د. محمد المسعودي
من يطلع على المجموعة القصصية الأولى للكاتب المغربي عبد النور مزين الموسومة ب”قبلة اللوست” سيلفت نظره اشتغال الفانتاستيك في جل قصص الكتاب، باعتباره أفقا لتشكيل المتخيل السردي، ومن خلاله تتشكل المفارقة لتسهم بدور فعال في بناء فنية النصوص وتحديد أبعادها الجمالية والدلالية والرمزية الثاوية بين سطورها، كما تعمل على بلورة رؤى كاتبها لما يجري في الحياة من حوله.
إذن كيف يشتغل الفانتاستيك في قصص “قبلة اللوست”؟ وما قسماته الفنية الكبرى؟ وكيف يعمل على توليد المفارقة؟ وما الأبعاد الدلالية والرمزية الثاوية في هذه النصوص انطلاقا من روحها الفانتاستيكية وبنيتها القائمة على المفارقة؟
تشتغل جل نصوص “قبلة اللوست” من أفق فانتاستيكي ينبثق من بعد واقعي خالص قصد تشكيل متخيل النص القصصي وعوالمه الحكائية. ويُلقي الواقع الفظ بثقله البيِّن على الأحداث، وحالات الشخصيات، وعلى وصف الأمكنة وتمثلها. ومن هنا تكثر في هذه النصوص القصصية مشاهد العنف والجريمة والموت، ومظاهر الفقر والبؤس والعهر والهروب بعيدا.. وغيرها من الظواهر التي تتصل بحياة بشعة قذرة يتخبط فيها المجتمع المغربي المعاصر. ومن هنا، تطغى، أيضا، على أحداث هذه القصص وقائع الجريمة، والموت المجاني، والعنف المبالغ فيه، وظواهر السعي إلى كسب لقمة العيش بكل السبل، حتى النبش في القمامة والأكل منها. ومن هنا تحضر الأماكن الهامشية بكثرة في قصص عبد النور مزين حيث تجري جل الأحداث، وتعيش شخصيات هذه القصص الفقيرة المهمشة التي تحيا على حافة الحياة: قرى بعيدة منكوبة –أحياء هامشية –براريك صفيحية كرتونية –حاويات قمامة –خرابات –مزابل كبرى –حافات جبال -مهاوي تطل على البحر.. وهكذا.
وعبر هذا الغوص في الواقع إلى أقصى تجليات قذارته وبشاعته يتخلق الفانتاستيك، وتتولد المفارقة من رحمه حتى يخف وقره، ويتخذ السارد منه موقفا، ويجسد رؤياه الفنية لما يجري من حوله. ومن النصوص التي اشتغلت وفق الأفق الفانتاستيكي، نذكر: الحب يأتي قبل الجنون، القناص واليمامة عند النبع، التحديق في الغروب (قبلة اللوست)، أكمة الورد، سابوريز.. أو همس الرحيل. أما النصوص الأخرى، فقد امتد إليها الفانتاستيك وفق سياقات الغرابة، والسخرية، وتوظيف المفارقة بشكل طفيف.
يحضر الفانتاستيك منذ النص الأول في “قبلة اللوست”: “الحب يأتي قبل الجنون”، وهو نص اشتغل بالواقع في قرية هامشية من قرى المغرب أسماها الكاتب “بوسراح” ، وركز فيه السارد على تتبع حالات غريبة تعتري بعض شخصياتها. حالات تنتاب الرجال خاصة ممن يتعاطون نبتة غريبة يطلق عليها “العنجبيق”، بحيث يضطر المدمن عليها إلى الهج والفرار بعيدا. يقول السارد:
“لم يقع أن رحل رجل، مريض بالطج، من بوسراح وعاد إليها. يهيمون في الدنيا حتى يموتون. كل واحد بطريقته. ومن لم يمت يظل يتيه بعيدا عن بوسراح حتى يصل إلى أطراف الأرض ليموت هناك. أخبار الذين أصيبوا بالطج ورحلوا تجد دائما من ينقلها إلى بوسراح. روائحهم تصل إلى أنوف الذين مكثوا حتى ولو كانوا في أقاصي الأرض. عبد النبي الطراح غادر منذ ثلاث سنوات، ظل يهيم من بلد لبلد. سائرا في الطرقات في البرد والحر. يقتات من المزابل وينظر إلى السماء ساعات طوال في النهار وحتى في الليل. كان قبل أن يصاب بداء الطج قد رحل إلى طنجة واشتغل مساعدا لمعلم في فرن. لكنه لم يصبر على فراق بوسراح، واجتاحه شوق جارف إليها وإلى العنجبيق. عاد إليها وهو لم يكمل شهره الأول على فراقها. يوم عاد تحلق حوله كل من كان في قهوة الحاج عبد السلام ذلك المساء وبادره الدحمان ساخرا:
-ألم أقل لك. بوسراح تربط أهلها إليها بحبل لا ينقطع أبدا. كالثيران إلى أوتادها.
