الأشواق والرؤى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسني حسن

حين تزوج المصطفون السماء!

كانت اللحظة الحزينة الحاسمة، في تاريخ محبة الحكمة، حين قررت أثينا أن تقضي على سقراط بتجرع كأس الشوكران السام، بتهمة إفساده لعقول الشباب، وهو ما تقبله حكيم الشوارع والأسواق الأثينية بهدوء رواقي مثير. أمَا تلميذه النابه أفلاطون فقد استوعب الدرس جيداً، ومن ثم فقد أدخل حكمة سقراط الجوالة لسجن حديقة أكاديموس، لتغدو فلسفة. وهكذا هجر العقل براح الناس، واستنام في مخادع قاعات درس الأكاديمية، لتستحيل الحكمة النابضة السيالة نظريات سياسية وما ورائية وأخلاقية وجمالية ومعرفية لا نهاية لها، لا في الجدال والمناقضة والتناسل الذاتي، ولا في الاغتراب عن حياة البسطاء والمحزونين بآلامها وآمالها الإنسانية تماماً. وهكذا أنجب العجوز الدميم إبن القابلة، رغماً عنه، سلسالاً من الأرستقراطيين الشبان الجميلين الذين صادروا أرض الفقراء الصغيرة من الفلاحين والعبيد لحساب الأوليجاركية والسماء، فهل عرفنا الآن التاريخ الحقيقي العميق لاقتران الصفوة بالسماء؟

 

أتراكسيا

في الحياة، كما في الفن، ثمة اختياران وجوديان أساسيان: المأساة أو الملهاة، التراجيديا أو الكوميديا، وبمعنى آخر المندبة أو المسخرة.
فيما يخصني، وبكل أسف، وبعدما تيقنت أنه ما من جدوى بعد لأي أسف، فقد أفنيت السنين والأيام والساعات الممنوحة لي، في الأغلب الأعم، ضمن نطاقات الاختيار الأول. فلأسباب، تظل مجهولة بالنسبة لي، فقد تبنيت وجهة النظر، الصارمة الساذجة، التي تعتبر الحياة مهمة عمل ورحلة كفاح، مثيرة ومتواصلة ومقضي عليها بالحبوط والإخفاق، باتجاه تحقيق ما لا نهاية له من الأهداف والغايات: النجاح، السعادة، الحب، اللذة، المجد، الترقي الإنساني، الحرية، الخلاص من الشقاء، الإفلات من قبضة الضرورة….إلخ.
وعلى الرغم من وقفاتي المتكررة، بين وقت وآخر، لالتقاط الأنفاس، ومراجعة خرائط الطريق، والتساؤل عمَا إذا كنت أصبت الاختيار، أو ضللت السبيل للخلاص المنشود، فقد بقيت أجدني راجعاً، وبمنتهى الاندفاع والحماسة، لاستكمال المسير، متعللاً بأن الأمر قد قُضي منذ زمن بعيد، ربما منذ قبل ميلادي الشخصي، عبر الجينات الموروثة، إنْ بيولوجياً أو ثقافياً، وأن الموت في قلب طريق، ولو كان يفضي للتيه، لأفضل من القعود والعطالة على المفارق الحاسمة، وأن الحياة حركة، والحركة قادرة، دوماً، على صنع الحياة، تصويبها وتدقيقها، وصولاً بها إلى غاياتها العظيمة؛ تلك التي لم أدرك كنهها يوماً.
أمَا في ليالي السهر والأرق الطويلة، وكذا في اللحظات الفارقة بحياة المرء، حيث يلقى نفسه، فجأةً ومن دون استعداد مسبق، عارياً من كل المتاريس، العقلية والوجدانية والمجتمعية المسبقة، ومنكشفاً، كليةً، بمواجهة ذئاب الحقيقة والسؤال العاوية بسهوب الروح التي تتلاعب بها رياح عاتية، تصلصل في أعطافها قهقهات هازلة ساخرة، في مثل تلك الأوقات، الحرجة المحرجة، فكثيراً ما ضبطت ذاتي راغباً في التملص من كل ما اعتدتُ أن أحسبه ذاتي، حالماً بترك كل شئ، وأي شئ، الآن، في هذه اللحظة بالتحديد، والفرار بعيداً بعيداً، حتى من دون إلقاء نظرة متهكمة، أو متحسرة فلا فرق، على ما أهجر، على كل ذاك الذي كرست أيامي، بطولها، لتثبيت أركانه، وتشييد بنيانه كي لا يهجرني هو.
وهكذا، أظل أقطع الأيام والليالي، منقسماً وموزعاً، بين المادية الجدلية والتاريخية صُبحاً، والرواقية والبوذية مساءً، بين ماركس ولينين نهاراً، وماركوس أوريليوس وسيدهارتا ليلاً، فهل لإنسان، بائس حائر، أن يقدر على مواصلة العيش، على هذا النحو الشقي، بقلبين في صدره؟ هل يُعقل ذلك؟ أو هل من ضرورة أو معنى لذلك، أصلاً؟
ربما، ذات صباح، بينما أضرب، على غير هدى، بتيه الطريق، بطريق المتاهة، ألتقيه صدفة، فقد حدثتني الكتب القديمة عن أنه كان يسعى، بذات الدروب، ناشداً الأتراكسيا. نعم، فخلافاً لجميع من ذكرت أسماءهم هنا، لم يكن أبيقور ليكف عن السعي، لحظة واحدة من عمره الطويل، خلف تعطيل كل نزوع إلى السعي بروحه، ولا ليطلب، لنفسه ولإخوته البشر، شيئاً أو رجاءً، من إنسان أو طبيعة أو إله، سوى اجتثاث جذور كل مطلب بداخله. فهل أجدها يوماً ما؛ تلك الطمأنينة، السكينة، الفراغ، الأتراكسيا؟

