د.خالد عاشور
على الرغم من أن رواية الرسائل قد اندثرت في الأدب الغربي منذ القرن التاسع عشر، بعد رواجها في القرن السابق عليه؛ فإن استدعاء هذا الشكل الروائي في رواية “بوح الجدران” ليس بدعًا من كاتبها محمد سمير ندا؛ فقد استدعاها من قبل الكاتب الإنجليزي مايكل فرين في روايته الحديثة نسبيًا “فن الصنعة” (صدرت عام 1989). ومن قبله جين أوستن، كتبت المسودة الأولى لروايتها الشهيرة “العقل والهوى” في شكل رواية رسائل قبل أن تعدلها إلى شكلها الحالي. فرواية الرسائل – على ندرتها – لم تنقرض تمامًا في الغرب، على الرغم مما يقال من أنها لا تناسب عصرًا أصبح فيه الاتصال – وليس بالضرورة التواصل – ميسرًا كما لم يكن من قبل.
أما في رواية “بوح الجدران” فإن الكاتب أحسن صنعًا بالعودة إلى هذه التقنية من تقنيات السرد التي لم يعد يُقبل عليها الروائيون، فهي جرأة تحسب له، وتحسب أيضًا لعمله الفني لأنها تبدو هي الأنسب لتقديم شخصيات الرواية وهم في حالة انعزال عن بعضهم البعض، فالرسالة كشكل من أشكال الاتصال تظل حالة من حالات عدم الالتقاء والتواصل، بل إنها تظل دليلًا على انعدام اللقاء وتعذره.
وهذا ما تكتشفه وأنت تقرأ فصول الرواية؛ فأبطال الرواية أو شخصياتها لا يقومون “بفعل” ولا يصنعون حدثا، فالشخصيات التي مزقتها الغربة والبحث والانتظار والترقب والتنقل فضلا عن الاغتراب، تبدو غير قادرة على صنع شيء، باستثناء قراءة الرسائل، فهي غير فاعلة وغير مؤثرة في صنع الأحداث. فالقاريء يعرف من الرسائل مثلًا أن منير حدث له كذا أو كذا في بغداد أو طرابلس، لكننا لا نرى منير وهو يفعل كذا أو كذا.
وحتى عند حدوث اللقاء الفعلي بين كريم (أو عطا الحفيد) وجده رغم علم جده بأن هذا الشاب هو حفيده – كما سنعرف بعد ذلك – لا يحدث تواصل بينهما رغم “اللقاء” و”الاتصال” الشخصي، وتظل العلاقة بينهما علاقة بين مالك ومستأجر. بل إن الجد عندما يريد أن يكلم حفيده يبعث له “رسالة” يقرؤها الحفيد بعد موت الجد. وهو أمر رغم غرابته في دنيا الواقع يبدو متسقًا فنيًا مع جو الانعزال والتوحد الذي تحياه الشخصيات بفعل الغربة أوالاغتراب.
ويلفت النظر هنا أن عطا الحفيد الذي يصل مصر لاستكشاف تاريخ عائلته من خلال الرسائل الموجودة داخل شقة أبيه المهجورة، تتزامن عودته مع اندلاع ثورة يناير، لكن كريم/عطا لا يشارك في “فعل” الثورة، بقدر ما يراقب هذه الثورة فقط من خارج المشهد، منكفئًا على ذاته:
“الجموع تفيض، تتدفق الأجساد المثخنة بالإحباطات من شتى الأزقة والحارات، الطقس يستعر سخونة، كأن البركان قد لفظ كل هؤلاء السائرين منذ لحظات في قلب الشتاء. في الصراخ غضب وفي الخطوات عزيمة، كلُّ سائر ثائر وأنا محتجب عن أعين الزمن خلف ثورتي الخاصة، واسمي الذي وُرّثته بغير اختيار. منشغلًا بإحباطاتي وطيف رشيدة، أطالع الوجوه بغير اكتراث، أبحث عن وجهها وأنا العارف أنها ليست هنا”. ص 144
