الأستاذ مصطفى

الأستاذ مصطفى
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مجدي خلاف

الأستاذ مصطفى!.

.زر ضغطت عليه فانطلق شريط مرئى أمام عينى.صور تلو صور.بقايا أحاديث وروائح عبقة وموسيقى قديمة.والحقول الخضراء حول المدرسة الصغيرة.وحصة العربى.وعشرة على عشرة فى موضوعات التعبير.            

الأستاذ مصطفى.!

  • برافو ياعلى. موضوع التعبير الذى كتبته عن الإقطاع ممتاز.

صورة كراسة التعبير مازالت محفورة فى رأسى.ومخارج الألفاظ من فم الأستاذ مصطفى سلاسل ذهبية تعمل فى عقولنا نحن الصغار معانى القوة والرحمة فى وقت واحد.وشخصيته القوية التى كانت تجعلنا نقف (إنتباه من حديد)  كما كان يقول دائما.وصوته يزلزل المدرسة.ونحن نردد وراءه فى حركات شبه عسكريه.

  • صفا.-
  • عرب.
  • إنتباه.
  • أحرار.

تتوق نفسى لهذه المشاهد البريئة.كأننى كنت فى حلم جميل.طابور الصباح وشارة الشرطة المدرسية الحمراء على زراعى الأيمن والكاب الأحمر ذو الخط الأزرق على رأسى.ونشيد الصباح تتغنى به كل الحناجر.

( بلادى.بلادى.لكى حبى وفؤادى ).

الأستاذ مصطفى.!

  • ماذا تحب أن تكون عندما تكبر ياعلى.؟
  • ضابط شرطة يا أستاذ.!!
  • خسارة ياعلى.موضوعات التعبير التى كتبتها عن الحق والعدل والإسلام تؤهلك لتكون أديبا.!!

ما زلت أتذكر كل شىء.صورة وصوتا وحركة.فأبعد شيئا فشيئا عن واقع ممتلىء بعلامات الأستفهام.!!!!

*******   

قطعت داخل القرية أربعة كيلومترات.لم أشعر بهذه المسافة.فقد كنت فى قرية أخرى تبعد عشرين عاما على الأقل هذه إذا القرية التى رأت طفولتى قبل أن أنتقل إلى المدينة.وهذه أول مهمة لى بعد إستلامى لعملى فى مركز الشرطة التابعة له قريتى التى تغيرت كثيرا.كثرت البنطلونات والقمصان والرؤوس المكشوفة.أرض قريتى زرعت بالطوب الأحمر والأسمنت والحديد.إنكمشت المساحات الخضراء فى إستحياء بين وخلف المزارع الخرسانية.!!

أمام عمارة كبيرة إرتفعت أربعة طوابق وقفت سيارة الشرطة التى أستقلها من المركز.

نسيت أن أذكر أننى طوال الطريق داخل القرية عندما كانت تبطىءالسيارة كنت أسمع أحاديث متكررة على ألسنة أشباه الفلاحين فى قريتى.

  • الأستاذ مصطفى صدر له قرار إزالة ولم ينفذ.!!
  • طبعا.الكبير كبير!!!
  • ألم يدفع رشوة لمهندس الجمعية.!!!
  • أصبح السمك الكبير يأكل السمك الصغير.فى هذه البلد.!

تهتزصورة العمارة أمام عينى وتثبت أو تحاول الثبات صورة بريئة قادمة من أعماق الذاكرة لبيت ريفى بسيط بنى بالطوب اللبن.وسقفه مصنوع من عروق الخشب والسنط والكافور.وحجرة متواضعة فرشت بالحصيرالبسيط.نجلس عليها نحن الصغار.نسمع للأستاذ مصطفى.!.وهويشرح لنا دروس العربى.

هذه إذا عمارة الأستاذ مصطفى مدرس العربى.هذا إذا موضوع مهمتى.الأستاذ مصطفى بنى خارج كردون المبانى.وبقية الأهالى أزيلت مبانيهم.وأشباه الفلاحين فى قريتى يشكون.لماذا هدمت مبانيهم ولم تهدم عمارة الأستاذ مصطفى.؟؟؟

******

دخلنا حجرة إستقبال فخمة ذات أثاث فخم.وفى أحد الأركان مكتبة فخمة للتليفيزيون والفيديو والشرائط.وتحت أقدامنا سجاد أكثر فخامة وتتدلى من السقف ثريا هائلة.!

ـ السلام عليكم ياحضرة الضابط.

هذا!ذا الأستاذ مصطفى.أين الوجه القوى والجسد الرياضى والخطوات الواثقة.؟؟!!.أصبح الجسد بدينا.والعيون غائرة.والأقدام متثاقلة.!

ـ ألا تتذكرنى يا أستاذ.أنا على.تلميذك فى إبتدائى.الأول فى التعبير!.

ـ والله لا أتذكر.تلاميذى كثير.أهلا بك يا حضرة الضابط.

يخرجنى من حلم جميل ومشاهد طفولية بريئة.

ـ كما ترى يا حضرة الضابط.أنا بنيت عمارتى أربعة طوابق.الطابق الأول محلات تجارية.تخدم القرية.سوبرماركت.مطعم وكافيه.البلد تتطور.الطابق الثانى عيادات تخصصية.الطابق الثالث.شقق تؤجر مساهمة فى حل مشكلة السكن.!كيف يزال مبنى كهذا!؟؟.أنا إتصلت بالوزير والمحافظ.!.سهل ياحضرة الضابط أن تزيل بيوت الفلاحين الذين يبنون للسكنى فقط.لا هم لهم سوى التناسل والتكاثر.تفضل ياحضرة الضابط لترى المبانى.!

سرت كالمخدر وعلامات الاستفهام تملأ رأسى.وموسيقى خليجية تأتى من إحدى حجرات المنزل.

نسيت أن أذكر أن الأستاذ مصطفى خرج معارا لإحدى الدول الخليجية.وفضل البقاء هناك بعد إنتهاء سنوات الإعارة وترك وزارة التربية والتعليم.

صورة للأستاذ مصطفى يلبس طربوشا على الحائط تثير عدم تناغم مع الأثاث والديكور.!

مازال الأستاذ مصطفى يأخذنى من حجرة لحجرة وأنا أسير كالمخدر.!

ـ يا حضرة الضابط.!

يذكرنى بالمهمة.يذكرنى بأنى الضابط (على عثمان).جئت فى مهمة  معاينة محل شكوى تظلم الأهالى من إزالة مبانيهم.وعدم إزالة عمارة الأستاذ مصطفى!.ورشوة الأستاذ مصطفى لمهندس الجمعية.!!

ـ يا حضرة الضابط.!

يجعلنى أعيش واقعا خلفته الريالات الخليجية.وكلما مر الوقت تهدم جزء من تمثال جميل كنت نحته فى رأسى للأستاذ مصطفى.!

وكلما مر الوقت إبتعد عن أذنى ذلك الصوت القوى الذى كان يغنى معنا أغنية (بلادى بلادى).وكلما مر الوقت إبتعدت عن عينى صور طابور الصباح وتحية العلم وشارة الشرطة المدرسية الحمراء.وكراسة التعبير.

يضيق صدرى وأشعر أننى بحاجة أن أصرخ بأعلى صوت.أين الأستاذ مصطفى!؟؟

 

مقالات من نفس القسم