ترجمة: د.إقبال محمدعلي
“من بين مشاهير الرجال الذين خلدهم التاريخ،كان “سقراط” هو الشخصية التي أحلم أن أكونها. لا لأنه كان مفكراً عظيماً فقط، بل لأنني أكتشفت أن كل من يعرفني، كان يدرك إنني أمتلك نفس النظرة العميقة للعالم، و رؤيتي للأشياء تختلف لحدٍ ما، لأن محورها كان يدور حَوْل مضيفات الطيران السويديات و كلبشات السجن . ما جذبني لهذا الحكيم عن بقية الفلاسفة الإغريق، شجاعته في مواجهة الموت، و قراره رفض التخلي عن مبادئه، ليثبت صحة أفكاره. أنا شخصياً لا و لَنْ أخاف الموت، لكني حين أسمع دويّ إنفجار سيارة، أقفز رعباً في أحضان الشخص الذي أتحدث معه. في النهاية، الميتة البطولية لسقراط، أعطت لحياته معنىً حقيقياً، الشيء الذي أفتقره أنا تماماً،لدرجة أن دائرة الضرائب، لا يعنيها مَنْ أكون. أريد أن اعترف، أنني على الرغم من كل محاولاتي المتواصلة في تقمص شخصيته، ينتهي بيّ المطاف بالنعاس و رؤية الحلم التالي…………………
المشهد:
أبصر نفسي جالساً في زنزانة السجن، منشغلاً بحل بعض المعضلات الفكرية العميقة.على سبيل المثال:هل يمكننا تسمية الشيء، قطعة فنية، إن كنا سنستخدمه لتنظيف الموقد ؟…أعتذر عن المواصلة، ها قَدْ جاء لزيارتي، أكًاثون و سيمياس. (1)
أكًاثون: كيف تمر عليك الأيام في هذا السجن، يا شيخنا العزيز الحكيم؟
ألِن:ما الذي يمكنني قوله في هذهِ العزلة يا أكَاثون؟ إنهم لا يَعون أن سجن الجسد لا يعني سجن الأفكار التي تتسلل بكل حرية عبر هذهِ الجدران الأربعة.. و هذه الفكرة قادتني للتساؤل: إن كان للسجن وجود؟
أكًاثون:و ماذا لو رغبتَ في التمشى؟
ألِن:سؤال معقول. لا أستطيع.
(جلسنا نحنُ الثلاثة بصمت، بنفس وضعية التماثيل الكلاسيكية النحتية الأغريقية القديمة. أخيرا بدأ أكًاثون الحديث).
أكَاثون:الأخبار لا تَسُرْ. لقد حكموا عليك بالموت.
ألِن:من المؤسف أنّ حالتي أثارت الكثير من الجدل و النقاش داخل مجلس الشيوخ.
أكَاثون:لَمْ يكن هناك”جدل أو نقاش”، جاء القرار بالإجماع.
ألن:حقاً؟
أكًاثون:في الجولة الأولى مِن الإقتراع.
ألِن:هِمْ.. كنت معولاً على بعض الأصوات، لدعم موقفي.
سيمياس:كان مجلس الشيوخ مستاءاً بالإجماع من آرائك حول المدينة الطوباوية.
ألِن:كان عليّ أن لا أشترط، أن يكون الملك فيلسوفاً.
سيمياس:خصوصاً بعد إلحاحك المتكرر في إقتراح إسمك، دون التوقف عن إبتلاع ريقك و لم للحظة واحدة!
ألِن:رغم كل شيء، لا أحسبُ أن جلاديّ أشرار.
أكَاثون:و لا أنا.
ألِن:إيه… نعم. نعم.. بعض النفوس، لا تخلوا من الخير… .
أكَاثون:كيف؟
ألِن:علينا أن ننظر إلى الأمور من هذهَ الزاوية: نحن نستمتع حين نسمع رجلاً يغني أغنية جميلة، لكن تكرارها، سيصبح مصدر إزعاج للآخرين.
أكَاثون:صَحْ.
ألِن:و أن أصر على تردديها المرة تلو الأخرى سيضطرون لحشو جوربٍ في فمه كي يخرسوه.
أكَاثون:أتفق معك كلياً.
ألِن:متى يصدر القرار؟
أكَاثون:كم الساعة الآن؟
ألِن:اليوم؟؟؟
أكَاثون:نعم، فهم بحاجة للزنزانة.
