سامح محجوب
لستُ أزهريًّا من البداية، أُقحمت على الأزهر وأُقحم عليّ! لذا ظلت علاقتنا متوترة حتى عدت أدراجي إلى التعليم المدني في الحلقة الأخيرة من التعليم ما أثار حفيظة أبي الذي رآني فقيهًا ورأيتني صعلوكًا، بمعنى أنني بدأت بالتعليم العام وانتهيت فيه.
حزت الإبتدائية العامة ثم الإعدادية الأزهرية ثم الثانوية الأزهرية ثم دار العلوم جامعة القاهرة.
لم أحب الأزهر ولي عليه ملاحظات كثيرة وكبيرة لكنني استفدت منه بطريقتي النتشوية حيث مدّني بالقوة اللازمة لأرفض أن أكون غيري طيلة حياتي،،
تحت عُمده المتكلسة تعلمت أن أقول لا وهذان الحرفان لو تعلمون شىء عظيم، فبينهما يكمن شقاء الإنسان ونعيمه وبينهما يبدأ السؤال ولا ينتهي.
أما عن التأثير الأدبي والفكري للأزهر أو لغيره من المعاهد العلمية في مصر فهذا غير وارد بالمرة على الأقل بالنسبة لحالتي التعليم في مصر لا يساعد على تكوين عقل إبداعي أو نقدي ويظل قاصرًا على الحدود الدنيا من التعلُّم.
كأي نبات بري نشأتُ وقصيدتي في حاضنة قاسية وعصامية إلى أقصى درجة يمكن أن تتحملها ذات قلقة وحرون،،
راودتني القصيدة عن نفسها وأنا أسير وحدي في الطريق إلي القرى المجاورة لقريتنا للتعلم في مدارسها ومعاهدها
لم أمتنع عنها وتركت لها قميصي لتقده عن آخره !
كانت لحظة فارقة أنقذني فيها رب الغواية من الوقوع في شرك عدمية كانت تكفي لأن أتخلص من وجودي،،
من يومها وأنا أستمد شرعية وجودي من شرعية قصائدي،، أنا بخير مادمت أكتب. لم ينتبه لي أحد ولم يشجعني أحد ولم أحتج أنا لذلك كنت مدفوعا بقوة القصيدة كلما تحدثت ديالوجًا أو مونولوجا إليها أومأت إلي.
أثرت فيّ القرية تأثيراً سلبياً حيث أنني لم أدرك قرية محمد عبدالحليم عبدالله وتناقضاتها الطبقية الصارخة، أنا ابن القرى العشوائية التي لم تحتفظ بسمتها ولم تأخذ من المدنية سوى مخبوزاتها لذا قررت منذ البداية أن أذهب إلى المدنية لأنتقم منها لكل من قهرتهم من الحالمين وأظن أنني فعلت ذلك!
لا طقوس خاصة لدي وأضحك حتى السكر ممن يسردون طقوسهم الخاصة في الكتابة كتبت معظم قصائدي في وسائل المواصلات وبين أصدقائي وصديقاتي حتى أنني أستقل الحافلات العامة إلى أبعد نقطة وصول لها بلا وجهة ولا هدف، ويا كم نمت بها واستيقظت منزعجًا لتعثري في البحث عن معنى لا يواتيني،فقط أكون واحدًا آخر وأن أكتب واقعًا تمامًا تحت سلطة لا مرئية تنازع ذاتي سلطة الحضور. لم أعش حياة جامعية عادية كأي طالب جامعي حيث أنني كنت أعمل وأدرس وأقرأ وأحب، عشت مرحلة جامعية صاخبة كإنسان وشاعر ومثقف وطالب حيث كانت الجامعة قوس تحولي الأعظم في كل شىء ولكل شىء فيها عبرت للمدينة وللقصيدة بمعناها المركب ولذاتي بمعناها الفردي ومن ثم كان الدخول في فم الحياة الواسع. استفدت كثيرًا من عملي كإعلامي لا سيما على مستوى إيقاع اللغة والحياة،
أدركت منذ البداية أن الإعلام هو مهنة الأكاذيب اللذيذة ولذلك درَّبتُ نفسي على العيش مع ذاتي وسط الزحام وحولت أكاذيب الإعلام إلى أكاذيب فنية ولا يوجد أي شيء في الكون يمكن أن يأخذ المبدع من إبداعه إن كان بالفعل مبدعا !وبالمناسبة الإبداع لا يحتاج تفرغًا ومعظم من أنجزوا مشاريع إبداعية كبيرة كانوا من أصحاب المهن والوظائف التي تأكل معظم وقتهم كماركيز ونجيب محفوظ مثلا.