“أغوص في اتجاه مغاير، تتصاعد غصة في حلقي وقد ثار الملايين حين قررت العودة، تجمعوا مُشكلين حائط صد يحول بيني وبين إتمام مهمتي في تغيير اسمي وخلق كينونة جديدة أنسلخ بها من ماض مشتت. كان الأمر لينتهي لو لم تقم الثورة، كنت لأكون (كريم) الآن، لكن عطا يرفض أن يغادرني”. ص 216
وهذا يفسر لنا ملمحًا فنيًا آخر في الرواية، وهو خلوها من الحوار كعنصر من عناصر البناء الفني، فالحوار ينعدم تقريبًا بين شخصيات الرواية، ولا يتم إلا من خلال الرسائل المتبادلة بين الشخصيات؛ المتباعدة: زمانيًا ومكانيًا (حالة الجد مع ابنه)، ووجدانيًا (حالة الجد مع حفيده). وحوار الرسائل عاجز تمامًا بالطبع عن تحقيق أهداف الحوار الروائي مثل إضفاء التوتر وإعطاء المصداقية وتقديم الشخصيات …إلخ
انظر إلى هذا المشهد بين الجد عطا وحفيده (كريم/عطا):
“يتمتم العجوز. لا يؤيده الشاب ولا ينفي. يُضيق الأول عينيه اللتين أمست قدرتهما على الإبصار موضع تساؤلات لطبيعة السن وغزو المياه البيضاء لهما. يقترب من المسافر ويقول متهدج الأنفاس: هل أنت على صلة بعائلة السيد منير؟ تبدو كأنك على دراية بحكايتهم خاصة وقد قادتك قدماك بين طرقات الشقة كمن كان هنا من قبل…………..”. ص27
“يهز الشاب رأسه نافيًا، يعيد العجوز السؤال فيكرر الشاب النفي منطوقًا قبل أن يؤكد للعجوز موافقته على استئجار الشقة الأخرى المطلة إلى شقاء السابلة وزحام السيارات……..”. ص 30
هو أقرب إلى وصف لحوار كان مفترضًا أن يتم، فلا محل للحوار الحقيقي والأخذ والرد بما ينطوي عليه من حميمية وحرارة، فكل ذلك مفقود بين شخصيات الرواية.
*****
يتعمد الكاتب إظهار شخصياته وهم في حالة انعزال وانكفاء على الذات من خلال عدة فصول تروى بطريقة المونولوج الداخلي وهي تلك الفصول التي يرويها كريم (ثلاثة عشر فصلا) ومنير (فصل واحد) وعطا (فصل واحد) وماجدة (فصل واحد) وهي مونولوجات داخلية تُروى بضمير المتكلم ونغوص معها في داخل الهم الذاتي لكل شخصية في لحظة زمنية ما.
وهي تقنية أعتقد أن الكاتب لو طورها قليلا كان يمكن أن تتحول إلى تقنية الحكي المتعدد الأصوات أو ما يعرف بالرواية (البوليفونية). لكنها وقفت في منطقة بين بين؛ لأن تساوي الأصوات الساردة لم يتحقق في الرواية؛ فصوت كريم كاد يتحول إلى صوت سارد مستقل؛ في حين لم يُمنح صوت كل من منير وماجدة وعطا المساحة الكافية ليكون صوتا ساردًا. فضلًا عن أن المونولوجات الداخلية أو حديث النفس عند كل شخصية – حتى كريم – لم يروِ الأحداث كاملة من وجهة نظره الساردة – كما يقتضي تعدد الأصوات – بل اطلعنا من خلاله على جوانب منها فقط.
ورغم ذلك لم أجد مبررًا لصوت الرواي العليم كصوت سارد، وهو الذي أقحمه الكاتب في عدد من الفصول ليست بالقليلة، حيث كنت أفضل ألا يقحمه الكاتب ويفرض رقابته الخارجية على هذه العوالم المنعزلة، إذ لو اكتفى برواية الأحداث من خلال ضمير المتكلم فقط لحافظ للرواية على جوها العام الذي أشرنا إليه.