ألن:فليكُنْ. ليأخذوا حياتي و ليسجل التاريخ إنني لم أتخل عن مبادئي في البحث عن الحقيقة و حرية التساؤل…. لا تبكي يا أكَاثون.
أكَاثون: انا لا أبكي، لديّ حساسية.
ألِن:المفكر لا ينظر إلى الموت كنهاية، بل كبداية.
سيمياس: وكيف ذلك؟
ألِن:إمنحني دقيقة لأفكر…..
سيمياس:خذ ما تشاء مِن الوقت.
ألِن:هل تتفق معي يا سيمياس، أن الإنسان لم يكن موجوداً قبل ان يولد؟
سيمياس:كلياً.
ألِن:و لن يكون له وجود له بعد موته.
سيمياس:نعم.أتفق معك.
ألِن:هِممِممِم..
سيمياس:و بالتالي؟
ألِن:إنتظر لحظة. فالأمور ملتبسة عليّ الآن…يكفي أنهم يطعمونني لحم غنم غير مطبوخ بشكلٍ جيد.
سيمياس:معظم الرجال يدركون أن الموت هو نهايتهم المحتومة، لِذا يخافونه.
ألِن:الموت حالة ألا وجود..ما ليس هناك فهو غير موجود و لهذا فأن الموت غير موجود. الحقيقة وحدها موجودة. الحقيقة و الجمال.. الحقيقة و الجمال متبادلتان و لكلٍ منها خصائصه…. هل لديك فكرة عما سيفعلونه بيّ؟
أكَاثون:سَمْ الشوكران.(2)
ألِن:(بحيرة)، الشوكران؟
أكَاثون:هل تتذكر السائل الأسود الذي تسبب في تآكل طاولتك المرمر؟
ألِن:حقا؟
أكَاثون:قدح واحد مملوء. و للإحتياط، أعدوا لك كأساً آخر، في حالة أن يندلق السم من الكأس الأول.
ألِن:هل يسبب الكثير مِن الوَجع؟
أكَاثون:يسألونك أن لا تثير الكثير من الضجة، كي لا تزعج بقية السجناء.
ألِن:هِممِممِم…
أكَاثون:أخبرت الجميع بأنك تفضل أن تموت ميتة الأبطال، على أن تتخلى عن مبادئك.
ألِن:جيد، جيد…. يا إلهي… ألم يقترح أحد عقوبة “النفي” في الجلسة؟(3)
أكَاثون:ألغوا عقوبة النفي، بسبب تعقيداتها.
ألِن:نعم. نعم..(يبدو مشغول البال، محاولاً تمالك أعصابه)، و عليهِ…هِمِ .. ما الجديد؟
أكًاثون:إلتقيت بآسوسالييس.لديه فكرة عظيمة لمثلث جديد” متساوي الساقين”.( 4)
ألِن:جيد..جيد، (فجأة تخونه شجاعته)، إسمع، أُريد التحدث معك حديث الند لِلنَدْ:لا أريد أن أموت فأنا ما زلت في عِزّ شبابي.
أكَاثون:لكنها فرصتك لإثبات الحقيقة.
ألِن:أرجو ان لا تسيء فهمي.أنا مع الحقيقة،كلياً، بَيْدَ أن لديّ موعداً غرامياً في الإسبوع القادم في إسبارطة، لا أستطيع توفيتَهُ، لذا عليّ بتقديم بعض التنازلات، فأنت أدرى بهؤلاء الإسبارطيين أنهم لا يحبون عدم الوفاء بالوعد.
آكَاثون:هل جَبُنَ فيلسوفنا الحكيم؟
ألِن:أنا لم أجبُنْ، كما أني لست بطلاً. أنا بَينّ بَينْ.
آكًاثون:كالهَوام.
ألِن:عَين الصواب.
أكَاثون:لكنك أول مَنْ برهَن على عدم وجود الموت؟
ألِن:لقد أثبتت الكثير من فرضياتي صحتها و إلا فكيف كان بإستطاعتي دفع إيجار بيتي؟.. بعض التنظيرات مع القليل من الحوارات لتأجيج عقول الناس بين آونة و آخرى، كانت تأتيني بمردود أفضل من محصول الزيتون.أعتقد، أن علينا التوقف عن النقاش بهذا الموضوع.
أكًاثون: لكنك أثبت في العديد من المرات أن الروح خالدة.
ألِن: و هذهِ حقيقة! لكنها حقيقة على الورق فقط .. هنالك شيء تجهلانه عن الفلسفة: عليكما نسيان ما تعلمتماه، بَعدَ مغادرتكما الدرس.
