الإبداع سيرا على الأقدام !

hamed moussa
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حامد موسى

في صباحٍ خريفيٍّ رائق، أخرج من البيت بقصد السير على غير هدى. الهواء الرطيب يملأ صدري، ونسمات الصباح الباردة تداعب وجهي، فيما تتمايل أوراق شجر البونسيانا على جانبي شارع الجمهورية، كأنها تهمس لي بلحنٍ قديم. كنت أبحث عن صفاءٍ لا تمنحه لى الغرف المغلقة، فأطلقت قدميّ في الطريق، أجرّ خلفهما هواجسي وأسئلتي.

حين وصلت إلى البحر نهاية الشارع، استقبلتني نسائم مشبعة باليود، فشعرت أن روحي تغتسل من غبار الأيام. ثم عدت إلى الشوارع والبنايات مرة أخرى، أنحرفت إلى الحى الأفرنجى ،شوارعه الجانبية؛ حيث الشرفات الخشبية العتيقة التي تطل على أكثر من شارع. كل شرفة بدت لي نافذة على زمن آخر، زمنٍ يمزج بين العراقة والاندثار.

هناك فى أحد الشوارع، توقفت أمام دكان صغير مكتظ بالدراجات. فوقعت في نفسي عبارة: “عجلاتي في الحي الأفرنجي”. بدت لي كعنوانٍ لقصة قصيرة لم تُكتب بعد، قصةٍ عن مفارقة عجيبة بين حيٍّ أوروبي الطابع، وأصوات المطرقة والزيت ورائحة المطاط المحترق التي تخرج من بين جدران الدكان الشعبي. شعرت كأني أمام صورة مكثفة للحياة نفسها: القديم يتجاور مع الحديث، الفخامة تتصالح مع البساطة، ولا شيء يُقصي الآخر.
أحيانًا، لا يكون الهروب من العالم بالابتعاد عنه، بل بالانغماس فيه أكثر، الشوارع ليس حجارةً وأرصفة فقط، بل مرآة تعكس وجوهنا الداخلية. كل خطوة نمشيها، إنصاتٌ صامت إلى صوت الروح.”

أحيانًا، لا يكون الهروب من العالم بالابتعاد عنه، بل بالانغماس فيه أكثر
التفكير أثناء المشي، كما يقول الفلاسفة، يربط العقل بالجسد، ويجعل الفكرة أكثر صفاءً، لأنها وُلدت في الهواء الطلق لا في عتمة المكاتب.
كان نيتشه يقول: “لا أثق في فكرة لم تولد أثناء السير.”، وها أنا أصدقه مع كل خطوة. فكل شارعٍ أعبره يصبح سطرًا، وكل وجهٍ ألتقيه بذرة قصة.
واصلت السير حتى الميناء. المعديات تتحرك ببطء، والسفن العابرة للقناة تسير في صمت مهيب، كأنها تحمل أسرار العالم. صعدت إلى إحداها، وهناك رحت أقرأ وأتأمل وجوه الناس: الشيوخ المتعبون، الصبايا والنساء الحالمات، الأطفال الذين يركضون نحو المجهول،عمال يبتسمون رغم الإرهاق، جميعهم نصوص مفتوحة على احتمالات شتى تنتظر من يكتبها.

وعندما عدت إلى الضفة الأخرى، وجدت نفسي في حي العرب. الشوارع الضيقة، البيوت الخشبية المتداعية، والعمارات الأسمنتية الحديثة التي تشق قلب الحي كجسم غريب. الأسواق الشعبية تضج بالنداءات، والوجوه البسيطة تحمل تاريخًا صامتًا. أحسست أن كل شارع يلهم قصة، وكل وجه يختزن رواية كاملة.
وسط الزحام عزلة خاصة، عزلة لا يصنعها الانفصال، بل الحضور الكامل. فبينما ينشغل كل إنسان بوجهته، أمارس أنا طقسًا مختلفًا: التأمل والتفكير سيرًا على الأقدام.
السير ليس مجرد حركة للجسد، بل إيقاع للفكر. ثمة صلة غامضة بين الخطوة والفكرة، بين نبض القلب واتساع الأفق الداخلي. العلم نفسه يخبرنا أن المشي يحفّز الدورة الدموية ويغذي الدماغ بالأوكسجين، فينشط الخيال ويتدفق الإلهام. العلم نفسه يؤكد ما تدركه الحواس. فقد أثبتت دراساتٌ حديثة أن السير المنتظم يحفز الدورة الدموية، فينشّط الدماغ ويزيد القدرة على التركيز لذلك لم يكن عجيبًا أن نرى روسو يكتب: “لا أستطيع أن أفكر إلا إذا مشيت”، أو أن نيتشه يجعل من السير مختبرًا فلسفيًا يخرج منه بأفكاره الثائرة.
هنري ديفيد ثورو (الكاتب الأمريكي) يقول:

“المشي هو أعظم مصدر للحرية، هو فعل بسيط لكنه يفتح أمام الروح فضاءات لا نهائية.”

