الأدب السعودي أسير الحركة الوهابية

الأدب السعودي أسير الحركة الوهابية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فخري صالح*

يبدو أن موضع الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف ملتبسا، بل إشكاليا، بوصفه روائيا سعوديا. ولهذا السبب فإن تعيين انطلاقة الرواية السعودية شديد الصعوبة. فبالإضافة إلى كون المجتمع السعودي شديد التقليدية في رؤيته للعالم، فقد مثل هذا المجتمع عقبة رئيسية في وجه تطور الأشكال الأدبية وتحديثها. فحتى الشعر، الذي كان، ولا زال، النوع الأدبي المركزي في الثقافة العربية، وقد سماه مؤرخو الأدب "ديوان العرب"، لم يمر في الأدب السعودي بالتحولات نفسها التي مر بها الشعر في البلدان العربية الأخرى، كالعراق ومصر ولبنان. وهكذا فإن هذا النوع الأدبي، الذي يحتل مكانة مميزة في الثقافة العربية، لم يجر تثويره في السعودية إلا في سبعينيات القرن الماضي.

 

لقد تأسست الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثامن عشر، وكان مؤسسها محمد بن سعود الذي أقام تحالفا بين آل سعود وعالم الدين المتشدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1811) الذي قاد حركة إصلاح ديني دعت إلى “تنقية الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به”. وفي الحقيقة أن ترسخ حكم آل سعود لم يحصل قبل استقرار الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية، أولى عواصم حكم آل سعود. ففي عام 1756 وافق الأمير محمد بن سعود على دعم ابن عبد الوهاب وتبني دعوته للقضاء على الهرطقة في الممارسات اليومية للمسلمين. لقد جعل الوهابيون، الذين هم الواضعون الحقيقيون للأيديولوجية الرسمية للدولة السعودية، من المستحيل تطور الأنواع الأدبية في السعودية خلال السنوات الماضية، ووقفوا عقبة دون كسر قيود التقاليد الأدبية.

“حاول منيف في “شرق المتوسط” و”الأشجار واغتيال مرزوق” أن يرى جذور إنحطاط العرب وهزيمة 1967، من خلال قراءة التاريخ القريب للعرب بعد الاستقلال”

ولد عبد الرحمن منيف (1933 – 2004) لأب سعودي وأم عراقية، وقضى مرحلة الطفولة والصبا في العاصمة الأردنية عمان. لقد عاش سنوات التكوين في بلد يختلف في أوضاعه عن البلد الذي حمل جنسيته؛ كما أنه لم يعش في السعودية بعد أن غادر الأردن للدراسة، بل عاش في بغداد وباريس ودمشق بقية حياته. لكن جنسيته السعودية لم تكن هي ما جعلنا نعده روائيا سعوديا بل موضوعات رواياته. في بداية مشواره الأدبي كتب عبد الرحمن منيف روايتين تجريبيتين وضعتا اسمه بين الروائيين العرب البارزين في سبعينيات القرن الماضي؛ فقد حاول منيف في “شرق المتوسط” و”الأشجار واغتيال مرزوق” أن يرى جذور إنحطاط العرب وهزيمة 1967، من خلال قراءة التاريخ القريب للعرب بعد الإستقلال.

لكن ظهور خماسيته الروائية “مدن الملح” دفعت عمله إلى مقدمة الأعمال الروائية التي أنتجها العرب في القرن العشرين. في “مدن الملح” يعالج منيف موضوع إعادة كتابة تاريخ الجزيرة العربية، وشرق المتوسط كذلك، في رواية متعددة الأجزاء تسعى إلى تشريح عمليات التحول التي أدى إليها إكتشاف النفط في المنطقة، وإلى رؤية أشكال القهر التي نشأت بسبب تحالف الإستبداد والمال والإمبريالية. يتركز عمل عبد الرحمن منيف، الروائي وغير الروائي كذلك، حول موضوع الاستبداد والإنحطاط في الجزيرة العربية؛ وهذا ما أعاده إلى العربية السعودية وجعل عمله الأكثر مقروئية في البلد الذي يحمل جنسيته. ومع ذلك فليس هناك روائي سعودي واحد مشى على خطى عبد الرحمن منيف، إذ لم يملك أي منهم الجرأة ليفعل ذلك في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، أو يحفر للعثور على جذور الإستبداد في المجتمع السعودي.

