ويستمر السرد في إسقاط الأقنعة عن الشخصيات خاصة شخصية الأب المستحوذة على المساحات السردية وكأن السارد يسعى إلي التخلص من عقدة أوديب . إذ يعمل على إحداث تشويش في صورة الأب والتجاسر على قدسيته وذكورته عبر الحكي .وهذا ما نستشفه من خلال العبارات التالية :”كان ابي عنيدا لا يقبل النقد,ولا يرضى باي مقاربة لا ترضيه,وأتذكر أنني ,و إخوتي,كنا دائمي الشجار معه حول مائدة الأعوام الأخيرة من حياته”.
“مضت لتستعيد أنينها ,وأدركتُ أن بيتنا يسير بعصبية نحو الأسوأ, أردت أن أؤكد له أن الاتصال الجنسي في مثل حالته من المحظورات,أو يكاد, وردني الخجل, سلة من الكلمات لا أكثر,ولكن,سوف تحطم,لو قلتها, تابوهين في الوقت نفسه,الحديث عن الجنس في حضرته,والحديث,وإن كان معاداً,عن الوحش الذي يكبر في جسده بإيقاع حاد,وسوف يظل يكبر حتى يتوحدا,ويتلاشى,ويتمدد في مساحات الغياب.”
إنها عبارات ترمم طفولة المبدع وتمنحه نوعا من الانتصار والتحدي خاصة وأن الأجواء التي انكتبت فيها السيرة الذاتية, أجواء تحتفل بالثورة وتودع زمن الصمت والقمع.وبالتالي فالمنجز السردي هو انقلاب نفسي تؤسس فيه الذات وعياً جديداً وتعمل على إخراج القهر والمعاناة التي مرت بها في حقول الذرة والاستغلال البدني الذي كان يمارس على النساء العاملات. إن حضور الماضي بحدة عند المبدع لا يعني التقوقع بداخله بقدر ما كان الهدف:
“انني انتبه تماما إلى أنه ليس يوجد أحد يستطيع أن يجترح استبصارات الماضي فضلا عن المستقبل ,خاصة إذا كان ذلك الماضي ينطوي على غابة من التقاطعات الحادة,كذلك ليس هدفي هو تحريك الماضي, وانما هدفي هو انتهاك ما في نيته من خطر على المستقبل”
فالمبدع يسعى الى استشراف أفق جديد بعيداً عن الماضي .إن كتابته هي إحراق للأوراق الرجعية القديمة وإشعال فتيل السؤال والثورة في أفق التلقي.ولعل ما يؤكد ذلك هو توظيفه لشخصية محمد البوعزيزي الذي أشعل فتيل الثورة واليقظة في الوطن العربي.
إنه يتوق الى التماس مع تلك الشخصية عبر الكتابة الإبداعية النارية التي تعمل على تذويب الأنا وتحدي السلطة بكل إشكالها، وما يثير الانتباه أن السارد ربط مصيره بالدومة إذ عمل على إحياءها على مستوى التخييل الذي هو في الحقيقة استمرار للكينونة الإنسانية والدفاع عن الهامش والسعي إلى رفع الحصار والعزلة عنه,هذا الهامش الذي نلاحظ أن السارد يستشعر بالأمن والحميمية والفرح والحركية معه,فيتوق الى الخارج أكثر من الداخل .فالخارج به عبق الخالة بهجة والمقشرين لأوراق الذرة وأخبار العشق والجنس.ولم يخل أيضا من الصراع والركض والفشل أما الداخل فمشحون بالصراعات والمشادات العائلية وسلطة الأب.
ويظل محمد رفعت مشدودا إلى فضاءات الدومة في جميع مستويات سرده لمحطات حياته.فكانت ترمز الى الرحم والهوية والانتماء ,إنها الخيط الرفيع الذي جمع ما يبدو مشتتا .دون أن ننسى أن محمد رفعت لم يتمكن من التجرد من شعريته التي مكنته استبطان عوالم الطفولة والماضي وكشفت عن المفارقات الفظيعة الموجودة بينه وبين الواقع ,ولم يتمكن من التخلص من روحه الثورية التي مست عالمه الروائي الذي يبدو لك في الاستهلال عبارة عن فوضى عارمة لكنها في حقيقة الأمر تعكس انشغاله بالقضايا الوطنية والعربية وتفضح التوتر والاغتراب الذي يعشش في دواخله, ولعل ما يمتص درجة الالم عنده هي معاناة الآخر والتلذذ بالموروث الثقافي ومكاشفة المخبوء.ويبقى مؤلفه اسهار بعد اسهار عمل ابداعي جديد بكل ما يحمله ذلك الجديد من سمات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. كربوب خديجة
ناقد – المعرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة