استطرادات فينومينولوجية: (1) الاستطراد واستئناف الكينونة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الناصر حنفي

حول الاستطراد بوصفه عملية معرفية:

(أو تدريب على الوصف الفينومينولوجي للغة):

1- لا يكاد أحد يتخيل مجال اللغة أو فضاء الفعل اللغوي إلا ويقفز إلى ذهنه حقل المعاني والدلالات، وكأن هذا يحايث هذا ويرتبط به في معية لا تنفصم وبداهة لا يمكن نقضها، وبالنسبة للفينومينولوجيا التقليدية (أو الهوسرلية) فقد تعد مثل هذه الحالة هدفا مثاليا لما يسمى بالتعليق أو التقويس الفينومينولوجي، أي وضع هذه الترابطات بين أقواس أو تنحيتها جانبا ومساءلتها عما يمكن ردها إليه (أصلها) ووصف ماهيتها وما إلى ذلك، ولكن للأسف فإن هذه الخطوة التي يفترض أن تستهل المهام الفينومينولوجية من رد ووصف لم تتم أبدا على نحو كاف فيما يتعلق باللغة، وذلك ببساطة لان تلك الفينومينولوجيا تعد “اللغة” -بصفة عامة- بمثابة الحقل الأصلي للبداهات أو البديهيات التي تسعى وراءها وتستهدفها، وبالتالي فإن تنحية الترابطات اللغوية جانبا أو تقويسها قد يتركها في صحراء من العماء والتيه الذي لا سبيل للخروج منه، وهو ما يفضي بها إجرائيا إلى انحصار تحليلها في كل مرة تتعرض فيها للغة داخل بقع أو كتل أو موضوعة بعينها من فضاء المعاني والدلالات، بحيث لا تقوم بتنحية أو تقويس ما هو أكثر من معنى بعينه وليس علاقة المعنى اجمالا على نحو يجعل تحليلها في النهاية مجرد حراك بسيط يبدأ من معنى ليصل إلى آخر، وسواء وعت تلك الفينومينولوجيا التقليدية ذلك وأعلنته بوصفه قرارا أو اختيارا أو حتى مصيرا لا فكاك منه مثلما فعل هيدجر، أم احتفظت به بوصفه مبدأ ضمني يحكم حركتها التحليلية مثلما فعل غيره، فإن هذا يفسر لنا لماذا تتقلص الفينومينولوجيا وتفقد عموميتها أو شمولها المنهجي فور خروجها من ميدان تحليل معطيات الشعور -ارضها الأثيرة- نحو مجال اللغة وما يرتبط بها من إنسانيات؛ ولماذا تتحول حينها إلى مجرد ضرب من ضروب التأويل (الهيرمنيوطيقا) أو الموضوعاتية، ولماذا تبدو اللغة بالنسبة لها وكأنها شيء اصلي استهل نفسه بـ “نفسه” وبات يبدأ علاقته بالعالم بها ولا ينهي هذه العلاقة إلا عائدا إليها مرة أخرى، أي أن اللغة أصبحت تقدم نفسها وكأنها كيان مفارق في مواجهة العالم لا نمط من أنماط العمليات التي تجري فيه! وهو ما اصطنع تلك الأرض التي دفن فيها الفعل اللغوي بوصفه “فعلا” بحيث ترعرعت فوق جثته وازدهرت حقول السيميولوجيا والبنيوية وصولا إلى التفكيك الذي كان محاولة وقحة ومتأخرة أكثر مما ينبغي لإعادة بعثه فينومينولوجيا عبر تقطيع أوصاله!

ولتجنب هذا المسار البائس علينا الإقرار أولا أن اللغة لم تنشأ مباشرة من المعاني أو الدلالات، بل عبر التطور البطيء لعلاقات الترابط والازاحة التي تنبثق في فضاء الحضور بين الفعل الصوتي من جهة وحدث أو عملية بعينهما يجريان في العالم من جهة أخرى، أما ما نطلق عليه المعنى أو الدلالة فليس سوى أحد التحورات المستحدثة لهذا السياق. وليس بالضرورة أن يكون هناك تطابق تام بين المعنى المتحور وعلاقات الترابط التي تحور عنها، وهو ما يمكن كشفه عبر العودة إلى العلاقة بالعالم التي كان الفعل الصوتي يستهدفها قبل أن ينحيها هذا المعنى ويجثم فوقها. وبالتالي فعلى مستوى اللفظ المفرد يمكن أن نعثر على عدة طبقات اركيولوجية تمثل علاقة هذا اللفظ بالعالم بحيث قد يحجب بعضها بعضا احيانا، ولكنها في كل الأحوال تتساند ويؤثر حراك أولها في آخرها على نحو يمنح للفظ درجة تماسك (أو تخلخل) حضوره في فضاء المعاني والدلالات.

وهذه الفرضيات لا تضعنا فقط أمام نطاق اجرائي يمكن أن يفتتح مسارات أكثر اتساعا لصالح حقل “أركيولوجيا اللغة”، ولكنها أيضا تمنح استئنافا جديدا ومغايرا لتلك المهمة الاستكشافية الرائدة التي استهلتها الفيلولوجيا (فقه اللغة) في القرن التاسع عشر قبل أن تتعثر ويتم تجاهلها منذ منتصف القرن الماضي.

 

2- سنبدأ إذا بالتوقف أمام الفعل الصوتي “استطراد” ونحاول تحليل كتل الصوت التي تكونه ومسارات الترابط بينها في تشابكها مع عمليات بعينها في العالم.

وبغض النظر مؤقتا عن المعنى الذي يخص لفظ الاستطراد إلا انه بوصفه اجراء او تقنية بلاغية فهو يتمتع فضلا عن ذلك بمجال حركة أكثر تجريدا موضوعه اللغة ذاتها باعتباره أحد الأفعال اللغوية التي تعمل على مستوى علاقات المعنى داخل “المكون اللغوي” المتمثل في العبارة أو الجملة أو الفقرة،  وفي هذا الاطار تقدم البلاغة “الاستطراد” بوصفه انتقالا من معنى إلى معنى، أو من موضوع إلى آخر، وهو انتقال يبدو –أو يبدأ- عارضا في الغالب حتى وإن مال أحيانا إلى معاودة تأكيد قصديته واستهدافه لذاته، والبلاغيون العرب عادة ما كانوا يصنفون “الاستطراد” عبر مقارنته مع تقنيتي “الخروج الحسن” و”حسن التخلص”، أي أنه في كل الأحوال مجرد نمط للانتقال الداخلي بين بعض حالات اللغة، ولا يوجد هنا الكثير مما يجذب الاهتمام!

أما المعاني المعجمية للصوت نفسه فتأتي أكثر إثارة بما لا يقاس، فاللفظة هي أحد اشتقاقات الكتلة الصوتية “طَرَدَ” التي تعني الإبعاد في أكثر معانيها، ولكنها أحيانا تعني أيضا الجمع أو الضم (طَرَدْتُ الإِبِلَ طَرْداً وطَرَداً أَي ضَمَمْتُها من نواحيها –لسان العرب)، وهو ما يمكن فهمه فينومينولوجيا باعتبار أن الحركة التي تطرد “شيئا ما” تبعده عن محل ولكنها في نفس الوقت “تقربه” أو تعيد جمعه وضمه إلى محل آخر، والعكس بالعكس، وهو ما يتفق مع بعض الاستخدامات الحديثة الأكثر انتشارا لهذا الصوت والتي تقدم رباطا يصعب فصمه بين الابعاد والضم بحيث أصبح الصوت “طرد” يحيل إلى شيء أو حمولة ما يتم إرسالها –بريديا- من مكان بعينه لتستقر في مكان آخر أو في سياق آخر.

 وهكذا فإن حالة الضم وإعادة التجميع التي تظهر في معاجمنا القديمة بوصفها معنى ثانوي وهامشي وغير مفكر فيه تقريبا؛ تتحول هنا إلى ما يمكننا اعتباره النقطة الفينومينولوجية الوحيدة التي تحقق النهاية القصوى والأخيرة التي قد يتوخاها فعل الطرد عبر أغلب اشتقاقاته، أي أنها تعمل بمثابة الأفق الذي تتوجه نحوه دائما تلك العلاقة القصدية التي تؤسس لظهور هذا الفعل في العالم.

ويشتق من الصوت “طرد” شبكة من التلفظات، مثل: “الاطراد” الذي يعني التتابع داخل نطاق نفس الفعل أو الموضوع، و”الاضطراد”، أي التتابع المنتظم الذي ينتج عن ضم أو “طوي” ما هو متباعد في علاقة تسلسلية بحيث يفضي كل حد في السلسلة إلى الذي يليه، و”الطراد”: أي الصيد أو المناورة في القتال حول خصم أو هدف، والتي تعني توالي الاقتراب والابتعاد عن الخصم للنيل منه، و”المطاردة”: التي تسعى إلى ضم ما تستهدفه عبر مواصلة الاقتراب منه باستمرار، ويجمع بين الطراد والمطاردة أن الفاعل نفسه يبتعد هنا عن النقطة التي بدأ منها، بمعنى أن “ابعاد” الهدف يتحول إلى “ابتعاد” للفاعل، بينما ينفرد “الطراد” بالجمع –المتوالي- بين ابتعاد الفاعل واقترابه. أما لفظة “استطراد” فتأتي بالبادئة “إستـ” والتي تشير إلى فعل يفتقر إلى التلقائية بقدر ما يحيل إلى ما هو قسري أو مفروض بمعاندة على الحدث أو السياق الذي يظهر فيه.

وبرغم أن لفظة “طرد” بذاتها قد تشير إلى فعل مفرد يظهر داخل حدث منقطع بحيث ينشأ عنه تقابل حالتي الاقتراب والابعاد إلا أن هذا اللفظ ما أن يدخل في اشتقاق حتى يتطلب سلسلة من الاحداث المتتابعة؛ والمتباينة في طبيعتها أحيانا، فالطراد والاضطراد والمطاردة هي سلسلة متتابعة من الأفعال والاحداث، وهو ما يعني إضافة حالة أخرى –ضمنية- إلى حالات ظهور الصوت “طرد”، وهي التعاقب أو “التتابع”، والتي تتطلب “تكرار” الفعل بشكل أو بآخر. وهنا ينبغي أن نلاحظ أن ما يجعل هذه الأفعال المتتابعة مترابطة في إطار متجانس هو تشاركها في نفس نقطة التوجه التي اختارها الفعل القصدي موضوعا له، أي نقطة الاقتراب التي تفضي إلى محطة الوصول الأخيرة التي عندها يتحقق القصد ويتم ضم الشيء أو جمعه إلى غيره، لأنه إذا اسقطنا هذه النقطة أو اهملناها ستتحول الحركة هنا إلى مجرد تذبذب عشوائي.

وهكذا، فبجرد أولي للحالات التي يقدمها الصوت “طرد” ومشتقاته يصبح لدينا الابعاد والابتعاد والاقتراب والضم او إعادة التجميع، والتتابع والتكرار والمعاندة.

3- وبموازاة التحليل الصوتي، فإن مقارنة نفس المعنى في أكثر من لغة قد يلقي ضوء أكثر على العملية التي يفترض أن الصوت في اللغة التي نتناولها يتعالق معها، بحيث يتم تأكيد هذه العلاقة أكثر أو حتى كشف المزيد من جوانبها، والاساس الفينومينولوجي للمقارنة هنا ينطلق من تجانس العمليات الأساسية التي يتكون منها العالم على نحو يجعلها عابرة للاختلاف بين اللغات.

وهكذا، فالمقابل الإنجليزي –مثلا- لكلمة “استطراد” هو لفظة (digression) وهي من اللاتينية (digressionem) والتي تجمع بين معنى الحفر (dig) ومعنى النفور أو الابتعاد (ressionem)، أي أنها تعني الابتعاد حفرا أو الخطو بعيدا -ولكن بمشقة- عبر ارض أو سياق غير مواتي بحيث أنه لا يجعل ما نقوم به أمرا سهلا، وبالتالي نجد هنا أيضا حركة انتقال محفوفة بحالات الابتعاد والاقتراب والتتابع والمعاندة.

ولكن الإنجليزية لديها أيضا لفظة ثانية تقابل الاستطراد وتحمل بعض التحولات المثيرة، وهي (discursive)، والتي تعني في البلاغة الإنجليزية: “استطرادي”، أو استطراد متكرر، وهي من اللاتينية (discurrō) وتعني (running about – or to and fro)، أي الجري حول؛ أو من إلى؛ شيء ما، وبالتالي فلا تكاد هذه اللفظة تحتفظ بما ذكرناه من حالات إلا التتابع والتكرار، بحيث ستبدو وكأنها تصف “الاستطراد” (حين تصفه) من خارجه، ولذلك فربما كانت تتماس -أولا- مع لفظة “طراد” التي تشترك معها في وضعية الانحصار حول شيء بعينه بحيث يصبح التتابع والتكرار هنا يحملان وقع أو سمت الالتفاف والمعاودة! مثلما تتماس –ثانيا- مع لفظة “اضطراد” التي تؤكد أيضا على تكرار التتابع ذاته، وهو ما يجعل استعمال هاتين اللفظتين يميل أكثر إلى دمجهما في وصف الظواهر الأكثر شمولا، فالاضطراد العربية قد أصبحت معنى ملازم لأي انتظام في ظواهر العالم، بينما تدرجت لفظة (discurrō) في اللاتينية المتأخرة (القرن السادس أو السابع) لتعني “محادثة” (conversation) أي الممارسة الكلامية المتبادلة اجمالا، ثم مع لاتينية العصور الوسطى باتت تشير إلى التفكير المنطقي أو العقلاني الذي تتتابع أفكاره باضطراد من نقطة إلى أخرى، وصولا إلى أن أصبحت تشير إلى الممارسات الخطابية بصفة عامة.

4- وبما أن الاستطراد هو أحد اشتقاقات اللفظ طرد، اي أنه بالضرورة حالة خاصة من الحالة العامة التي يرصدها هذا اللفظ؛ فسنحاول رصد ووصف معالم ومسارات هذه الحالة في إطار فينومينولوجي بعض الشيء.

وكما سبق أن ذكرنا تبدأ الحركة التي يقدمها اللفظ “طرد” بالإبعاد وتنتهي –إن اكتملت- بالضم؛ مرورا بالاقتراب الذي تنبع منه كافة اشتقاقات هذا اللفظ.

والإبعاد والضم والاقتراب هم حالات يمكن التفكير فيها عبر مفهوم “المسافة”، فالإبعاد هو توسيع المسافة أو تمديدها وفتحها أو حتى كشفها واستحداثها حيث لم تكن من قبل وهو ما يتيح لنا التفكير فيه تحت ظل مفهوم الاستعارة ولكن ليس باعتبارها فعلا بلاغيا وإنما بوصفها نمطا من أنماط الحركة الذي قد ينشأ عنه ترابط خاص، عارض ومؤقت بطبيعته.

أما الضم فهو يكمل أو ينهي القصدية التي بدأت بها الحركة من خلال نفي حالة “الابعاد” بوصفها تغيرا مستمرا، وإحالة المسافة التي استحدثتها إلى مجرد “بعد” مستقر يفصل بين شيئين أو حالتين، وهو ما يفضي إلى ظهور أكثر من شكل للترابط الذي تتحقق عبره حالة الضم:

 أولا: الترابط عبر “المحايثة”: بمعنى ضم شيء بعينه إلى محل بعينه، اي أن يصبح هذا كائنا حيث يكون ذاك، والمحل هنا ليس بالضرورة مكان أو إحداثي مكاني، بقدر ما هو بالأساس نقطة جيوديسية (أي نقطة محددة أو مميزة بحيث يمكن القياس عليها) قد تقع في فضاء الظهور أو الحضور أو الوعي أو أي مجال مفاهيمي.

وثانيا: الترابط عبر “المعية”: أي عبر جعل شيء مع شيء آخر بغض النظر عن محل كل منهما، وكذلك بغض النظر عن ثبات هذا المحل أصلا من عدمه؛ أو حتى عن وضعية سكون هذين الشيئين أو تحركهما، شرط أن يتغيرا معا.

وثالثا: الترابط عبر “الطوي”: بمعنى أن يصبح شيئا ما داخل شيء آخر، او أن يصبحا معا داخل كيان ثالث، وهو ما يتضمن الحالتين السابقتين إلى حد ما، فالشيء المطوي يقع “حيث” طوي، مثلما يكون “مع” ما طوي فيه عبر تغيره أو حركته وسكونه.

والترابطات القائمة على المحايثة والمعية الطوي هي ترابطات “كنائية” ولكن على نحو يتجاوز كثيرا المعنى البلاغي للكناية، فهذه الترابطات تقدم لنا الأنماط الأساسية التي تتجمع عبرها الأشياء معا في “عالم الظهور”.

وما أن تتحقق إحدى هذه الترابطات حتى تسكن أو تستقر المسافة التي استحدثتها حركة الإبعاد مما يعني أنها لم تعد مؤقتة ولم تعد عرضية، وهو ما يذهب عنها تعريف “الترابط الاستعاري”! بحيث يمكننا القول أن كل ترابط كنائي ينشأ هنا يكون على حساب محو أو ابتلاع أو تطوير ترابط استعاري سابق عليه.