من هنا فإن الأنواع الأدبية الجديدة، مثل الرواية والمسرح والفنون التشكيلية، لم تدخل إلى الحياة الثقافية السعودية، إلا في فترة متأخرة نسبيا. لقد خنقت الوهابية، التي ظلت تشدد على ضرورة أن تكون الفنون إسلامية، تتماشى مع المعايير الإسلامية، تطور الإنتاج الأدبي في السعودية. ولكونها تحتضن أهم مدينتين مقدستين في العالم الإسلامي، مكة والمدينة، وكونها في الوقت نفسه أكبر منتج للنفط في العالم، فقد أصبحت السعودية واقعة بين شقي رحى الماضي الديني المقدس ووقائع الحياة اليومية ومتطلباتها، بين الأشكال التقليدية للعيش وضرورات التحديث والحداثة. وقد صعّب هذا الحلف المقدس بين الدولة والحركة الدينية الوهابية على الشعراء والروائيين السعوديين أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يكشفوا الغطاء عن أشكال القهر المخبوءة التي تحول دون تطور المجتمع السعودي. لا يتعلق الأمر فقط بسؤال الشكل وضرورة تثويره، ولا باستعارة أنواع أدبية جديدة، مثل الرواية، من إخوتهم في البلدان العربية الأخرى، بل إن الأمر يتعلق بتجربة وجودية ينبغي أن تعاش. ينشر الروائيون السعوديون، جميعهم تقريبا، أعمالهم في بيروت أو القاهرة أو في أوروبا، في بعض الأحيان، بسبب القيود الموضوعة على حرية التعبير. فإلى وقت قريب، ظلت روايات عبد الرحمن منيف ممنوعة في السعودية؛ ورغم رحيله عن عالمنا، وتحسن حرية توزيع الكتب في السعودية قليلا، فلا زالت بعض أعماله ممنوعة في المملكة.

لقد نضجت الأوضاع الأدبية في المملكة خلال السنوات العشرين الأخيرة، فاتحة الكتابة في السعودية على عمليات التجريب وتحديث الأشكال الأدبية. لكن اختبار النوع الروائي، والتجريب في إطاره، لم يصبح واضحا وملحوظا في المشهد الأدبي العربي إلا في السنوات القليلة الماضية. لقد بدأ غازي القصيبي (1940 – 2010)، وهو شاعر ودبلوماسي ووزير في الحكومة السعودية، وتركي الحمد، وهو مفكر ليبرالي يدعو إلى إجراء إصلاحات في السياسة والمجتمع السعوديين، كتابة الرواية عن العرب في القرن العشرين أو عن المجتمع السعودي.

أما في هذه الأيام فهناك على الأقل أكثر من عشرة روائيين سعوديين معروفين لدى القارئ العربي، وبعضهم ترجمت أعماله إلى أكثر من لغة. أشهر هؤلاء الروائيين في العالم العربي، وكذلك في العالم، رجاء الصانع التي كتبت روايتها “بنات الرياض” التي تتحدث عن وقائع الحياة اليومية في سيرة عدد من الفتيات السعوديات الأرستقراطيات. ترفع “بنات الرياض” الغطاء عن عالم مجهول، لكنها لا تعد عملا أساسيا في الرواية العربية؛ إنها رواية ذائعة الصيت ومع ذلك فهي بسيطة في الأسلوب ورؤية العالم. أما الروائيون الذين رفعوا الغطاء عن عالم المملكة السعودية المجهول فهم عبده خال، ويوسف المحيميد، وليلى الجهني. فهؤلاء الكتاب، بالإضافة إلى رجاء عالم، يقدمون تشريحا حادا للحيوات المخبوءة لشخصيات معذبة من الشعب السعودي.