كنت ومازلت مُصرًّا على أن تاريخنا وتراثنا يحتاج لعملية تفكيك واسعة على أكثر من مستوى من هنا أرى أن مصادرة القمة لصالح المتنبي الشاعر المتواضع فنيًا إفتئات على الشعرية العربية الغنية جدًا، وما وجود المتنبي وغيره من النماذج المصنوعة سوى انتخاب سلطوي لذائقة آمنة نتجت عن تواطؤ بين إكليروس الدين والدولة.
الشاعر بالضرورة مثقف عضوي مطالب بالدفاع عن قيثارته طيلة الوقت مهما كلفه ذلك، وليس مثقفًا ولا مبدعًا من يقزِّم خياله وروحه بسقف أو تابوه، ومن ليس مستعدًا لدفع حياته ثمنًا لما يؤمن به أو يعتقد.
تجديد الخطاب الديني لم يعد ترفًا يمكن أن نطرحه من حين لآخر فقد دخل الأمر في طور المواجهة وعلينا أن نحارب جميعًا من أجل علوم دينية عصرية ذات خطاب عصري مشتبك مع معطيات الواقع وحيوية الحياة وصيرورتها ومجابهة عساكر التراث وحراسه بكل قوة.
جيلي والجيل الذي سبقني وبعض الأجيال اللاحقة لي تجاوزت جماليًا الأجيال السابقة وهذا أمر طبيعي ولايعني احتقار تجاربهم أو نفيها بل يعني بكل بساطة تكاملنا معهم فنيا..
في الفن لا يَجُبُّ عمل عملًا آخر ولا نوع نوعًا آخر فلا تراتبية رأسية في الفن فنحن نكتب جميعًا لنحظى بشرف الإضافة لجسد الكتابة الضخم.
والمشكلة في ظني أننا لم نجد من يكرّس لكتابتنا نقديًّا وذلك بسبب تراجع النقد نفسه خاصة نقد الشعر الذي يحتاج لأدوات نقدية نوعية لا تتوفر في الأجيال النقدية الحالية التى ذهبت لنقد الرواية على اعتبارها جنة العبيط.
الحياة الثقافية قابلة للفساد طيلة الوقت بل هي بالضرورة فاسدة طيلة الوقت! لكن ذلك يجب ألا يؤثر على روح الكتابة التي لا تحتاج لـ”جيتو” أو تكتل بقدر احتياجها لذات مؤمنة بما تفعل.
الجوائز حوافز معنوية يحتاجها الكاتب ولا تحتاجها الكتابة التي هي حافز وشغف في ذاتها الكتابة تُمنح ولاتُكتسب،
وإن كانت للجائزة أهمية فهي تمكن فقط في اتساع مقروئية المنتج الإبداعي خاصة في مجتمعات لا تقرأ إلا تحت سلطة المنفعة.
لا زمن لنوع على حساب آخر الفنون جميعها أولاد لإله واحد. وما نشهده من انفجار روائي لا يتجاوز كونه حملًا كاذبًا تدعيه آلهة النشر التي لم تستطع تدجين الشعر طائر الهوملي الذي لا ينزل من عليائه ليلحس أحذية دهاقنة المكسب والخسارة،،
الشعر أفدح الخسارات وأجملها وآخر حبل سُرِّي بين الله والإنسان، الشعر شارة الفن الأقرب لروح الإنسان وفطرته وكما قال أحد الفلاسفة الألمان (كل فنٍ يطمح أن يكون شعرًا).
“يفسر للريح أسفارها” تجربة مفصلية في كتابتي ليس لأنها تحول من شكل كتابي لآخر ولا من دائرة جمالية لأخرى، لكنه الاكتشاف المتأخر جدًا لحالة الشعر التي تقصى كل من لا ينتبه جيدا لتحولاتها الدياليكتية، أيضًا أردت أن أقول لمن يكتبون هذا النص المعرفي المفتوح (قصيدة النثر) يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم أنتم تواجهون الشعر أعزلًا من كل منحه وقطعًا سيفضحكم إن لم تحافظوا على نوعه كما يقول الملعون نيتشه (كل فن يحافظ على نوعه).
لماذا تحدثت عن نفسي وكتبت كل هذا الهراء؟! هكذا ضبطتُ نفسي متلبسًا دون قصد أو نية مبيتة وإلا كنت أفرطت في الإساءة لذاتي غير الجديرة بالضرورة للكتابة عنها، ذاتي التي أتفادى مواجهتها طيلة الوقت، الشاهد فى الأمر أنني بالفعل تورطت في ذلك الحديث التافه ربما لأبرر لنفسي ولو لمرة واحدة أنني حاولت أن أقلل خسارتي في الوجود.