استيقاظ الحواس وتحولات البشر.. قراءة في مجموعة “عودة العجوز إلى البحر”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رمضان بسطويسي

يستكمل السيد نجم رؤيته الأدبية بهذه المجموعة القصصية، حيث يتناول مجموعة من الأنماط الإنسانية من خلال مواقف تفجر لنا ما بداخلها من مشاعر وأفكار، وهذه الأنماط تضئ لنا جوانب من رؤيته السابقة التى سبق له أن قدمها في مجموعاته وروايتيه، لاسيما في روايته “العتبات الضيقة” و”السمان يهاجر شرقا”، وكأن تجربة الترحال عبر العمر، وعبر الانتقال بين الأمكنة هي مجال الكاتب لاختيار ممكنات الذات في مواجهة قضايا عالمها، وهذا ما يشكل التيمة الرئيسية التى تتراوح بين زمان الحرب، وزمان الشخصية الذي تبحث عن تحققها عبر رحلاتها المختلفة، ونجد هذا في رواية “أيام يوسف المنسي” وفى أعماله الأخرى.

وهذا التقسيم بين زمان الحرب وزمان الشخصية هو الذي فرض نفسه في تقسيم قصص المجموعة إلى قسمين، حيث يتناول في القسم الأول مجموعة القصص الذي تقدم لنا نماذج من البشر يعيشون تجارب ذات طابع حدي تكشف عن الوعى بالمصير، وعن تجربتهم في العالم، ونجد هذا بشكل واضح في قصص”بائع متجول بدين”، “فلما اعتلى الرجل الكوبري”، ويتناول في القسم الثاني من الكتاب القصص الذي تتناول موضوع حرب أكتوبر 73من زوايا غير مباشرة، ويرصد فيها الآثار المترتبة على الواقع، نتيجة للحرب التى خاضها الوطن.

والقصة عند السيد نجم لها ملامحها الخاصة، حيث نجد حضور للراوي، وهذا الراوي يحكى لنا القصة من منظور معين، غالبا ما يتوجه بحديثه إلى القارئ، وهذا الراوي لا يملك الحقيقة كما هو في القصص التقليدية التى يهيمن فيها الراوي على العالم الذى يقدمه..يكشف العالم ويحاول بناء المغزى من خلال استخدام ضمير الغائب للحكى عن الشخصية التى يقدمها، الذى يبدى أحيانا عدم فهم سلوك الشخصية كما نجد هذا واضحا في القصة الأولى من المجموعة حيث يتحدث عن شخصية غامضة، تعمل في بيع وشراء المخلفات، وتحول لبيع الكتب القديمة، ويتحدث الراوي عن خبرته في أن الكتب القديمة قد تكون مليئة بالأسرار والكنوز، كأن يترك البعض بداخلها ورقة مالية، أو خطابا غراميا، أو شكوى إلى الله.

وقد يلجأ الكاتب إلى صيغة حكاية داخل القصة، حين يتحدث الرجل عن حكاية الورثة الذين باعوا الكتب إلى بائع”الروبابيكيا” ليتخلصوا منها.ونستشعر في النهاية بجو الغربة والانفصال بين عالم المثقف والرجل البسيط “البدين” الذى يفهم الحياة من خلال إمكانيتها وليس من خلال الوعي.

أما قصة “فلما صعد الرجل الكوبري” فهي صورة قصصية لتفجر الأسئلة الكيانية داخل الإنسان، حتى بات يشعر بالاغتراب عن كل ما يحيط به، فالشخصية كانت منغمسة داخل الحياة، لا تشعر بما حولها، ولا تتلقى حواسها ما يدور حولها، وفجأة يشعر أنه خارج الحياة، يراها من جديد، وينتظر لكل شيء  من منظور مختلف، ولهذا يقول الراوي: “مؤكد أنني لم أدرك هذه الأشياء من قبل، وأشعر الآن أنني لست راغبا فيها”ص16، وهذا التحول من الإدراك و الدهشة لما يصيب الشخصية هو تعبير عن تحول بطئ كان يتم في داخل الشخصية وقد أتيحت له فرصة الظهور حين اعتلت الشخصية الكوبري، وقد عاد إلى طفولته، يتذكر الحلم القديم الذى يرمز له الكاتب في صورة بالونه تنفلت من بين أصابعه، ويسعى جاهدا للوصول إليها ، لكنه لا يصل ويسعى إلى جهة جديدة لحياته لم تكن موجودة من قبل..

في هذه القصة الغنية بالدلالة ، ينقل إلينا الكاتب التحولات التى علينا أن تطرأ على أي إنسان تنفجر الدهشة بداخله من عمق الهوة بين ما كان يحلم به، وما يعيشه على أرض الواقع..والقصة رغم عمقها الدلالي إلا أنها مكتوبة بصيغة جيدة يمكن التواصل معها بسهولة.