ومن جهة أخرى فإن حالة “الاقتراب” التي تظهر قبل تحقيق عملية الضم هي مجرد امتداد للمسافة التي استحدثها الابعاد ولكن منظورا إليها انطلاقا من الشيء المستهدف نفسه، إنها المسافة التي تفصل الحركة أو الفعل عن قصده، وبالتالي فالاقتراب ايضا يتأسس على ترابط استعاري مثل الإبعاد، ومن ثمة فهذا الترابط يتلاشى بدوره عند تحقق مهمة الضم أو الترابط الكنائي، ولكن هذا يتم على مرحلتين: فأولا تتحول المسافة التي تخص الاقتراب إلى جزء من المسافة التي تخص الابعاد بحيث يتحولا معا إلى “بعد فاصل” بين الحالة أو الشيء الذي نشأ عبر عملية “الضم”، وبين غيره، وبالتالي يتم محو جانبهما الاستعاري معا كما ذكرنا من قبل.

وهكذا، فأسفل الفعل الذي يشير إليه لفظ “طرد” يمكننا تلمس سياق أو سلاسل العمليات التي تقوم باستحداث الترابط الاستعاري وتحوله إلى ترابط كنائي، وبما أن هذه العمليات بذاتها هي التي تنهض “بتكوين” ما “يكونه” الشيء في العالم وتمنحه لحظة ظهوره داخل فضاء الحدث مثلما تشكل الصيغ الأساسية في تكوين المعرفة وحراكها الذاتي؛ فإن هذا يشير إلى مدى عمق التقاطعات الفينومينولوجية التي يحيل إليها هذا الصوت واشتقاقاته.

 (للمزيد حول الاستعارة والكناية بوصفهما نمطين من الحركة والترابط المعرفي يمكن مراجعة دراستي: “في التقنية الجمالية”- مجلة فصول – عدد 63 – 2004)

5- وفي ضوء هذا المسح المعجمي والتحليل الفينومينولوجي علينا ملاحظة أن هناك حالتين لتحول لفظة “طرد” من حدث مفرد إلى عدة أحداث متتابعة أو متعاقبة، وهما تتعلقان بمدى تحقق أو إخفاق مهمة “الضم” أو الجمع، فإكمال هذه المهمة يمثل نهاية الفعل، ومن ثمة فإن الأحداث التالية في نفس الإطار –إن وجدت- لن تكون سوى تكرار آخر موازي للفعل ذاته، وهو ما لا يضيف إلينا أي حالات جديدة باستثناء التتابع الناشئ مباشرة عن التكرار، اما في حالة إخفاق مهمة الضم فهذا يعني أن ما أفضت إليه الحركة هنا هو محض “اقتراب” غير كامل، والاشتقاقات المختلفة تشير إلى السعي نحو إكمال تلك المهمة عبر إلغاء هذا “الاقتراب” وتحويله إلى ضم وهو ما قد يتحقق أو لا يتحقق عبر تتابع الفعل والحدث.

 وبالتالي يمكننا جمع معاني وحالات لفظة استطراد بوصفها تتضمن الضم والابعاد والتكرار والاقتراب والإكمال والتتابع والمعاندة، والالتفاف والمعاودة، وهو ما يتيح لنا وصف مسار ظهور حالة “الاستطراد” باعتباره يبدأ من الحركة الأساسية لفعل “الطرد” التي تقوم بتخليق حالتي “الابعاد” و”الضم”، وعند تحقق الضم ينتهي الفعل ومعه حدثه الخاص بحيث يصبح “تكرار” الفعل بمثابة تكرار للحدث نفسه تقريبا بشكل “متتابع” وهو ما يتماس أو يتقاطع مع حالة الاضطراد، أو الاطراد.

 أما حال إخفاق الضم أو ظهوره بوصفه مجرد “اقتراب” فإن تكرار الفعل لا يفضي إلى تكرار نفس الحدث بقدر ما سيؤدي إلى “تتابع” لبعض الأحداث المتباينة بحيث قد تستدعي أفعال وحالات متباينة أيضا مثلما نجد في اشتقاقي “الطراد” و”المطاردة”، بينما في حالة مقاومة الموضوع للفعل ستظهر حالة “المعاندة” التي نجدها في اشتقاق “الاستطراد”، والذي يجمع أيضا كل الحالات السابق ذكرها.

وقد يبقى هذا المسار مفتوحا وقابلا لمعاودة التكرار أو التتابع، أو ينتهي إذا تحققت حالة الضم التي استهدفها منذ البداية، وينبغي أن نؤكد أنه عند مدى معين من انفتاح هذا المسار وتوسعه سيبدأ في التقاطع مع الظواهر الأكثر شمولا كما رأينا فيما سبق.