سيمياس:و ماذا عن “الروح المُطلقْ”؟قلت أن الأشياء موجودة و ستبقى موجودة.
ألِن:كنت أقصد، الأجسام الثقيلة كالتماثيل و غيرها. القضية مع البشر،تختلف كلياً.
أكَاثون: وماذا عن تعاليمك عن الموت، الذي أعتبرته نظِيراً للنوم.
ألِن:نعم قلت ذلك و لكن الفرق أنك حين تموت و يصرخ أحدهم:”حَلّ الصباح، إنهضوا جميعاً”..عند ذاك سيكون من الصعب العثور على نعالك، بسبب العجلة.(5 )
(يأتي الجلاد و بيده كأس سَم الشوكران. يشبه الممثل الإيرلندي الكوميدي” سبايك ميليغان”.
الجلاد:نحنُ هنا. لِمَنْ السمْ؟
أكاَثون:(يؤشر بإتجاهي)، لهُ.
ألِن: يا إلهي، انه لكأس كبير. أيجب ان يتصاعد منه الدخان بهذا الطريقة؟
الجلاد:نعم. عليك أن تشربه بسرعة حتى آخر قطرة، قَبْلَ أن يترسب في قعر الكأس.
ألِن:(ردود فعلي، كانت تختلف كلياً عن سقراط..أخبروني فيما بَعدْ، أنني كنت أصرخ في نومي)…. كلا، لا أريد أن أموت. أغيثوني.. كلا..كلا .. أتوسل إليكم.
(سلمني كأس السم الذي كان يُبقْبِق بالفقاعات، رغم توسلاتي المثيرة للقرف التي لم يبالِ بها أحد. و بسبب غريزة حب البقاء، أتخذ حلمي منعطفاً جديداً، بدخول رسول).
الرسول:إنتظروا. أقَر مجلس الشيوخ، مُعَاوَدَة التصويت، و إسقاط كل التُهم الموجهة إليك و إعادة الإعتبار لك و تكريمك.
ألِن:و أخيرا.. و أخيراً ثابوا إلى رشدهم!!أنا الآن إنسان حُر! حُر. يا أكَاثون و يا سيمياس، إحضرا حقائبي بسرعة.عليّ أن أخرج من هذا المكان، لأن “برايكستيليس” كان يرغب بنحت تمثال نصفي لي.(5) قبل مغادرتي هذا المكان، لديّ رغبة شديدة بقص هذه الحكاية الرمزية عليكما.
سيمياس:تراجع غير مفهوم. أتمنى لو أنهم يدركون ما فعلوا!! .
ألِن:كان هناك مجموعة من الرجال يعيشون في كهف مظلم، لا يعرفون،ان في خارجه، شمس مُشرِقة. الضوء الوحيد الذي كانوا يعرفونه هو لهب ضوء الشموع القليلة التي كانت لديهم و التي كانت تساعدهم على التنقل في داخله.(7)
أكَاثون:و من أين جاؤوا بتلك الشموع؟
ألِن:لا تُعقِد الأمور. لنفترض أنهم كانت لديهم شموع.
أكَاثون:يعيشون في كهف و لديهم شموع!!! .شيء لا يمكن للعقل تصديقه!!
ألِن:حاول أن تصدقه.
أكَاثون:حسناً، حسنا، واصِل قصتك….
ألِن:في أحد الأيام، ضَلّ أحد ساكني الكهف طريقه ليجد نفسه في العالم الخارجي.
سيمياس:بكل بهائه!!.
ألِن:بالضبط. بكل بهائه.
أكَاثون:و حين حاول أن يخبر الآخرين لم يصدقه أحد.
ألِن:في الحقيقة، أنه لم يخبر الآخرين.
أكَاثون:لَمْ يخبرهم؟
ألِن:لَمْ يَخبِرهم… و بدلاً من ذلك قام بفتح محلً لبيع اللحوم و تزوج من إحدى الراقصات و مات في في سن الثانية و الأربعين بعد أن أُصيب بنزيف في الدماغ.
(عندها أمسكوا بيّ من تلاليبي و جرعوني سم الشوكران”. هنا أستيقضت من نومي و أنا أتصبب عرقاً و لم يخففْ رعبي غير بيضتين و شيء من سمك السلمون المُقَدَد).