 

المستنير

عندما سُئل بوذا عن الإله أجاب بأنه لا يعرف شيئا عن سر الإله، بل أشياء عن شقاء البشر!

 نفهم من هذا: أولا أننا ينبغي ألا نتحدث إلا عما نعرف حقا، ثانيا أن سر الإله ربما هو غير قابل للاكتناه أو المعرفة لسبب أو لآخر، ثالثا، والأهم، أن شقاء البشر هو ما يتوجب على الإنسان المستنير البحث في مسبباته وسبل السيطرة عليه. وإذا كان البوذا قد قدم اجتهاده في هذا المضمار، مؤكدا أن الاشتهاء هو المسبب للشقاء، وأن كف الشقاء لا يتحقق إلا بالتحرر من الاشتهاء، فإن هذا الطرح، على عظمته وأهميته، يبقى مجرد اجتهاد، يتساوى ويتوازى، وقد يتقاطع أو يتصالح أو يتعارض، مع اجتهادات إنسانية أخرى عظيمة على طريق شائك طويل قطعته الإنسانية، بعناء بالغ، مذ استطاع الجد الأول فرد قامة السعدان الذكي والانتصاب واقفا على قائمتيه الخلفيتين، والتحديق في المدى اللا نهائي لكون يغريه بوهم الخلود، ويسحقه بواقعة تناهيه الشخصي المحتم!

 

النبيُ المنبوذ

قد لا أتبع من الأنبياء والرسل إلا أولئك المنهزمين المنبوذين، ذلك أن الحقيقة، باعتقادي، لا ترضى بقربانٍ يقل عن كامل وجود وذات عاشقها، كامل الروح والجسد، الضمير والدم، العقل والحواس، كبرهان صدقٍ، ودليل تكريس. أمَا هؤلاء الأنبياء المنتصرون، فقد استبقوا لأنفسهم، وللتاريخ الإنساني بطبيعة الحال، بعضاً من ذواتهم، ضانين بها على الحقيقة، المجردة المطلقة، ليؤسسوا بعنفوانها الدول والممالك، ليقيموا بصخرها النُصب والمعابد، وليسطروا بحبرها الكتب والصحائف؛ تلك التي سيحاولون أن يبيعوها، جميعها، للبشرية كتجليات مقدسة لحقيقة بشروا بها، يوماً، ثم راحت تنأى عنهم، بعيداً. أجل، سينتصر الأنبياء، فتنهزم النبوة، وسيُخلِد التاريخ الرسل، لتنسرب رسالاتهم وتضيع في حمأة المجد ومستنقع الخلود!

 

اللا معقول

ما من لا معقولية تفوق لا معقولية هذا الوجود سوى محاولة عقلنته!

