كتب: صبري الموجي
“من أدركته حرفةُ الأدب، وقع في مصيدة الفقر” عبارة تناقلتها كتبُ الأدب، يدمغ بصدقها حالُ من امتهن حرفة الإبداع. فبتقليب سير المُبدعين نري أنه أكَلَ بسببه أبو حيان التوحيدي الخُبز الجاف، ولبس القميصَ المُرقع، وبسبب قريض الشعر جاس أمل دنقل خلال شوارع القاهرة بحثا عمن يدفع له ثمن الغداء والعشاء.
فيما يري الروائي الإنجليزي “وليم ثاكري” أنَّ امتهانه الحظُّ الأنكد، وبسببه تخلتْ ماريا بيرنل عن تشارلز ديكنز حبِها الأوحد؛ لأنه لم يستطع أن يعولها بقلمه.
آثارٌ عديدة تكشف عن شقاء وعناء من سلبت ألبابهم تباريحُ الإبداع، فانساقوا وراء قرائحهم ليُسطروا إبداعا أشقاهم، وأسعد غيرهم، ورغما عن هذا فإنهم في كلِّ وادٍ من أوديته يهيمون، حتي وإن لم يجنوا ثمرة عطائهم، وهو ما يؤكد أنَّ “الفنون جنون” كما قال “نيتشه”، إذ اعتبر أن اللغة نوعٌ من الجنون العذب، فعند الحديث بها يرقصُ الإنسان فوق جميع الأشياء.
وهو ما يجعلنا نتساءل: هل ثمة علاقة بين الإبداع والجنون.. وما هو مفهوم الجنون وصوره؟
وبحسب د. يوسف فرج الأستاذ بجامعة القاهرة، فإنَّ الجنونَ لا يقتصر علي الاضطرابات العقلية، وإنما يشمل غرابة التفكير والسلوك والتصرف، فالخروج عن المألوف من طرق التفكير يُعدُ جنونا، وهو ما نراه مع الشاعر الذي يُطيلُ شعره، ويسير في سككٍ غير مألوفة، ومع الموسِيقيِّ الذي يهيمُ في الطرقات، والرسام الذي يرتدي أزياء غريبة، وإذا كان الإبداعُ جنونا، فثمة فارق بينهما، وهو أن الجنونُ يبدأ حيث ينتهي العقل المُرتبط بالواقع، ولكنَّ الأدب يبدأ بالجنون؛ لأنه يقومُ علي الخيال، ويعمل علي كشف الوهم، ولهذا يبدو أن قَدَر المُبدع عالِما مُخترِعا، أو أديبا أو فنانا هو أن يُضحي من أجل تقدُم البشرية.
ورغم عطاء المُبدعين الزاخر، إلا أنَّ المبدعين العرب يعانون أزمة.. فهل هذا حقيقة أم ادعاء؟
تلفت الروائية د. سهير المصادفة إلي أنَّ الكاتب العربي يعيشُ مفارقة عجيبة لا توجد في الغرب، إذ إنه قد يكونُ أديبًا مشهورًا، ويعاني انعدام الدخل من الكتابة؛ ويرجع ذلك لأسباب أهمها أنه منذ سبعينيات القرن العشرين، انقطع دعمُ الدولة للكاتب، فحرص هو علي مدِّ الجسور بينه وبين جمهوره من خلال سعيه إلي تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية، أو شراء مؤلفاته من قبل مكتبات المدارس والجامعات والمراكز الإعلامية الكبرى ومكتبات قصور الثقافة وأندية الشباب، أو سعيه الدؤوب لتُقرَرَ بعضُ إبداعاته على التلاميذ في مُقرراتهم الدراسية، بدلًا من المناهج القديمة التي تجعلهم ينفرون من اللغة العربية وآدابها.