النهاية
………………………………………
“فلسفتي؟ أن تضحك و أن تعاني، كي لا تفقد المغزى الحقيقي لحياتك”
يسرد علينا وودي ألِن في هذا النص الهزلي اللاذع، حلماً يتكرر عليه كل ليلة حيث يجد نفسه متقمصاً، شخصية الفيلسوف سقراط المسجون،المُدان الذي يواجه موته بطريقة مُهينة خالية من الكرامة و النبل، بأسلوبٍ هَزليٍ ساخر.
” ما دفعني لكتابة هذا النص، قراءة ما تنشره الجرائد اليومية من أخبار عن الكوارث و المآسي الإقتصادية التي تتعرض لها اليونان” مهد الفلسفة و العلوم و الديمقراطية”، و قرار إعتزامها الخروج من السوق الأوربية وعملة اليورو حيث وصلت البطالة فيها، إلى مستويات مرعبة و يبدو لي أن نهايتها ككيان مستقل، باتت قريبة”.
وودي ألِن، أمريكي الجنسية، ولد في بروكلين/نيويورك،1935. مخرج- كاتب- ممثل كوميدي، إضافة إلى ولعِه بموسيقى الجاز. حائز على جائزة الأوسكار لثلاث مرات.
تتسم معظم مؤلفاته و أعماله السينمائية بطابعها الفلسفي/العقلاني، الموغلة بالنقد الإجتماعي الساخر،الهزلي ألاذع. يكتب، يمثل و يخرج أغلب أعماله مما جعله، أحد أكثر صانعي الأفلام احترامًا وإنتاجاً في العصر الحديث.
يتحدث عن نفسه فيقول:” كانت”الأسئلة الكبيرة”، تستهويني منذ الصِغر، لدرجة أنها اصبحت، المحور الرئيسي لكافة أعمالي المسرحية و السينمائية الجادة منها و الهزلية. إهتمامي المبكر بالفلسفة، بدأ بمشاهدة، أفلام إنغمار بيرغمان في سن المراهقة التي استحوذت عليّ كلياً. لم أقرأ في تلك الفترة لِ نيتشة أو كيركيغارد اللذان استمد منهما بيرغمان مادته الغنية التي أعتمدها في معظم نتاجاته، لكن الأسئلة التي طرحها والمشاكل الحياتية التي تعامل معها، بقيت تدق كالناقوس في ذهني و لسنوات طويلة، مما دفعني لقراءة بعض الكتب الفلسفية للتعرف بوضوح على الفلاسفة الذين أثْروا على مجمل شخصياته بسبب مناهجهم المختلفة و تحديهم و دحضهم لبعضهم البعض، لأسئلة غير قابلة للإجابة.
……………………….
الحاشية:
حوار فيدو: كتبه الفيلسوف اليوناني أفلاطون يصف فيه الحوار و الأحداث التي احاطت بموت الفيلسوف اليوناني سقراط بعد إجباره، تجرع السم(399-469).
1- سقراط كان منشغلا في حوار مع اصدقائه ثيبانس، سيبيس و سيميس مستكشفا مختلف الحجج لخلود الروح ومبينا ان هناك حياة اخرى تقيم بها الارواح بعد الموت.
2- الشوكران:نبات مائي/عُشبي سام.
3- كان الأثينيون يرسلون سفنهم في كل عام إلى ديلوس للاحتفال بانتصار ثيسوس على الكائن العملاق في حضرة الإله ابولو، وخلال هذه الفترة” تتوقف جميع الأحكام ضد السجناء”.
– 4-آسوسالييس تعني باليونانية(المثلث المتساوي الأضلاع)… تعكس تلاعب وودي ألِن بالكلمات.
5- براكسيتيليس، أشهر نحاتي القرن الرابع قبل الميلاد في أثينا و أول من نحت الشكل الأنثوي العاري في تماثيل بالحجم الطبيعي.
6- في الآخرة تنسى كل ما هو دنيوي.
7- قصة “أصحاب الكهف”، معروفة للجميع.
“عبد الرحمن الأبنودى، يصف مشهد نهاية الفيلسوف اليوناني سقراط، قبل إعدامه، مجسدا معاناة الفيلسوف بسبب نقد أفكاره وفلسفته، التي مات من أجل التمسك بها”. (محمد عبد الرحمن).
“شوية فات سقراط، مسلسلينه من القدم للباط، ومتهم باليأس والإحباط، وبالعدم وبالزنا وباللواط، وبكل كافة التهم، وهو عابر للجحيم على الصراط، ينظر على الشعب التعيس ويبتسم، إلى الجحيم للفلسفة، دنيا لا كانت يوم، ولا حتكون فى يوم كويسة”.