وبذلك يتضح أن مسار حالة الاستطراد ينطلق من تلك المسافة أو الثغرة التي تنفتح بين فعل الـ “طرد” وموضوعه سعيا إلى إلغائها، ولكن هذا الإلغاء إن تحقق يلغي معه حالة الاستطراد أيضا ويحولها إلى مجرد فعل طرد منتهي ومكتمل في علاقته بموضوعه، وهو ما يعني ان الاستطراد –بوصفه كذلك- يشير دائما إلى فعل غير مكتمل وغير منتهي بذاته

6- ورغم ذلك فكل ما مررنا به حتى الآن لم يقدم بعد ما أظنه الجانب الأهم على الإطلاق في عملية الاستطراد والذي يجعلها ممارسة فلسفية بامتياز، إن لم نقل أنها اصل هذه الممارسة وشرطها اللازم والدائم، أي الاستطراد بوصفه “استئنافا” أو تحويلا للترابط أو المكون الكنائي إلى ترابط أو مكون استعاري تمهيدا لخلق كنايات جديدة.

ولنبدأ هنا من حالة المعاندة التي تضع حدا فاصلا يميز بين الاستطراد والطراد، وهو تمييز يفترض أنه مجلوب إلى اللفظة عبر الصوت “استـ”، والذي تعاطينا معه حتى الآن بوصفه مجرد لاحقة صوتية، ولكن عكس أغلب اللواحق الأخرى فلهذا الصوت حضور معجمي يخصه يبدأ من الإحالة إلى “العجز” أو المؤخرة، ثم يتطرق مما هو أسفل الجسد إلى أسافل الحياة بصفة عامة (الفقر وضيق الحيلة والتبعية المهينة … إلخ)، ثم عبر حزمة مركبة من الاشتقاقات التي كان يولع بها قدامى النحاة العرب حد الهوس؛ يتم اسقاط التاء أو ابدالها بالهاء بحيث يقفز اللفظ إلى معني السهو، ثم عبر مناورات صوتية أكثر تعقيدا يصل إلى معاني الاستهانة، ولكن ما يهمنا في هذه الرحلة المضطربة هو إحالته إلى ما هو “أول” أو “أصل”، حيث “است الدهر: أوله” (لسان العرب)، مما حدا ببعض المعجميين إلى تمديد الاشتقاق بحيث تتحول “است” إلى “أس” (أي اصل)، وهو ما رفضه “ابن منظور” انطلاقا من أنه رغم اتفاق المعنى إلا أن التشابه الصوتي هنا هو مجرد مخالطة صوتية أكثر منه اشتقاقا “صائبا”!

ولكن يبدو أن الصوت “است” له حضور قد يكون اسبق من العربية نفسها واوسع من حدود انتشارها، وإذا تجاوزنا مؤقتا عن مناقشة أصوله في المصرية القديمة والتي قد تجعله يقع في مسافة ما بين صوتي ايزيس (ايسيت، ايسة) وست؛ فسنجده متغلغلا في جذور اللغات الهندوأوروبية (السنسكريتية والاغريقية واللاتينية) وصولا إلى نسخها المعاصرة، وهو دائما يأتي بمعنى الكينونة أو “ما يكون” (“est” في الفرنسية، و”ist” في الألمانية، والتي جاءت منها “is” في الإنجليزية)، وهو كذلك بنفس المعنى في الفارسية (جارة العربية الأقرب، واللغة الأم لأهم مثقفيها!)، بحيث يمكننا القول أن إحالته في العربية إلى “ما هو أول” و “ما هو أصل” لم تأت عرضا أو على سبيل المخالطة الصوتية بقدر ما كانت تنويعا مقبولا ومتوقعا على معناه الأساسي المتعلق بالكينونة على نحو يجعل هذا المعنى “اركيولوجيا” بمثابة حفرية تسجل الاستجابة الأولى (والأقدم) التي استقبلت عبرها العربية الصوت “است”.

وفي ضوء هذا التحليل سيبدو ذلك الركام المعجمي الهائل والعجيب المحيط بالصوت (است) والذي يلتف حوله مقدما نفسه باعتباره المعاني الأكثر أساسية له؛ وكأنه يقوم بعملية هي أقرب للطمس و “الشوشرة” منها لتأصيل الكلمة، وللأسف فرغم ثراء المعجم العربي فلا أعتقد ان مثل هذه الحالات المضطربة نادرة في طبقاته التكوينية.