أما قصة “عودة العجوز إلى البحر” التى يتخذها الكاتب عنوانا للمجموعة، فهي قصة تتناول العلاقة الصامتة التى تنشأ بين العجوز والبحر، وفيها يقول البحر عبر صمته الممتلئ بركام الأمواج الهادرة حكمته التى يلتقطها العجوز، وصورة البحر كخلفية للعشاق الذين يجتمعون على شاطئه، والصمت الذى يجثم على كل شئ، ويجعل الأشياء تبدو كأشباح تصنع لغة أخرى هي لغو الأسرار.

وفى قصة “حكايات النمل” ينتقل بنا القاص إلى عالم السجن، ولاسيما سجن المحكوم عليهم بالإعدام. يقدم لنا عبر مقاطع ذكية تطور الحوار بين السجين الذى كان مشغولا بعدد الزنازين ثم أصبح مشغولا بطابور النمل، وبين الشاويش، وكيف نجح السجين في جذب اهتمام الشاويش إليه عبر حكاته، حتى أصبحت هذه الصيغة من الحكايات عن النمل هي صيغة التواصل بين السجين والشاويش. والقصة تجسد رهافة ودقة الملاحظة لدى السجين بفعل انتظار تنفيذ الحكم بالإعدام.

وننتقل من السجين الذى يلاحظ النمل داخل زنزانته، إلى ملاحظة الذبابة الزرقاء في قصة”الذبابة الزرقاء”.. تلك التى يراقبها العجوز، وفيها يتأمل رحلة حياته كلها.

فالكاتب يستهويه الوقوف أمام لقطة دالة تعبر عن الوعي بالحياة، وتصويرها من خلال رمز يجسد ملامحها المختلفة، ونجد هذا في قصة “كل شئ على ما يرام” حيث يتناول مسرحية تتم في كواليسها مسرحية أخرى عن العلاقة التى تنشأ بين الملقن الذي يتم الاستغناء عنه وبائعة الشاي العجوز. فالكاتب يريد أن يبين دائما في أعماله أن هناك خلف الصورة التى نراها من الحياة صورة أخرى تقدم بعدا آخر من الحياة غالبا مالا نراه، ولا نتوقف عنده، ولذلك فالقصة لديه هي رؤية مالا ترى من فرط عاديته، وتكراره في الواقع.

قد يلجأ السيد نجم إلى الرمز، لاسيما في القصص التى تشير إلى الوطن، كما في قصة “شجرة الموز الهرمة” الشجرة التى تحتاج إلى قطع بعض أجزائها التى تعوق نموها و تفتحها، وكأن الموت ضروري لكي تستمر الحياة، وهذا الإلحاح على الوعي بالوجود ومستوياته الظاهر والخفى هو ما يميز تجربة السيد نجم. استطاع الكاتب بالمثابرة على الكتابة أن تمتد مساحة موضوعاته إلى القضايا العميقة، وتطورت أدواته بشكل يجعله قادرا على الخوض في مساحات غاية في الدقة والرهافة.

يبقى أن أشير إلى جانب خاص في علاقتي بهذه المجموعة، ذلك أنني شعرت بالصعوبة في قراءتها بشكل موضوعي نظرا لقربى الوجدانى من المؤلف، وقد سبق لي الاستماع إلى هذه القصص من الكاتب عبر سنوات العمر، وحين قرأتها مجتمعة شعرت أنني أمام جزء من مساحة عمري، وجزء كان يتشكل عبر الحوار مع القصص ومع الكاتب.. وأدركت أنها في مجموعها تجعلني أقترب من إدراك الرؤية الجمالية للكاتب، وهمومه العامة، وآليات الكتابة التى تنمو وتستحدث وسائل جديدة في الحكى والسرد والوصف والحوار، وبدأت أرى مساحات الصمت التى يخوض فيها الكاتب على استحياء، وكيف يتطور من السرد إلى الغنائية الشعرية التى تحاول فيها الذات قراءة العالم، واعادة بناء تاريخها الخاص.. لقد اقترب الكاتب من تجربته في رؤيته العامة مثل موقفه من تحولات الوطن السياسية والاجتماعية، لكنه مازال يحتفظ بالكثير لم يجرؤ على الاقتراب منه، وكأن كل هذه الأعمال القصصية محاولات للاقتراب من سر دفين يشبه سر الحياة، لاتزال الذات في هذه القصص تضن على القارئ بمكنونها الخاص، وتطرح له ماهو عام، وحين يقترب يلجأ إلى الشعر والصمت والرمز.. ولهذا فان هذه المجموعة تمثل صورة من ممكنات الكاتب في معالجة القضايا، وتجعلنا على مشارف ولادة رؤية جديدة نكاد نلمحها، لكن لا نستطيع الإمساك بها.. وهذا ما يجعلنا في شوق لقراءة أعماله القادمة، التى لعلها تفتح الباب لهذه الإشارات العابرة التى تشبه الومضات لتصير أعمالا أدبية تقدم لنا الوجه الآخر.

مقالات من نفس القسم