والأصوات التي تَروي جزءًا من حكايتها بضمير المتكلم هنا هي: كريم أو عطا الحفيد، ومنير عطا الابن، وعطا الجد. وهي الشخصيات التي تجسد أجيالًا ثلاثة أراد الكاتب أن يعبر من خلالها عن أزمة المثقف المصري اليساري منير عطا الذي اعتصرته الغربة نظرًا للظروف السياسية التي وُضع في داخلها أيام السادات، فاضطر للهجرة والنجاة، ليجد العالم العربي نسخًا مكررة من مصر، فتتكرر معاناته هناك أيضًا، ليموت غريبًا، مُخلّفًا أبًا مكلومًا أقعده الهرم في انتظار ابنه الغائب، وجيلًا تاليًا تنازعته نوازع مختلفة: التطرف الديني (ناصر) والطموح التجاري النفعي المادي (أمجد) وهوية ثالثة (كريم/عطا) هوية غير مستقرة، تبحث عن الجذور في الوقت الذي تتجه فيه للتنصل من تلك الجذور، لكن ثورة يناير ترجح الكفة الأخرى، كما مر بنا، حيث تُصوّر الرواية ثورة يناير فاتحة أمل لتغيير الأوضاع التي أدت إلى غربة منير عطا وتشرده ومعاناته.
وهو تصور، كان من الممكن أن يكون مقبولًا لو كُتب إبان الثورة أو بعده بقليل، لكن أن يُكتب بعد أن تبخرت الثورة وأهدافها ولم يعد لها وجود، فهذا يبدو تناقضا وقع فيه الكاتب، إلا إذا كان زمن كتابة الرواية يعود لهذه الحقبة.
أعود إلى الأصوات الساردة : صوت كريم الابن الأصغر لمنير عطا وهو الصوت الأكثر حضورًا (ثلاثة عشر فصلًا) إذ تُروى معظم الحكاية من خلاله تقريبًا : فنتابع من خلال صوته مثلًا رحلة سفر الأسرة أول مرة إلى بغداد في الفصل الثاني بعنوان: بين السماء والأرض (وقت متأخر من ثمانينيات القرن الماضي)، وفي الفصل السابع بعنوان: تفتيش ذاتي لأحلام طفل (القاهرة، منتصف الثمانينيات من القرن الماضي) نتابع توقيف منير عطا وبصحبته طفله كريم في مطار القاهرة عند عودته إلى الوطن قبل أن يغادره مرة أخرى إلى غير رجعة. وفي فصول أخرى نتابع معه ثورة يناير وتذكره لرشيدة وتأمله لرحلة عودته للقاهرة، وغير ذلك.
وفي الفصل الثامن بعنوان :”توطئة” نعيش مع كريم وهو يتأهب لفتح صندوق الرسائل الخاص بأبيه، بعد أن استقر في شقته مستأجرًا إياها:
“هُرعت إلى الصندوق ورحت أفتش الخطابات باحثًأ عما يقتحم المسامع، فلم أجد لها أثرًأ، تأكدت حينئذ أنني أتلقى وحيًا لفظته السماء وعلق في طيات الزمن. تلك الأصوات فارة من خطابات لم تكتب، هاربة من مراسلات ضلت مقاصدها. أسراب كلما غادرت أقفاص الصدور وهامت في الأفضية وحيًا منسيًا لا يعرف كيف يعود إلى السماء، ولا يجد على الارض مستقرًا. كان الظن مرعبًا، حتى حين استسلمت لهذه الاصوات فعرفت أنها لا ترمي إلى ضرر بقدر ما تبحث عن وعاء تصب فيه أسرارها”.
أما الأصوات الأخرى فيقل منظور الحكي من خلالها: فصل واحد لمنير عطا وفصل للجد عطا وفصل لماجدة.
وتفرد الرواية فصولها الأكبر للرسائل، وهي تلك المرسلة من: منير عطا إلى أبيه والعكس (وهي التي تحتل الجزء الأكبر من الرسائل) ومن ليلى زوجة منير إلى حميها عطا، ومن كريم إلى زوجته السورية رشيدة التي ماتت بالسرطان، ومن منير عطا إلى جارته وحبه الأول ماجدة التي تقطن مع أبيه في مصر، ومن منير عطا إلى زوجته ليلى وبالعكس، ومن منير عطا إلى صديقه حسن في مصر، ومن صائب جار عائلة منير في بغداد إلى أمه، وهوجندي عراقي سيُفقد في حرب العراق وإيران.