7- وهكذا، سيصبح لدينا هنا قراءة مختلفة لما تعنيه الكتلة الصوتية للفظ الاستطراد، بوصفه مكون من “است” (أو ما يكون) وطراد (صيد)، بحيث يحيل إلى معنى “صيد الكينونة” أو “طراد ما يكون أو ما هو كائن”، أي طراد است!

وبالمناسبة، فالصوت “طرد” في الفارسية يأتي بمعنى: النفي والفصل والصرف، وبالتالي فـ”طرد است” تعني الرفض أو النفي الموجه إلى ما يكون، ويمكن التفكير هنا في أن هذا النفي والرفض يتوجهان تحديدا إلى ما تمثله اللفظة “است” باعتبارها رابطة الاسناد أو العلاقة الترابطية التي تجمع الشيء بما يكونه؛ أو بما هو عليه في علاقته بغيره، وهو ما يتوافق تماما مع حالة الاستطراد بوصفه “استئنافا” لما يكون.

وهنا تصبح معاندة الاستطراد هي معاندته ضد ما يكون من جهة ومعاندة ما يكون –حسب مدى تماسك علاقات مكوناته- ضد فعل الاستطراد من جهة أخرى.

8- وبهذا نصل إلى إمكانية تقديم وصف فينومينولوجي متكامل بعض الشيء للممارسة الاستطرادية، فهي أولا استئناف خاص لحالة الطراد ولكن في ظل معاندة موضوعها حسب مدى تماسكه وليس حسب قدرته على الإفلات (كما في المطاردة) أو قدرته على مواجهة الفعل بفعل مضاد (كما في الطراد)، وهو ما يضع قيدا فينومينولوجيا هنا يستبعد أن يكون موضوع الاستطراد فاعل قادر بذاته على الحركة أو المواجهة، وربما تمكننا هذه الملاحظة من تفهم لماذا تقصر العربية استعمال هذه المفردة في العلاقة بالأفعال والمعاني فقط دون الأشخاص أو الأشياء، وبالمقابل تمنع العربية استعمال لفظة الطراد فيما يتعلق بالمعاني والافعال، وهو ما يعني أن الطراد والاستطراد لا يلتقيان أو يتكاملان ابدا في العربية لاختلاف موضوع اشتغال كل منهما.

ويمكن التفكير مبدئيا في وضعين لحالة الاستطراد، الأول تسعى فيه إلى إكمال قصدية الضم والجمع، أي أنها تعد هنا بمثابة استئناف لحالة “طرد” أو “اطراد” سابقة عليها انطلاقا من ظهور حالة المعاندة. والمعاندة (من “العندية”، اشتقاقا من “عند”) تعني تماسك الكائن مع ما هو “عنده” أو في معيته، أو بما هو في “حيث” معه، ولذلك فالاستطراد لا يستهدف موضوعه مباشرة بقدر ما يتوجه إلى استهداف ما يتعلق بمحايثته ومعيته، إلا أن هذه الوضعية تعد ثانوية بعض الشيء.

أما الوضعية الثانية فهو أن يستأنف الاستطراد معنى موضوعه نفسه سواء من زاوية ما يكونه بذاته أو ما يكونه بغيره عبر استحداث المسافة بين ترابطاته المؤسسة (أي المحايثة والمعية والطوي) وهنا يستنفر الاستطراد المعاندة التي تخصه ولكنه يستبقي مما يخص عملية “الطراد” حالتي الالتفاف والمعاودة،

وهكذا، فالاستطراد في هذا الوضع سيقوم بتفكيك أو مناورة هدفه عن طريق إزاحة النقطة التي “يتحيث” فيها، أو مباعدته عنها، وفك ارتباطه عما هو في معيته عبر استحداث حالة حركة أو سكون لا يصاحب فيها الشيء ما هو معه، وبسط ما يطويه الشيء أو ما ينطوي هذا الشيء داخله؛ وإخراج أحدهما إلى “حيث” يكون في مبعدة عن الآخر.