كتب عبده خال (المولود عام 1962)، والفائز بالجائزة العالمية للروابة العربية (البوكر العربية) عام 2010، عددا من الروايات التي تدور حول موضوعات ممنوعة لا يسمح بمعالجتها في المجتمع السعودي. ويصور خال الفظاعات التي ترتكب بحق المواطنين السعوديين البؤساء، والعنف الشديد الذي يوقعه الأقوياء على الضعفاء. يخاطب عمل خال المثلث المجرم في العالم العربي: الجنس والدين والسياسة؛ “وهذه الأشياء هي التي تصنع حياة الناس” كما قال هو نفسه في حوار أجري معه عام 2004. لهذا السبب فإن روايات خال ممنوعة في السعودية، لكنها الأكثر مقروئية في الوقت نفسه.

في رواية “إنها ترمي بشرر” يروي خال حكايات قوية مؤثرة عن شخصيته الرئيسية المعذبة، واصفا حياة المواطنين السعوديين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة، وحياة من يعيشون في القصر الذي يطل من عل على تلك الأحياء. ويشير عنوان الرواية إلى آية قرآنية، وتصور الرواية جدة بوصفها مدينة مقسومة بين الجنة والنار. لقد ولدت الشخصية الرئيسية في الرواية ونشأت في الحي الفقير الذي قام القصر باغتصاب معظم أرضه المحاذية للبحر. وأصبحت هذه الشخصية أداة بين يدي صاحب القصر، وتمثل عمل الشخصية في اغتصاب أعداء صاحب القصر الذكور. إن المادة السردية كلها هي مونولوج طويل مؤلم تميط فيه الشخصية اللثام عن مشاعرها؛ إنها تحكي عن خزيها وعارها، عن إحساسها العميق المخبوء بالذنب. ليس هذا العمل الأساسي من أعمال عبده خال قصة تروى عن المغتصب، بل هي أيضا قصص صاحب القصر المجنون ومن يتلاعب بهم ويستعملهم، وعشرات النساء العاهرات اللواتي يجلبهن إلى القصر بوسائل عديدة.

 

يكتب يوسف المحيميد (من مواليد 1965) بدوره في روايته “الحمام لا يطير في بريدة” قصة شاب تعس غادر البلاد إلى بريطانيا هاربا من القيود التي توضع على الحب الحقيقي الأصيل، مدمرة حيوات الناس. وتميط الشخصية الرئيسية في الرواية، إذ تروي حكايتها من الطفولة إلى الشباب، اللثام عن مجتمع منقسم، طائفي، تسمه الهيمنة الذكورية. تصور رواية “الحمام لا يطير في بريدة” لنا الحب الممنوع الذي ينشأ بين شاب وفتاة، ما يقود في معظم الأحيان إلى البديل المتمثل في الحياة المثلية السرية. لكن نتيجة هذا الحب الممنوع تقود في النهاية إلى السجن أو الهرب من البلاد.

هناك روائيتان اثنتان أخذتا على عاتقهما التجريب في الأسلوب، وهما رجاء عالم وليلى الجهني. في “طريق الحرير” تختار رجاء عالم مكة مكانا لأحداث روايتها، ساردة حياة أناس يأتون من مختلف بقاع العالم الإسلامي لتأدية الحج. وفي الوقت الذي تستخدم فيه رجاء عالم لغة مركبة تنتمي للميراث الصوفي الإسلامي، تحكي ليلى الجهني في روايتها “جاهلية” حكاية فتاة سعودية تقع في حب رجل من طبقة إجتماعية مختلفة، رجل أسود لا يمتلك الجنسية السعودية من فئة “البدون”. وتقوم الجهني، بأسلوبها الناعم الرقيق، بتشريح جذور التمييز في المجتمع السعودي، مذكرة بمرحلة الجاهلية، وملمحة إلى عملية احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية عام 2003. آخذين في الحسبان أن عددا لا بأس به من الروايات ينشرها كتاب سعوديون كل عام، فإن في إمكاننا القول إن الرواية السعودية قد نضجت في المملكة بعد أحداث أيلول 2001، لتعمل على تسريع عملية التغير. فهل يمكن بهذا المعنى أن نقترح أن أسامة بن لادن كان عاملا مساعدا في التغير الذي أصاب المجتمع السعودي، دافعا الكتاب السعوديين إلى إماطة اللثام عن مجتمع غامض بالنسبة للعالم، وربما بالنسبة لأفراد هذا نفسه؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد ومترجم أردني

مقالات من نفس القسم