استدعاء ولي أمر.. عنف أسري وغربة لا نهائية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نسمة عودة

منذ خمسين سنة نُشرت المسرحية الشعرية الآسرة ” ليلى والمجنون” لصلاح عبد الصبور، كان سعيد البطل مريضًا بالشك، يرى العالم من منظور سوداوي، تنعكس طفولته الحزينة ونشأته المضطربة في كل تصرفاته.

في العرض المسرحي استدعاء ولي أمر للكاتب الموهوب محمد السوري والمخرج زياد هاني، سأل البطل يحيى (الذي يبدو كميت) حبيبته عن تفاصيل علاقتها العاطفية السابقة وهل قبلها حبيبها أم لا؟
فتذكرتُ على الفور سؤال سعيد (التعيس للغاية) لحبيبته ليلى.. هل أبحر ودكما فوق سريره أم أغفى تحت سلالم بيته؟
نعم.. لم يختلف الوضع كثيرًا، مازلنا ندور في الدائرة المغلقة ذاتها، فأبناء جيل النكسة أصبحوا آباءً لجيل اليوم، وكما يرث الأبناء جينات آبائهم ولون أعينهم، يرثون أقدارهم السيئة وصفعاتهم المهينة وتشوهاتهم النفسية العميقة. لقد نشأ أبناء الهزيمة والانحدار والقسوة على العنف، فاعتادوه ثم استعذبوه ومارسوه على كائنات أضعف بكل استحقاق فقط لكونهم أبنائهم. النتيجة هي أجيال تتغذى على الشك والشعور بالدونية وعدم الاستحقاق للحب.
لست في حالة عقد دراسة مقارنة بين المسرحية الشعرية والعرض المسرحي، لكنني في حالة تأثر شديد بكلتا الشخصيتين، يحيى الطالب المراهق المُعنف هو سعيد المثقف الثائر في حياة أخرى، أو بمعنى أدق في نص آخر، روحًا مهزومة وجسدًا ضئيل، ونفسية مشوهة. فلا يختلف عشيق والدة سعيد الذي كان يسبه ويغتصب أمه أمامه فقط لأنه يشتري لهما الطعام، عن والد يحيى الذي يضرب أمه وشقيقته أمامه ويجلده بالحزام دون رحمة بسبب استدعاء ولي أمر! السبب واحد، والنتيجة واحدة، وكلمة السر “العنف”.

استدعاء ولي أمر

جملة مرعبة تمثل تهديدًا حقيقيًا لكل طالب يفتقد العطف الأبوي ويعيش غريبًا في بيته، لأنها لا تعني ضرورة حضور الأب للمدرسة بقدر ما تنبئ بضرب مبرح وتشوه إضافي. وهذا ما كان يخشاه يحيى، وهذا ما تم.
المدرس في العرض المسرحي يشبه الكثير من الأساتذة الذين قابلناهم أثناء دراستنا، شخص لا يسمع، ولا يقدر الظروف. يتعامل مع تلميذه كأنه شيء لا روح، مجرد رقم في قائمة.

بيت مكتظ بالأبواب المغلقة

بيت مكتظ بالأبواب المغلقة
لم تظهر الأبواب كجزء ثابت من الديكور المسرحي فقط، بل كانت دلالتها عظيمة ومؤثرة، جعلت حركتها بعض المشاهد أقرب للوحات فنية. فبدا لي يحيى المضروب النازف وهو يقف بين بابين كمسيح صغير مصلوب، لم يتخلَ عنه الأب وحسب، بل هو من عذبه.

تقوم الابنة أيضًا برحلة بحث مضنية عن أب بديل، فتتعرف على رجل يكبرها بسنوات، لكنه يقرر أن يتركها رغم توسلاتها بالبقاء. تتنقل بين الرجال كدمية تتلاعب بها الأيادي المجهولة الخارجة من فتحات بالأبواب، فتتغير وتفقد اتزانها وبراءتها.
كل منهما حاول أن يعانق الأب في حاجة واضحة للشعور بالأمان، لكنه لم ينتبه وابتعد.