تشارلز داروين (عالم الطبيعة):
كان يخصص وقتًا يوميًا للمشي في ما كان يسميه “ممر التفكير” في حديقة منزله، حيث كان يستجمع أفكاره العلمية الكبرى.

ويليام وردزورث (الشاعر الإنجليزي الرومانسي) كان يقول:

“الطريق الذي أسير فيه يولّد القصائد كما يولّد الأرض العشب.”

أما سورين كيركغارد (الفيلسوف الدنماركي) فيقول:

“كلما شعرتُ بمشكلة ثقيلة، خرجتُ أمشي. فأطول المشكلات لا تصمد أمام طول الطريق.”

وسط الزحام أكتشف عزلتي، ووسط الضجيج أصغي إلى الصمت الذي يسكنني. وجوه المارة مشاريع لقصص لم تُكتب بعد، والطرقات كتب مفتوحة للقراءة بعين الروح. المشي هنا ليس انتقالًا من مكان إلى آخر، بل انتقالًا من سطح الأشياء إلى عمقها.
إن التفكير سيرًا على الأقدام هروب جميل: هروب من الانغلاق إلى الانفتاح، من ضيق الغرفة إلى اتساع الأفق، من ثِقل الواقع إلى خفة الفكرة. هو فسحة للنفس، ومختبر للعقل، وجسرٌ يربط الجسد بالروح في لحظة صفاء نادرة.

في تلك اللحظة أدركت أن السير لم يكن للتأمل فقط، بل كان بحثًا عن المعنى المختبئ في التفاصيل.
المشي وسط الزحام يفتح في داخلي نافذة للهدوء. مع كل خطوة، تتداعى الأفكار كأمواج صغيرة، تتكسر على شاطئ الذهن.
تساءلت في داخلي:
“أليس كل إنسان مشروع عمل أدبي؟ أليست الشوارع كتبًا مفتوحة تنتظر من يقرأها؟”
كثيرًا من الفلاسفة والكتّاب ربطوا بين المشي والإبداع، وكأن القدمين حين تتحركان تمنحان العقل جناحين.
جان جاك روسو (الفيلسوف الفرنسي) كان يقول:

“لا أستطيع أن أفكر إلا وأنا أمشي. وعندما أتوقف عن المشي، يتوقف تفكيرى
لكنني، وأنا بين الناس، لا أفكر في العلم فقط، بل في الجمال. وجوه المارة تتحول إلى نصوص صامتة: وجه رجل متعب يشي بسنواتٍ من الكفاح، ابتسامة عابرة لفتاةٍ شابة تحمل وعدًا بمستقبل مختلف، ضحكة طفل تُبقي العالم حيًّا. كلهم يمرّون، وأنا أحاول أن أغوص في أعماقهم.

إن التفكير سيرًا على الأقدام ليس ترفًا ولا عادة، بل هو فن العيش نفسه: أن نرى العالم ونحن نخطو فيه، وأن نهرب منه لنعود إليه أكثر فهمًا وامتلاءً
إن متعة السير لا تكمن فقط في الهواء النقي أو في الخطوات التي تنشط الجسد، بل في هذا الحوار الداخلي الذي ينشأ بيني وبين العالم. أهرب منه، لكنني في الوقت نفسه أقترب إليه أكثر. أكتشف أن الزحام لا يُلغي العزلة، بل يهبني عزلة من نوع آخر: عزلة محاطة بالوجوه، غنية بالأصوات، مليئة بالإلهام.
واصلت طريقي، وقد امتلأ قلبي بدفءٍ غامض. كنت أعلم أنني، ما دمت أسير بين الناس، فلن أفقد القدرة على الحلم أو الكتابة.وعندما وصلت إلى نهاية المسير
ابتسمتُ ومضيت، وقلت في نفسي:
“ما دمتُ أمشي بين الناس، ستظل القصص تمشي داخلي.”

مقالات من نفس القسم