لكن القارئ لا يشاهد الشخصيات وهي في حالة تواصل رغم علمه – من خلال الرسائل – ما بين الشخصيات من علاقات دافئة :علاقة منير بأبيه وعلاقة منير بليلى، وعلاقته بماجدة، وعلاقة كريم برشيدة، وعلاقة الجيرة بين أم صائب وأسرة منير، وعلاقة منير بأصدقاء الوسط الأدبي مثل حسن؛ كلها علاقات دافئة حميمة، لكنه يراها وهي في حالة انعزال وتباعد وانكفاء، ولم يتبق منها إلا الرسائل شاهدة فقط على تلك العلاقات.
*****
تتعدد مستويات السرد في هذه الرواية على نحو لافت، حيث نتابع أكثر من حكاية عبر أكثر من راوٍ يتغير موقعه كل مرة، فنحصل على ثلاثة مستويات للسرد وربما أربعة:
فهناك مستوى سردي أول، موقع الراوي فيه خارج الحكاية الرئيسية التي يرويها وخارج كل حكاية، وهو لا ينتمي إلى الحكاية التي يرويها لأنه ليس شخصية من شخصياتها، فهو راوٍ غائب عن الأحداث ويحكي الحكاية الرئيسية بضمير الغائب:
“كان يغالب خوفه وقتما راح يطالع الدرج المفضي إلى المنزل ذي الباب المفتوح……يجاهد لطمس معالم الارتباك يسحب من خلفه حقيبتي سفر متوسطتي الحجم….يتذكر لعب الشطرنج مع أبيه وسقوطه عدة مرات فريسة لخطة نابليون السريعة المفعول….” ص 6 وما بعدها
وفي فصل آخر: “هل ينبغي أن يسعده موت السادات ؟ لم لا وقد كان السبب الرئيسي وراء رحيله عن وطن لم يعشق سواه؟ لكنه حزين” ص 78
وهناك مستوى سردي ثانٍ، موقع الراوي فيه داخل الحكاية وينتمي إليها، وهي الحكايات التي تحكيها الأصوات الساردة التي أشرنا إليها: كريم ومنير وعطا وماجدة، حيث يتولى الراوي الحكاية بضمير المتكلم لأحداث هو جزء منها مشارك في حوادثها، يروي سيرته:
فمن فصل عطا الجد: “توقفتُ عن قراءة الجرائد منذ حرب الكويت. ربما لا تعرف ماجدة ذلك. تحسست الطريق إلى المذياع الذي لم أطفئه منذ زمن لا أذكره ولم يسكته غير انقطاع الكهرباء”. ص 56
ومن فصل ماجدة: “هل أقص عليه من حكايات أبيه ما لا يعرفه؟ هل وجد خطاب أبيه لي ضمن الخطابات التي وضعها عم عطا في الصندوق؟ هل يعرف عم عطا أنني دسست خطاباتى في صندوقه من الأساس؟”. ص181
وهناك مستوى سردي ثالث، موقع الراوي فيه داخل الحكاية ولا ينتمي إليها، وهي الحكايات التي تبدأ بعد الفصل الثامن (توطئة) حيث يبدأ كريم في فتح صندوق الخطابات ويقرأ الرسائل ويستمع إلى شرائط الكاسيت ليحكي لنا قصصا داخل الرسائل، ربما لا يكون هو جزءًا منها. فهو بمثابة شهرزاد في ألف ليلة وليلة، شخصية داخل الرواية، تروي حكايات هي غائبة عنها. فكريم هنا لا يروي سيرته هو، وإنما من خلال صندوق الر سائل الذي يقرؤه نتعرف على حكايات كثيرة عن آخرين؛ منير وقصة خروجه من مصر ومعاناته في الغربة وتنقله بين أكثر من عمل في الصحافة والإذاعة وعلاقاته مع إخوانه العراقيين والسوريين والمحيط الأدبي في مصر، وهي أحداث تتقاطع مع أحداث سياسية كثيرة مثل معاهدة السلام مع إسرائيل والمقاطعة العربية لمصر ثم مقتل السادات وغزو العراق…إلخ، وهي تقريبًا “حدوتة” الرواية بكاملها، لا نتعرف إليها إلا من خلال الرسائل.
