلين، مما يسهل التنفيذ من الناحيتين العملية والجمالية.

ونظرا للتلازم التاريخي بين الموسيقى والمسرح، فإنها أصبحت بمثابة ديكور سمعي، يدعم جمالية العرض من خلال توظيف الغناء والمقاطع الإنشادية والضربات الإيقاعية وغيرها. لذا لا يجب أن يكون الغرض من استخدامها إطالة زمن العرض المسرحي أو سد فراغاته فقط، وإنما تهيئة الجو العام في المشاهد ذات الدفقة الشعورية العالية، كالحب واستدرار العطف، أو مواقف الصراع العنيف.

وأما الأزياء فهي تحتل في نظر بعض الدارسين مرتبة ثانية بعد الممثل، فهي بمثابة اللغة التي توضح تعبيرات الممثل وحركاته. ومن خلالها يتلقى المتفرج الصغير طبيعة الشخصية ومواقفها. لذا يتحتم على المخرج ألا يكتفي بالوظيفة (الاستعمالية) للملابس، كما يصفها الدكتور نديم معلا، وإنما ينبغي أن يعكس الزي الحالة النفسية للشخصية، ويسهم في إنتاج التعبير الدرامي. يقول الدكتور معلا:” ما إن يرتدي الممثل ملابس الشخصية التي يجسدها، حتى تدخل فيه وتفرض عليه حركة معينة. عليه أن يطوع هذه الحركة لتتلاءم مع طبيعة الملابس، بحيث لا تعيق انسيابها. وعليه أيضا أن يتذكر أنها صارت جزءا منه.. تشكل الملابس إذن سلوك الممثل العام وترسم ملامحه.”(2)

إلى جانب الأزياء تحقق الأقنعة والماكياج مزيدا من الإبهار وإضفاء الصدقية على الشخصيات التي يجسدها الممثلون على الخشبة. غير أن اعتمادهما يظل مقيدا ببعض المبادئ المهمة مثل التلاؤم بين الإضاءة والماكياج، والتناسب بين الماكياج ووجه الشخصية التي سيؤديها الممثل دون مبالغة، وتصميم الأقنعة بحيث يبقى الأنف والفم والعينان حرة.

يتقدم المخرج كعصا سحرية ليهز النصوص المكتوبة، ويبعث فيها الحياة على الخشبة، متوسلا بخطوات عملية، تؤطر رؤيته الفنية للنص، وتُجسد خيالاته وأفكاره وصوره. وفي علاقته مع الطفل ممثلا ومتفرجا، فإن عبئا ثقيلا يلقى على عاتقه لتقديم عروض تعيد تشكيل وجدان الطفل، وتزوده بمقاييس يزن بها الفضيلة والرذيلة، والجمال والقبح، وتخلّصه من الشحنات العاطفية الضارة في حياته اليومية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • هيننج نيلمز: الإخراج المسرحي. ص344
  • د. نديم معلا: لغة العرض المسرحي. ص 66

 

 

 

 

 

 

  

مقالات من نفس القسم