ومادامت ثمة مشكلة فما هو الحل؟
يكمن الحلُّ من وجهة نظر د. المصادفة – في إعادة النظر في القوانين التي تُحدد علاقة الناشرين بالكُتَّاب؛ لأنها بكلِّ أسف ليست في مصلحة الكاتب، فغيرُ مقبول أن يكون الأدب في ذيل اهتمامات المسئولين، الذين يدعمون الرياضة والفنون بأموال طائلة، ويضنون علي الثقافة والفكر، وهذا ما رأيته مع قناة فضائية دعيت إليها بمناسبة صدور رواية جديدة لي، وفوجئت بأنَّ أجر فقرة سابقة لي مع لاعب كرة نصف مشهور تجاوز ربع مليون جنيه، ولم أحصل أنا إلا علي الفتات، وهو ما يؤكد أنه زمنهم وسياقهم !
والسؤال المُلح.. هل المشهد الثقافي يعاني انحدارا.. وهل تعاني دولة الإبداع شروخا وتصدعات؟
تُجيب عن هذا الروائية والناقدة د. كاميليا عبد الفتاح بالإثبات، إذ لاحظتْ أنه بتتبع النشاط الكمي للمشهد الثقافي وجدت أنه أفرزَ كثيرا من السلبيات لعدم وجود معايير وضوابط تُنظم هذا الزحام، فتراجعتْ فرصةُ كثير من المُبدعين الحقيقيين في نشر إبداعهم وسط هذه القنوات المُتعددة للنشر؛ لأنهم حوصروا بإلحاح النتاج الغث الذي أفلح أصحابُه في فرضه على كلِّ مواقع النشر بسطوة النفوذ أو المال أو الصداقات والشللية والقانون الساحر المعروف بتبادل المصالح.
وبلغتْ هذه الإشكالية درجة عالية من التَّأزم في راهنِ مشهدنا الثقافي المصري والعربي على الرغم من الدور المهم الذي اضطلعت به السوشيال ميديا في نشر النتاج الإبداعي والفني، وفي ذيوع أسماء كثيرٍ من الأدباء والفنانين من أجيال مختلفة، فضلا عن الزيادة المطردة في المجلات والصحف المتخصصة ورقيا وإلكترونيا، جنبا إلى جنب القنوات الفضائية، ورغما عن كلِّ هذا فإنَّ التاريخ الإنساني عبر أطواره المُتعاقبة يؤكد لنا صعوبة الجمع بين الموهبة الإبداعية وموهبة التسويق والدعاية والعلاقات العامة في شخصية واحدة.
إذن ما هي معاناة المبدع الحقيقية؟
تري الناقدة د. كاميليا عبد الفتاح أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ الموهبة تستنفد كل الطاقات الروحية والفكرية لصاحبها، تستقطبُ مهاراته وقدراته وتفكيره وذكاءه، ويتحول كل هذا إلى موارد إمداد للموهبة، فالمُبدع يبرع في نطاق الحيل الفنية، والرواغ الدلالي، لكنه فقيرٌ في الدهاء الاجتماعي وفي التحايل على أبواب الرزق وأسباب الحياة، وتتزايد المشكلة مع عدم وجود مؤسسات متخصصة في تسويق العمل الإبداعي والدعاية اللائقة له وتوزيعه داخل وخارج مصر، والحرص على ترجمته، وترشيحه للجوائز الحقيقية، فهناك من الأدباء في مصر من يعجز عن نشر نتاجه، وكثيرٌ منهم لا يكتسب من النشر باستثناء الحاصلين على جائزة كبرى.
ولو سلمنا بوجهة نظر المبدعين حول وجود علاقة بين الفقر والإبداع، فإنَّ الناشر أحمد علي صاحب دار نشر شهيرة يرصد سببا آخر للمشكلة وهو قلةُ المبييعات، التي تعود بالتبعية علي المبدع نفسه، الذي يتقاضي 10% من قيمة البيع، وحيث إن المبيعات قليلة في مجتمع لا يقرأ، فإن مردود البيع قليلٌ جدا.
وبعد رصد العديد من الآراء نخلص إلي أنَّ هناك متلازمة بين الفقر والإبداع، وهي أزمة قديمة حديثة تستشرف حلا، ربما تجود به الأيام القادمة الحُبلي بالحراك الثقافي !