كل هذه الحكايات يرويها كريم ضمنًا من خلال الرسائل التي لم يتسن لأحد الاطلاع عليها سواه:
“كان يغوص في كل خطاب بانهماك تام، يقرؤه أكثر من مرة، يضع خطوطًا أسفل بعض الكلمات ويرسم الدوائر حول بعض المقاطع، قبل أن يسبل عينيه وينسج من الكلمات صورًا، يخلق عالمًا يتنقل فيه بسلاسة ويسر، كأن كل خطاب يمثل عينًا سحرية يطّلع منها على الماضي. بوابة زمنية تنقله إلى زمن كتابة الخطاب، ترسم تفاصيل المكان فتهوّن عليه مشقة البحث عن الغائب، أو تمنحه أملًا في وصل المبتور، هو فقط يبحث عن طرف خيط يبتدئ منه تحقيقه”. ص102
“يزيح الشاب الأتربة عن جهاز الكاسيت والشريط القديم، يحاول أن ينفض من أذنيه الصوت الاخير، يقرأ المكتوب على الشريط، ثمة تاريخ يرجع إلى بداية الثمانينيات. كان الحبر قد خر ساجدًا أمام الزمن، فرضخ لطمس التفاصيل. يضع المسافر الشريط داخل جهاز الكاسيت العتيق…….يستهل منير حديثه بالتحية وعبارات الاشتياق، يخبر أباه أن تسجيلًا لحلقة من برنامجه سيبدأ عقب انتهاء رسالتهم الصوتية………..يعقب ذلك حديث لناصر يُسمع صوت أمه بينما تمليه الكلمات وعبارات السلام ورغبات التلاقي. تتكرر الضحكات العالية…….”. ص 111
وهناك مستوى سردي رابع، موقع الرواي فيه داخل داخل الحكاية؛ وهي الحكايات التي تروى داخل الرسائل عن شخصيات وأحداث كان منير أو ليلى شاهدا عليها أو ارتبطت به من قريب أو بعيد، فموقع الراوي هنا ليس داخل الحكاية الرئيسية وإنما داخل داخل تلك الحكاية.
فمثلًا يقرأ كريم رسالة عثر عليها داخل الصندوق من صائب الجندي العراقي على الجبهة في حرب إيران، موجهة لأمه التي هي جارة منير وأسرته في بغداد، ويروي صائب في رسالته حكايات عن الحرب وأصدقائه المجندين ومعركة الفاو وماذا يقول قادته وحبه لميسون في انتظار عودته للزواج منها…الخ. وهي حكايات يرويها راوٍ (صائب) الذي هو من داخل داخل الحكاية الرئيسية للرواية.
أو يقرأ كريم رسالة من أبيه لجده يحكي له فيها عن أن صائب استشهد في معركة الفاو، وأن ليلى حزنت جدًا لحزن صديقتها أم صائب، وأنه قد صدر له رواية جديدة تضاف لرواياته الأخرى ومجموعاته القصصية….الخ، فهي حكاية يرويها راوٍ (منير) الذي هو من داخل داخل الحكاية الرئيسية للرواية
أو يقرأ كريم رسالة من ليلى إلى الجد عطا تقول فيها: “وأم صائب يا عم عطا أسرَّت إليَّ منذ تعارفنا بما شق صدري ألمًا فهي – وقد طالت فترة غياب صائب – تغرق دائما في فيض شكوك؛ فتتخيل ولدها مأسورًا؛ وإما شهيدًا نساه رفاقه في رمال الصحراء لتقتات الذئاب والنسور على جسده؛ لذلك تتسلل من فراشها بعدما يغط الجميع في وتأتيني بصفة دورية…” ص ٦٦
فالحكاية التي تحكيها أم صائب هي حكاية من راوٍ ليس من داخل الحكاية الرئيسية أيضًا وإنما من داخل داخل الحكاية.
إذن فلدينا في هذه الرواية أربعة مستويات سردية تبعا لموقع الراوي (خارج / داخل) فالراوي الأول خارج الحكاية والثاني داخل الحكاية والثالث داخل الحكاية والرابع داخل داخل الرواية.