 أن تكون جراحك غير مرئية

ـــ من حقي أتكلم.
ـــ ومن حقي ما اسمعش.

حوار قصير بين الابنة ووالدها لخص المأساة، الآباء لا يسمعون إلا صوتهم.
تتحطم الفتاة حين يتحول الأخ المقهور إلى صورة مصغرة للأب العنيف فيضربها مثله ويصرخ في وجهها بطريقته، لتصرخ الأم في وجهه “شبهه”، فيرتعد الابن ويتساءل كيف أصبح يشبه شخصًا يكرهه.
حين يحكي يحيى عن مخاوفه الدائمة من والده، يسخر منه، ويسخر نموذج المعالج النفسي الغليظ منه. يرى والده أنه يحكي حكايات مبتذلة ومواقف تافهة ليبرر فشله ورعونته، ويفتخر أن تربية الجد القاسية هي ما جعلته رجلًا وعليه أن يعيد الدورة مع أبنه البكّاء.
يبدو الموضوع مكررًا، تمت معالجته آلاف المرات في السينما والأدب من قبل، لكن المؤسف أن كل هذه التوعية لم تغير في سلوك بعض الآباء شيئَا.

اعتزل من يؤذيك
“يحيي.. بابا وماما اتقتلوا. أنت اللي قتلتهم؟”
ما تعريف القتل؟ وكيف نقتل؟ ومتى نصبح قتلة بالفعل؟

يتذكر المشاهد فيلم 45 يوم تيمة الابن الذي يقتل والديه ولديه أخت أصغر ويتوقف عن الكلام، يتركك المؤلف وحدك مع افتراضاتك وخيالاتك وأسئلة كثيرة مثل ..
هل كان هناك جريمة قتل؟ هل قتل يحيي والديه فعلًا ؟
هل يحيي مختلًا في مصحة عقلية أم مكتئبًا منزويًا في غرفته المظلمة؟
الإجابة جاءت في النهاية.. يتشابه فعل المغادرة وفعل القتل المعنوي، لقد قتلهم يحيى بداخله وعاقب نفسه على أفعاله التي لم تغادر عقله. ربما سيكون مصيره المقعد الخالي في محطة الانتظار، ينتظر أبًا حقيقيًا رؤوفًا بالفعل.

الشخصيات خارج الأسرة / داخل عقل يحيي
الأطباء الثلاثة، طبيبان يرتديان سترة شفافة، أحدهما غليظ الطباع والآخر غير مكترث بأي شيء سوى الطعام والثرثرة، وطبيبة رقيقة تسعى للتقرب إليه ومساعدته.. يُشبهها يحيى بالقطة الكبيرة التي حاولت إنقاذ قطة صغيرة، فأصابتها بجراح مميتة.
شخصية المشرد التي تبدو كمستقبل قريب ليحيى، تتحول لصوت داخلي مسيطر حين تتحدث عن القتل وادعاء الجنون، ربما هي عقله نفسه الذي اقترح عليه البحث عن المؤذي الأول/ بادئ سلسة التعنيف ليقتص منه ويعاقبه. فللأب أب أيضًا قام بضربه وإهانته وإذلاله فأصبح ما عليه، وتكونت دائرة لا نهائية من العنف الأسري باسم التربية والحب. هذه الدائرة ذكرتني بجملة شهيرة لـ نوال السعداوي ” أشفقت على الناس، كل الناس.. فهم الضحايا وهم أيضًا الجناة.

***

الموسيقى مؤثرة، وقد جاء توظيف أغنية ” لو كنت نغمض عينيا ” مناسبًا تمامًا للتكوين، كما نجحت الإضاءة في خلق الجو الدرامي، فكانا من نقاط قوة العرض.
أحببت العرض وتأثرت به، وشعرت بألم حقيقي أثناء مشهد ضرب الابن. الممثلون جميعهم أجادوا أدوارهم بشدة، ولكنني في الحقيقة متأثرة للغاية بأداء مصطفى رأفت، وأستطيع أن أقول إنه حقًا ممثل عظيم.ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية

مقالات من نفس القسم