ثم عادت منذ يومين وسألتني مرة أخرى عن قصة ساعي البريد وقالت لي: احكِ لي هذه القصة ثانية! ولأن الأمر لم يكن اكثر من دعابة أدبية مني وبما أنها حين تبتسم في المساء تصبح الشمس على خير في اليوم التالي وبما انني اعرف مدى الأرتباط الشرطي ما بين ابتسامتها والحكايات فقد قررت أن اقص عليها حكاية ساعي البريد المتقاعد والارملة التي احبها.
أجل يا عزيزتي، ثمة أرملة في الحكاية أيضاً..بل إننا عملاً بأشهر مبادئ الذوق العام سوف نقدمها حضورها في عنوان الحكاية على حضوره لتصبح حكاية (الأرملة وساعي البريد المتقاعد).
هل تودين أن تعرفي ماذا فعل ساعي البريد المتقاعد حين استيقظ ذات صباح على أمل أن تصله رسالة من شخص ما ليعرف أخيرا شعور المستلم؟
غداً اقول لكِ …
…. …
ألم أقل لكِ من قبل إن الحكايات تبدأ كما تريد هي يا حبيبتي لا كما يريد أحدنا.
حكايتنا بدأت في صباح قريب، حين جلس ساعي البريد المتقاعد يفكر في أصل الرغبة التي انتابته، كان يعرف انه حين قبل هذه الوظيفة قبل سنوات، فلن يكن مسموحا له أن يتلقى أية رسائل او يرسل أي نوع من الخطابات.
كان وحيدا..ولهذا قبل الوظيفة دون تردد
فالأشخاص الوحيدون في هذه المدينة هم من يقبلون العمل كسعاة للبريد
لأنهم لا ينتظرون رسائل من أحد
وليس لديهم من يرسلون إليه إخبارهم الطيبة
أو الحزينة..
منذ اليوم الأول حدد ساعي البريد لنفسه نظاما صارما للتعامل مع طبقات المشاعر الكثيفة التي تسببها عملية تسليم الخطابات،كانت تلك اكثر متاعب المهنة شيوعا بين زملائه وكان متأهبا لها.
قبل سنوات وضعت هيئة البريد قاعدة تلزم الأشخاص بوضع شريط وردي صغير على الخطابات التي تحمل انباء سارة أو أخبار جيدة مرتقبة، في مقابل شريطة سوداء مذهبة على الرسائل التي تحتوي تفاصيل سيئة أو اشعارات قاتمة لكي يصبح لدى المُرسَل إليه حرية أن يتسلم الخطاب او يرده إلى المُرسِل.
ويوم أن تسلم صديقنا العمل قام بشراء دفتر صغير لكي يدون فيه أسماء المرسل إليهم وأمام كل منهم وضع علامة تدل على عدد مرات تسلمه خطابات وردية او رسائل سوداء وذلك لكي يوطن نفسه على فكرة أن الحياة توازن دوما ما بين الوردي والأسود فلا يحزن حين يسلم خطابا بشريطة سوداء ولا يفرح كثيرا حين يتهلل وجه مستلم الرسائل الوردية.
كان يمارس مهنته بمنتهى الاحترافية فينظر إلى ملامح المستلمين طوال اليوم دون أن يبدو عليه أي أنفعال أو تأثر بالأسود ودون حتى ان يقابل ضحكة مستلم الوردي بابتسامة مجاملة أو تهنئة.
كان يشعر بأنه إله صغير يعرف ما كان من وردي سابق ويحدس بما سيكون من أسود قادم، ولم يكن الدفتر يفارقه، وكلما امتلأت صفحاته كان يذهب لشراء دفتر جديد من نفس النوع والحجم وطبيعة الورق لكي تبدو كل الدفاتر في النهاية مثل دفتر واحد مقسم لأجزاء.
في بعض المرات كان يمد يده بالخطاب الأسود فيرفض المستلم أن يأخذه ويطالب برده للمرسل لكن تلك المرات لم تتكرر كثيرا، فأغلب المستلمين يعرفون أن الأنباء التي تحملها الخطابات السوداء سوف تصل إلى وسائدهم بحلول المساء قبل أن يناموا ولهذا كانوا يفضلون معرفتها في الصباح حتى يتسنى لهم التفكير في كيفية التخلص من تأثيرها الكئيب عبر تفاصيل اليوم.