وتتداخل هذه المستويات السردية الأربعة ولا تتعاقب؛. لكن تداخلها لم يُخلّ ببناء الرواية؛ فتداخل الأزمنة وتمزقها وعدم اتساقها كان صورة من التمزق النفسي للشخصيات وشعورهم بعدم الاستقرار.
وقد حافظ الكاتب رغم تداخل الأزمنة على خيوط الحكايات الأربعة التي يحكيها رواتها بحيث لم يتشتت القارئ بين زمن الرواية الذي هو فترة ثورة يناير في حكاية كريم حيث تبدأ الرواية وتنتهي أيضا؛ ثم الاسترجاع الزمني إلى ثمانينيات القرن الماضي في حكاية أسرة منير في الغربة وما بينهما من استباقات أو استرجاعات زمنية تتخلل أو تتداخل مع أحداث الرواية التي تنتمي إلى فضاءات زمانية ومكانية متعددة.
غير أن الكاتب يتعمد أن تكون الحكاية الرئيسية دائرية؛ تبدأ بمستوى السرد الأول بالراوي العليم الذي يخبرنا أن كريم المسافر عاد إلى القاهرة ليستأجر الشقة من الرجل العجوز؛ وتنتهي الرواية بالمشهد ذاته. ودائرية الحكاية أمر يشير به الكاتب إلى الحلقة المفرغة التي دارت فيها حكاية منير عطا وأسرته، وهو ملمح فني يرسخ نهاية تغريبة منير عطا و”عدم الوصول” الذي اتسمت به هذه الرحلة المأسوية.
*****
أشرت سابقا إلى أن الشخصيات في هذه الرواية غير فاعلة بالقدر الكافي وغير صانعة للحدث؛ فالقارئ لا يتلقى الحكاية من الشخصيات وإنما من رسائلها. الرسائل هي صلب الرواية. فالرسالة كعلامة من علامات السرد تحتل حيزًا كبيرًا من المتن الروائي؛ بل إنها تتمدد في النص الروائي ويملأ حضورها النص كله: “للأوراق قوة هائلة وغموض محير؛ يستحضر ماردا يقبع في وجدان كل منا وإن لم يلاحظه”.
فنحن لم نعرف ما الذي حدث ومن فعل ما حدث إلا من خلال الرسائل؛ فالرسالة كعلامة من علامات النص هي وسيلتنا إلى معرفة الحكاية كما أشرنا. لذا يتكئ الكاتب على هذه النقطة ليبرز قسمات هذه العلامة ومفرداتها وتفاصيلها على نحو بديع، ويفرد لها مساحة أوسع ؛ تصل أحيانا لدرجة أن الرسالة تتحول إلى شخصية من شخصيات الرواية؛ بل إنها الشخصية صاحبة التأثير الأكبر، كما مر بنا في نص: “للأوراق قوة هائلة”.
ويوحد الكاتب بين واحدة من مفردات الرسائل (الخطوط) وبين الشخصيات:
“الخطوط تفشي هوية كاتبيها؛ فكما الكلام هناك خطوط يرسخها الحبر ويبثها صوتا في أذن قارئها. بعض الخطوط عجول وبعضها محب! بعض الحروف غاضبة وبعضها مترددة تلفها الحيرة…….حروف العجوز الطعين بالغياب منظمة قياسا بسنه يسهل تمييز خط ماجدة حين أوكل لها الكتابة باسمه في أواخر الخطابات لكن العجوز كان يشحذ حروفه بالأمل فالراء والزين (هكذا) والميم في أواخر الكلمات ممطوطة كأرجوحة تشرف على سطور تليها والنقاط في كلمات الغياب واستفسارات العودة منطوية على نفسها كنملة سحقتها قدم عابر فتكورت.
هكذا نقاط العجوز لها بداية ونهاية كدوامة ليست مجرد نطفة من حبر أعناق الحاء والخاء والجيم مقتوحة كمنقار النورس تستجدي الفراغ بين الأسطر أن يجود بأمل لا تقطعه المسافات.