ثم تتابعت السخرية:
-وحبل عبد النبي يبدو أقصر مما توقعنا.
وقهقه الجميع. تركهم عبد النبي وجرى مسرعا إلى داره. لم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام بلياليها. (..) بعد ذلك بسنة أصيب بداء الطج ورحل سريعا. تاه حتى وصل مكناس ومنها دفعه الطج إلى أقاصي الصحراء بأرفود. ظل هناك ينظر إلى السماء من الصباح إلى المساء. يحملونه إلى الظل تحت سقيفة الجامع. يبللون رأسه بالماء ويشربونه رغما عنه. لكنه يعود إلى الشمس ويظل يحدق إلى السماء وعينيه في قرص الشمس المعدني الملتهب. أصابه الهزال والاجتفاف. وجاء خبر موته ودفن في مقبرة الغرباء على جانب الطريق الصحراوي الجنوبي” (قبلة اللوست، ص.10)
هكذا يصور هذا المقطع القصصي هذه الظاهرة الغريبة مولدا من سياق الوقائع اليومية البسيطة عوالمه الفانتاستيكية. إننا أمام حالة شاذة تنتاب رجال القرية المدمنين على النبتة تؤدي بهم إلى الفرار بعيدا عن قريتهم وعن بيوتهم، وهم في حالة ذهول وشرود عما يجري حولهم، وبحيث يظلون يحدقون في عين الشمس إلى حد الموت. وبهذه الشاكلة تتولد المفارقة البينة بين واقع هؤلاء القرويين الثقيل البائس وبين الحالة الغريبة التي تدفع بهم إلى الاغتراب والبعد عن أسرهم وعشيرتهم. ولا تقف القصة عند هذا الجانب، فحسب، بل إنها تصور رغبة السلطة في استئصال نبتة “العنجبيق” وإزالة أثرها من القرية في حملة تفتيشية شاملة دون أن تنجح في ذلك، ويعود الفضل في الحفاظ عليها وخزنها عن أعين “المخزن” إلى النساء، فهن يعرفن أهميتها بالنسبة إلى رجالهن، ومن هنا يحرصن على استمرارها وإعادة استنباتها على الرغم من معرفتهن المسبقة أن الرجال سوف يطجون يوما ويفرون بعيدا ويموتوا غرباء على الطرقات. وبهذه الكيفية كان الفانتاستيك أفقا هاما في تشكيل متخيل هذه القصة وتشكيل رؤيتها للواقع وانتقادها بعض العوائد الاجتماعية، وبعض أوجه تعاطي السلطة مع ما يجري، وعدم قدرتها على معالجة الأوضاع المختلة.
وفي قصة “التحديق في الغروب (قبلة اللوست)” تحضر وقائع لا تقل غرابة عن وقائع قصة “الحب يأتي قبل الجنون”، وتتبدى حالات في قرية “أحلوز” لا تختلف كثيرا عن حالات سكان قرية بوسراح، غير أن حالات الشخصيات التي يصورها السارد في هذه القصة لا تعود إلى نبتة “الحشيش”/الكيف التي يرمز إليها بكلمة “العنجبيق”، وإنما هي من آثار غاز اللوست الذي استعمله الجيش الإسباني في مناطق كثيرة من شمال المغرب . يقول السارد:
“لا أحد في أحلوز يعرف على وجه التحديد لمَ يرحلون؟ يُمسون ويُختارون. إناثا أو ذكورا كانوا. رضعا أو كهولا. طيمة كانت يافعة. تسرح بالمعزة والجدي حتى مشارف الغاب. تستطيع السير إلى الغرب والتحديق. كل ذلك كان تخمينا من دومة. حتى أهل أحلوز خمنوا كذلك. لكنهم لم يروا طيمة تحدق من قبل. لم تشرد يوما ولم يرها أحد تسير باتجاه الغرب كما تسير الصافية. لقد اختيرت الصافية ونثر الرحيل تباشيره عليها كما الربيع ينثر الأقحوان في المروج السفلى وعلى ضفاف الجداول المرحة على صدر أحلوز. طيمة لم تُرش كما رُشت الصافية برذاذ ذلك الرحيل القادم لا محالة. سرحت بالمعزة والجدي. عادت المعزة ولم تعد طيمة. الرضع والعاجزون لا يسيرون جهة الغرب. يشردون ويحدقون. لا يحدقون في الغروب. تبدو نظراتهم فارغة، مليئة بالخواء…” (قبلة اللوست، ص.55)
بهذه الكيفية يصور عبد النور مزين الحالة الغريبة التي تنتاب شخصياته القصصية، وهي تدخل عالمها المؤذن بالغياب والرحيل الوشيك، بحيث تذهل عما يقع حولها، وتسهو عما يعنيها إلى أن تختفي. وبهذه الشاكلة تدخل القصة عوالم الفانتاستيك بأفقه القائم على المفارقة والسخرية وشجب بؤس الواقع وأثره الثقيل على نفسية الشخصيات وروحها. وتمعن قصة “التحديق في الغروب (قبلة اللوست)” في ترصد حالة “الصافية” زوجة “دومة” التي اختيرت للمصير المجهول، وآذنت شمس وجودها بالأفول. وعبر ترصد “دومة” لها يطلعنا السارد على المكان الذي يؤثر سكان أحلوز التحديق من خلاله إلى الغروب، وبداية ولوجهم قليلا قليلا في الحالة الغريبة التي تنتابهم. وعبر تفاصيل كثيرة يتمكن السارد من تحويل معطيات الحياة اليومية البسيطة إلى وضع غرائبي فانتاستيكي. وعبر هذه المعطيات يتمكن من توليد المفارقة بين رغبات الذوات الفردية المجهضة والموؤودة، وبين عوائق الواقع ووقوفه في وجه كل أمل ممكن. وبهذه السردية القائمة على الفانتاستيك، ومن خلال توليد المفارقة، واستعمال السخرية يتمكن الكاتب من تجسيد موقفه مما يجري، ويشخص الخلل الكامن في القرى المغربية، وتدهور حال سكانها.