 وكل هذه التحركات أو الانتقالات التي يستحدثها الاستطراد تفضي أولا إلى تفكيك بعض الترابطات الكنائية التي يتكون منها عالمنا، مما يعني توسيع مقابل لفضاء الترابطات الاستعارية، ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن كافة الحالات التي يفككها الاستطراد في هذه المرحلة تنتهي غالبا إلى حالات من نفس جنس ما بدأت به، بمعنى أن فك المحايثة ينتهي إلى محايثة أخرى، لأنك لا تستطيع زعزعة نقطة محايثة بعينها إلا عبر استحداث نقطة محايثة أخرى، ونفس الأمر يصدق فيما يخص فصل معية التغير بحيث سننتهي إلى تغير آخر يجلب معه أطراف معيته، وكذلك بسط التطوي عبر استخراج مكوناته إلى محايثة أو معية مغايرتين سيمهد بدوره إلى ظهور تطوي آخر أو إلى إعادة تصنيف نفس المكونات ضمن شكل تطوي مختلف.

وهو ما يعني أن الحالات التي يتأسس عليها الترابط الكنائي تبقى قائمة مهما حاول الاستطراد إعادة توزيع مكوناتها أو عناصرها، مما يعني أن التوسع في فضاء الترابطات الاستعارية عبر نثر وفصم ما كان مترابطا في إطار كنائي؛ يمهد في الوقت ذاته لتوسع مقابل في فضاء الترابطات الكنائية، وظهور مكونات كنائية جديدة، الأمر الذي يؤدي إلى تطورات مستمرة ومتباينة في حضور العالم. وهذا الحراك يمكن ملاحظته بسهولة إذا ما تأملنا في تاريخ الفلسفة، فأغلب نزعات الشك الراديكالية التي لم تكن تحرص سوى على البقاء حيث تستطيع تفكيك الترابطات الكنائية وتحويلها إلى محض استعارات قد اعقبها توسع أكثر منهجية وتماسكا من حيث الترابطات التي تطرحها الفلسفة حول العالم.

الاستطراد إذا بالنسبة للفلسفة يعمل بوصفه الأداة الرئيسية لـ حراك الكينونة، أو حتى “اصطياد الكينونة” إذا كنا نرغب في استخدام عبارات ذات سمت هيدجري، ولا اعلم هل كان لهيدجر –وهيدجريوه- أن يبدي ارتياحا أمام نتيجة كهذه، أم أنه كان ليمتعض لأنها جاءت من خارج الاغريقية التي اعتبرها لغة أسطورية تتكلم الفلسفة بلا شريك!

ولكن بغض النظر عن هذه المماحكة الفلسفية، فإن الممارسة الاستطرادية طبقا للوصف الفينومينولوجي الذي قدمناه هنا تبدو وكأنها أحد مسارات علاقتنا بالعالم في ظهوره وحضوره، وفي حراك ترابطات مكوناته بين فضائي الاستعارة والكناية، أي أنها ليست حكرا على الممارسة الفلسفية، ولا حتى الممارسات اللغوية اجمالا، بقدر ما هي ممارسة معرفية عامة (أو بالأحرى ابستمولوجية)؛ تخصنا جميعا، وتؤدي وظيفة بعينها يمكننا تسميتها بـ استئناف الكينونة”، أي أن فعالية الاستطراد تكاد تنحصر في استحداث المناطق البينية أو المراحل الانتقالية بين حالة وأخرى للكينونة، أما توطيد دعائم هذه أو تلك فشأن آخر لن نتعرض له هنا.

9- لقد بدأنا من البلاغة التي تتعاطى مع سطح الممارسة الاستطرادية بوصفها عملية انتقال للفاعل المتكلم من موضوع إلى آخر، ولكن عبر هذا التحليل الفينومينولوجي أوضحنا كيف يعمل الاستطراد ليس على نقل أو تحريك المعاني ذاتها ولكن أيضا على إعادة تشكيل معرفتنا حول “ما يكون”، وهو ما كشف عن أن العربية هنا لديها ما يمكن اعتباره “قرارات ابستمولوجية” حول ماهية الاستطراد، أو فلنقل –على الأقل- إنها تفكر فيه باتساق على نحو دون غيره، مما يضع أقواسا صارمة حول ما تقدمه لنا البلاغة والمعاجم العربية ذاتها من طمس لهذا التفكير، ويضعنا أمام تساؤل حاد حول ماهية التقلبات الاركيولوجية الاستثنائية –ربما- التي خاضتها العربية!

وسنحاول في استطرادات مقبلة استثمار هذا التحليل بكافة تفريعاته وصولا إلى دفعه للتوسع تجاه بعض التأملات المعممة حول فينومينولوجيا العالم.

 

مقالات من نفس القسم