أما حروف ماجدة فهي معزوفة هوى الياء ترقص وتقفز حتى تستقر في آخر الكلمة كحرف موسيقى تغلق العين وتغمض الغين فتظللهما بالحبر. تمزج النسخ بالرقعة فتمنح السين والشين أجساد نساء تستلقي في غنج على فراش السطور والكاف امرأة جريئة تتكئ بذراعها على خصرها والنون بطن امرأة تكاد تضع مولودها والنقطة في جوفها سرة تربطه بالحياة”ص ١٨٥
أما هوية كريم الممزقة فتتضح أيضًا من خلال خطوطه:
“راجعت كتابتي بعدما باحت لي الحروف بأسرارها، تصفحت وريقاتي الممزقة، ومفكرتي، فوجدتها مثلي، ومثل لهجتي الهجينة، مسخ بلا هوية، بعضها استنساخ لخط والدي، وبعضها محاكاة لخط أمي في أزمنة الدراسة، والباقي محاولات فاشلة لتوضيح ما أكتبه……بعض الحروف نسخ وبعضها رقعة، ومعظمها لا هذا ولا ذاك. ألتزم بالسطر الأول ثم أحيد عن اتباع السطر الثاني. مهزوز قلمي غير واثق في ما يخطه، يدور في دوامات الورق الفارغ، يكتب ويرسم ويزين الهوامش، ويحار حين يحين أوان التوقيع، أيكتب كريم، أم يقر بكونه عطا؟”. ص 187
ومن العلامات السردية التي تحتل حيزًا لافتًا تلك العلامة التي تبدو لنا من خلال عنوان الرواية: “بوح الجدران”؛ فالرواية تكاد تحكي لنا حكاية الجدران التي هجرها أصحابها. بل إن نقطة البداية في هذه الرواية ونقطة النهاية أيضًا ذلك المشهد الذي يصف قدوم عطا الابن – متخفيًا في صورة هوية مزيفة – إلى شقة أبيه لاستئجارها ووقوفه أمام جدران هذا البيت الغامض:
“كان يغالب خوفه وقتما راح يطالع الدرج المفضي إلى المنزل القديم ذي الباب المفتوح، دوّامات الهواء الصغيرة التي تعبث ببعض أوراق الشجر تعلن دعوة مفتوحة للمضي قدمًا. هاتف غامض يدعوه إلى التوغل في جوف المنزل والتجوال في أرجائه واستبيان خفاياه دونما استئذان. ذكريات ضبابية لأمكنة مشابهة تبرق في عقله وتُشكل صورًا تذوب قبل أن يستبْينها، أصوات ضحك وصراخ وسمر وبكاء تتسرب من مسام الجدران”. ص 6
ويفرد الكاتب مساحة للجدران وتفاصيلها لكي تطل علينا في ثنايا السرد صوتًا يحكي جزءًا من الحكاية، بل إن للجدران نفسها حكاية:
“على الجدران التي تحف الدرج وبين البابين نقوش طفولية، لقطات وطائرات، وسفن ضخمة، وبضعة أشكال مبهمة، ووجوه تمتزج فيها ملامح البشر بالقطط والعصافير، وقد أحاطت برؤوس بعضها هالات ملائكية. تتسابق الرسومات على الحائط بمحاذاته، يعود صوت الأطفال بعيدًا، والجدران ترشح ظلالًا لغير العابرين؛ كأنها ساعة متأخرة عن موعدها الفطري، تعرض على شاشة أسمنتية حكايات العابرين القدامى، يميز أشكالًا للظلال وقد جمعها شجار فعناق طويل، بيد أن كل تلك الظلال سرعان ما تتلاشى، تمتصها الحيطان فتضحى دفقات ماء تغوص في رحم النسيان”. ص 10
وقبل أن يعرف كريم حكاية أسرته من خلال الرسائل يحاول أن يتعرف على ملامح تلك الحكاية من خلال الجدران، التي تحمل شيئًا من ملامح أصحابها، والتي يحاول كريم أن يستنطقها، كما مر بنا في النص السابق، وفي نصوص أخرى تسبق الفصل الثامن الذي يبدأ عنده استنطاق الرسائل:
“يتحسس المسافر الباب. يلاحظ أن الطلاء من الخارج فقط، بينما الجانب الداخلي باهت تتخلله شقوق وتعتريه تقوسات، لكنه لا يسأل عن السبب. تتسلل عيناه إلى الداخل”. ص 22