وفي الحقيقة فأن هيئة البريد كانت تلزم السعاة بتوزيع الخطابات ذات الشريطة السوداء في الصباح ثم يليها توزيع الرسائل الوردية التي يمكن استقبالها في أي وقت من اليوم.
جلس ساعي البريد يتفحص دفاتره العديدة باحثا عن شئ ما ربما يفيده في إشباع الرغبة الاذعة التي تلدغه منذ الصباح الباكر.
مر بعينيه على قوائم المستلمين اللانهائية وتوقف احيانا ليتمعن في طبيعة العلامات التي أمام كل منهم لكنه وجد أن اغلبهم يحمل عددا متساويا من اشارت الوردي والأسود وكان هذا أمرا اعتاد عليه، إلى أن استوقفته علامة غريبة موضوعة أمام مستلم بعينه وتبدو فريدة من نوعها حيث لا تكرر في أي من القوائم الأخرى للمستلمين في كل غالبية الدفاتر.
كانت العلامة تشير إلى واقعة لم تكن مسبوقة بالنسبة له ولم تتكرر ثانية فيما بعد حتى تقاعده في الأربعين من عمره وهو السن الذي لا يجوز لأحد أن يعمل بعده كساع للبريد لأن مشاعره تكون قد استهلكت تماما من عملية تسليم الخطابات بشكل يومي لسنوات طويلة وساعتها لا يمكن توقع رد فعله أو مدى التزامه الأمانة وتحمل المسؤلية.
كان يوم عمل عادي بالنسبة له، وكان الخطاب يحمل شريطا اسودا شديد القتامة ودائرة مذهبة باهتة كأنها تقف وسط الأسود على استحياء. الان يتذكره، كان أخر الخطابات السوداء في ذلك اليوم واراد أن يسلمه سريعا لينتهي من فقرة ردود الأفعال الكابية التي بدأت منذ الصباح.
نظر إلى اسم المستلم وتأكد من رقم الشقة ثم طرق الباب ففتحت له تلك المرأة….
كان وجهها جميلا يحمل عينين كانهم انتهوا للتو من وصلة بكاء طويل.
لاشك أنها كانت تنتظر الخبر السيئ الذي يحمله الخطاب الأسود..حسنا سوف يسهل هذا من المهمة..
هكذا ردد بينه وبين نفسه ومد يده بالرسالة وهو يسألها عن اسمها ليتأكد أنها هي..
قالت له: أنا..
وصمتت.. ثم مدت يدها والتقطت الخطاب من يده وبعدها اتت بأمر غريب!
ابتسمت !!
أجل..ابتسمت ولوهلة زال اثر البكاء من عينيها ولمع لونهما البراق ثم عادت طبقة الدموع الشفافة تكسوها لكن ظلت الابتسامة معلقة على شفتيها بل واذادت اتساعا وهي توقع بالأستلام.
لم تستغرق عملية التسليم أكثر من دقيقة واحدة هبط بعدها ساعي البريد إلى الشاعر ووجد نفسه يقف في الجهة المقابلة من بيته!!
نحن إذن جيران نسكن نفس الشارع ..كيف لم انتبه لهذا وأنا قادم قبل قليل، ثم أن هذا هذا عجيب فأنا لم ارها من قبل !!
توقف وأخرج دفتره واحتار ماذا يضع من علامات أمام أسمها!!
هل يضع علامة الاسود أم الوردي!!
ولما شعر أن الأمر سوف يستغرق وقتا طويلا قبل أن يحسمه وضع تلك العلامة الغريبة مرجئا الأستقرار على العلامة النهائية حتى أخر اليوم.
استعاد تفاصيل اللقاء كثيرا، وتذكر أنه رأها فيما بعد اكثر من مرة في الطريق تسير دون انطباع محدد على وجهها وكأن ملامحها الجميلة لا تعرف إلا الصمت لكنها ظلت تبدو دوما كمن انتهى من وصلة بكاء طويل
تماما ما رآها أول مرة..
أحس ساعي البريد المتقاعد انه عثر على إشارة لما كان يبحث عنه بداخل دفاتره العديدة في محاولة للأجابة على سؤال الشعور المنتظر بأستلام رسالة من شخص ما..
ربما كانت الأجابة لديها إذن
لدى (الأرملة)…