ولا تقل حياة سكان المدن غرابة ومفارقة عن حياة سكان القرى، لذلك نجد الكاتب يصور اختلال واقع مدن مغربية مختلفة كما وقف عند نماذج من قراها. ويقف عند حالات شخصيات مدينية تعاني وقر الواقع وثقله على أرواحها وأجسادها، كما نلمس في القصص التي حملت العناوين التالية: ليالي القامرة الهادئة، مائة أورو ورسالة حب، سيدي البخاري، الخرابة، الهروب إلى السجن، سر العم صالح، مسافر الكار الأخير. ويتخذ من شخصيات فقيرة مهمشة أبطالا لهذه النصوص التي تشتغل من أفق واقعي، لكنها توظف المفارقة والسخرية أساسا لتشكيل رؤية الكاتب ونظرته إلى ما يجري حوله.
في قصة “الخرابة” يصور السارد حالة شخصية ذاهلة عن العالم، لا تدري ما يجري حولها. وعبر سرد تفاصيل ما يجري أمامها، تكتشف أن تجمهر الناس أمام “الخرابة”، وحضور الشرطة، وإعادة تمثيل وقائع جريمة قتل لم تكن إلا من أجل “هدى”، إلا من أجل ابنة أخته المراهقة التي اغتصبها مغتصب وقتلها بوحشية داخل الخرابة، وهو على الرغم مما كان يمر أمام ناظريه كان سادرا في ذكرياته عن الطفلة القتيلة، وهو يرسب تحت ثقل واقع تشرده وإدمانه الحشيش الذي ذهب بعقله أو كاد، وجعله مشلول الإرادة جبانا رعديدا. يقول السارد مصورا هذه الحالة المفارقة:
“.. تفحصه الشرطي. لاحظ وقع التسكع على أسماله وسحنته. رجته أن يتركه يقترب. دون جدوى. تراجعت. لم يفهم. تراجع هو أيضا متوجسا. خليط من الهواجس والرؤى تترسب وتنتشر منفجرة. تراءت له هدى من جديد. تنضج على مهل. حموضة أواخر سبتمبر. تتمنع. حلاوة النضج تهب بعنف على أردافها وصدرها. تتأهب لتنضج في مروج طنجة. تقف على عتبة البراكة في الصباح. بذلتها المدرسية الزرقاء الداكنة تزيد من بهاء بشرتها البيضاء. مر وقت طويل منذ أن قبل وجنتها آخر مرة. تأففت وابتعدت عنه لتغسل وجهها من جديد” (قبلة اللوست، ص.88)
هكذا تشتغل المفارقة لتجسد حال الشخصية المحورية في القصة، وهي تحت وطأة أثر الحشيش وإدمان حياة التسكع نتيجة الفشل في ممارسة حياة سوية. وبهذه الشاكلة كانت المفارقة مكونا هاما في تشكيل عوالم هذه القصة جعلها تقترب من الحس الفانتاستيكي على الرغم من تركيزها على تصوير الواقع الفظ بثقله وعنف وقعه على الشخصيات. وبهذه الفنية المقتدرة تمكن عبد النور مزين، في هذه الإضمامة القصصية “قبلة اللوست”، من تقديم رؤيته إلى الحياة الاجتماعية، وإلى الوضع الراهن في مغربنا المعاصر من أفق فانتاستيكي لا يخفى على قارئ نصوصه. وقد تميزت لغة السرد، وأسلوب الصياغة، بالانسياب والسلاسة وشعرية اللغة، وسرديتها العالية، ودقة تصويرها لخلجات الشخصيات القصصية وحالاتها النفسية والوجدانية المتنوعة. وبذلك يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصية إضافة نوعية إلى القصة المغربية المعاصرة.
………….
*عبد النور مزين، قبلة اللوست، دار أبي رقراق، الرباط، 2010.