 

المعنى

ثمة مستويان للنظر في وجودنا الشخصي، العابر، خلال رحلة بحثنا عن معنى هذا الوجود:
الأول: ذاك المستوى التاريخي، الذي يموضع وجودنا في سياق زماني-مكاني محدد، حيث يتواصل الوجود الشخصي لستين سنة مثلاً (أكثر قليلاً، أقل قليلاً) يضطرب عبرها سعينا، اللاهث المحموم، لمطاردة مباهج النمو والتفتح (الثروة، الحب، الأبناء، المجد، النجاح، الحرية….إلخ) وهو ما نفلح في اقتناصه، وتجربة الفرح به، أحياناً، والطمع الساذج في تأبيده، وهو ما نخفق في ضمانه، دائماً، لكن، وبرغم ذلك، ربما استشعرنا أن لحياتنا معنى يتحقق في، وبالضد مع، حتمية الموت ويقين عرضية ذلك الوجود التاريخي لذواتنا العابرة.
والثاني: ذلك المستوى الأنطولوجي، الذي يموقع وجودنا في سياق كوني لا نهائي، حيث يبدو هذا الوجود كقطرة، ضئيلة تائهة، في محيط بلا شواطئ، مترامي الأطراف، منفصلاً عن أية أبعاد زمكانية، وملقى به فوق ذرة غبار تافهة، تسبح في فلك نجم متوسط، يقعي عند طرف مجرة عادية، تماثل بلايين البلايين من المجرات، التي تتناسل كالعناقيد السربية، في كونٍ لا يعرف لكينونته من قانون سوى التمدد، كونٍ غير مبالٍ، ولا منتبهٍ أصلاً أو معنيٍ بالمرَة، بذواتنا السرابية، ولا بعطشنا الحارق للارتواء بعذب المعاني.
والسؤال الذي يفرض نفسه، وبإلحاحٍ، الآن:
هل ثمة معنى، بأي معنى، للبحث عن معنى؟!

 

تشتت

ثمة خبر سعيد ينبغي أن أزفه لكِ يا صديقتي
فمبصادفة قدرية غريبة
اختارت لنا الحياة أن تتقاطع مساراتنا عند نقطة بعينها
لعلها تلك التي يسمونها، عجزاً عن التعريف، الحب
لكن، وكما يحدث عادةً في مصادفات القدر الغريبة
ثمة خبر حزين أخشى أن أذكرك به يا صديقتي
فحين تختار الحياة لمساراتنا أن تتقاطع
فإنها تختار لها، في حقيقة الأمر، أن تنفذ كومضة عابرة
حيث تتبدد في لا نهائية الامتداد
فلعله ذلك الذي يطلقون عليه، عجزاً عن التوصيف، التشتت

 

بالصُدفة

لا وجود، في الوجود، لشئ اسمه الصدفة؛ فالصدفة هي اشتغال الحياة على ذاتها، بصمت وسرية وبالطاقة القصوى، لاستيلاد ذلك الذي يطلق عليه العميان اسم الصدفة، أي أن الصدفة هي تجلي الحضور في توهمات الغياب، أو تحقق المجئ في عماء الرواح.

 

القمر والسبيل

القمر الفضي الساكن في سماء الدار. القمر الحلم يغزل خيطان الوعود المستحيلة بالقلوب الواهنة. ودَرجٌ بلوري يصاعد نحو القمر، ولا يصل. القمر المخاتل في المحاق والبدر. وما من سبيل إلى السبيل، ما من سبيل إلى السبيل!

 

إدراك متأخر

على أعتاب الستين؛ عندما تستيقظ من نوم طويل، وتدرك أنك ما عدت تنتظر شيئاً ولا أحداً، أو أنه لم يكن ثمة، أبداً، ما تنتظره ولا من تنتظره، فتتمطى بكسل وتثاقل وتخاصم النوم حتى ما بعد هبوط الليل!

 

حفلُ التفاهة

ولتحرصْ على أن تكون آخرَ الواصلين وأولَ المغادرين، فحفل التفاهة، الأبدي ذاك، لا يدخر لمرتاديه، من المُتع، أثمن من ضجرٍ رتيب!

 

 

مقالات من نفس القسم