“يتحسس الشاب جدران البيت من جديد، يمسك مكنسة خشبية استندت إلى حائط المطبخ، ينتزع عصاها، يغمض عينيه محاولًا التنقل بين الردهات والحجرات، يمد عصاه أمامه ليحدد من خلالها حدود حركته، العصا تبصر الجدران وتميز المقاعد والموائد، تزيح الأحذية عن الطريق لكنها لا تبوح بما يُطبع فوق الوجوه”. ص 38
بل إنك تلحظ من خلال السرد أن بين العلامتين: الرسائل والجدران علاقة من نوع ما؛ فكلاهما شئ صامت جامد يحاول كريم استنطاقه وإقامة حوار معه وفك طلاسمه. وبينما ينجح في تلك المهمة مع الرسائل يفشل مع الجدران:
“يقف أمام الحائط المترع بالشروخ، في ثناياه ما يشبه وجه العجوز الذي يستكمل رسم الشروخ المبتورة. تنتاب المسافر نوبة شرود أمام الحائط الخالي من رسومات الأطفال. قالت الباسمة ماجدة إن الأمر لا يخيف، وإن الشقوق في طبقات الطلاء ولم تمتد لتتوغل في جسد الحائط الأسمنتي فتخلخل بنيانه وتقوض تماسكه. حائط عجيب اختصه الزمن دونًا عن بقية جدران البيت، فدوّن عليه ملاحظاته وطلاسمه، كأنه يهيئ العابر لولوج غرفة السر. يكتب عن الحائط لمحبوبته رشيدة عن حكايات لا يرسلها، يضع خطًا داكنًا تحت ملحوظة دوَّنها عن التضاد بين الباب الأزرق البهي، والحائط المثخن بالندوب عن يمينه، يظن أن في الأمر دلالة أو رمزًا كعادته، إلا أن الأيام التي قضاها في المحروسة وكلمات العجوز وعرضه العجيب، كل تلك الأمور كانت كفيلة لتغيير معتقده هذا، فلا شئ يوجد للتدليل على شئ، ولا قدر غير المصادفات يوجّه الأمور”. ص 42
لاحظ هنا أن الجدران كالرسائل تحمل شيئًا من ملامح أصحابها، وقد مر بنا التطابق بين الشخصيات وخطوطها. والجدران كذلك تحمل ذات الملامح : فالحائط المترع بالشروخ يشبه وجه العجوز، والشقوق في طبقات الطلاء فقط لم تتوغل في جسد الحائط الأسمنتي لتقوض تماسكه، تمامًا مثل أسرة منير التي تحاول أن تلتئم من خلال رحلة حفيدها إلى بيت أبيه. وباب الشقة الأزرق طلاؤه بهي ويتجدد من الخارج فقط، في إشارة إلى الرغبة الملحة من الجد في مواصلة حياة هذه الأسرة، أما من الداخل فتعتريه شقوق وتتخلله تقوسات.
وكما أن في الرواية “بوح الجدران ” ففيها أيضًا “بوح الحبر” (عنوان الفصل الرابع والأربعين ).
*****
رواية “بوح الجدران” أو حكاية منير عطا وتغريبته، رواية كاشفة عن موهبة روائية حقيقية.
بقي أن أشير إلى لغة هذه الرواية التي تكشف عن كاتب يمتلك ناصية اللغة الأدبية فضلًا عن العناية بعلامات الترقيم التي يراها البعض أمورًا شكلية. والصراع مع اللغة صراع ليس هينًا، فلا شك أن وصول الكاتب إلى هذا الأداء اللغوي كلفه الكثير من الجهد. لكن لغة الرواية تحتاج إلى وقفة نقدية قادمة إن شاء الله.
وأختم بهذه المقطوعة الجميلة التي هي نموذج من البلاغة التي تتسم بها لغة الرواية، كما أنها تُلخص حكاية هذه الأسرة موضوع الرواية:
“شعرتُ أن عائلتنا المنكوبة – التي لا جذور لها – لم تكن يومًا سوى غيمة بيضاء عاندت الريح فشجّتها الطائرات العابرة، ومزقت أوصالها قِطعًا صغيرة متناثرة متنافرة؛ سقطت كل منها في أرض غير الأرض حتى استحال جمعها”.