محمود عبد الشكور
يثبت الفيلم التسجيلى البديع «احكيلى» للمخرجة ماريان خورى، أن ما هو خاص جدًا يمكن أن يكون عامًا جدًا ومؤثرًا، إذا رُوِى بصدقٍ ووعى وجسارة، وهى السمات الثلاث فى الفيلم الذى يرسم بورتريهات إنسانية مدهشة لأربع نساء من أجيال مختلفة لعائلة واحدة، بحيث يحضر الماضى، وتتم مواجهته بشجاعة، وبحيث يدور الجدل طوال الوقت بين هوية الفرد، وأفكار العائلة، وبين الجيل الجديد، والجيل الأقدم.
أما الحكى الذى نظنه تسليةً، ونوستالجيا ظريفة، فيتحول تدريجيًا إلى حوار وانتقاد وصراحة ومكاشفة، يتحقق التأثير العاطفى، ونتأمل ونفكر فى الوقت ذاته.
ماريكا، وإيريس، وماريان، وسارة، هنّ بطلات الفيلم، ماريكا أنجبت إيريس ويوسف شاهين، وإيريس أنجبت ماريان خورى، وماريان أنجبت سارة الشاذلى، والحوار هو مفتاح البناء كله: حوار ماريان مع سارة، يعيدنا إلى حوار يوسف شاهين الصوتى مع أمه ماريكا، وحوار ماريان مع أخويها إيلى وجابى، وخالها يوسف شاهين، وعمتها مارسيل، لاكتشاف والدتها إيريس، ثم نعود من جديد إلى حوار سارة وماريان، فى حوارهما الأول كانت الكاميرا على سارة، وفى النهاية تتبادلان مواجهة الكاميرا، حكى متبادل، تعترف فيه ماريان، وتتكلم فيه سارة عن نفسها، وعن أمها.
بناء متماسك ننتقل فيه بسلاسة من ماريكا إلى إيريس، ومن إيريس إلى ماريان، ومن ماريان إلى سارة، تستأثر إيريس بالجزء الأكبر، والدة ماريان وشقيقة يوسف شاهين، توافرت عنها شهادات أكثر، وصور ومواد فيلمية أكثر تنوعًا، ومع ذلك نعرف أيضًا الكثير عن الشخصيات الأخرى، وماريان التى تدير الحوار، تجد نفسها أخيرًا على كرسى الاعتراف.
يؤدى هذا البناء دوره ليس فقط فى رسم ملامح ثلاث نساء، ولكنه أيضًا يرسم ملامح عائلة بأكملها، فى علاقة أفرادها مع بعضهم البعض، وفى تغير الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، ويتيح هذا التداخل السردى مقارنات غريبة، وتشابهات أغرب، فلا يمكن أن تستدعى زواج ماريكا من رجل أكبر منها، ولكنه ثرى، هو نفسه والد يوسف شاهين، بعيدًا عن زواج إيريس أيضًا من رجل أكبر منها، ولكنه ثرى، هو نفسه والد ماريان، ولا يمكن أن تستدعى اكتشاف ماريان أن أمها إيريس أرادت أن تجهض نفسها، وأنها كانت تريد ولدًا وليس فتاة، بعيدًا عن استدعاء شاهين فى الفيلم، وفى فيلم «حدوتة مصرية»، لكلمات أمه ماريكا، التى تمنت أن يموت يوسف، وليس شقيقه الأكبر ألفريد.
https://www.youtube.com/watch?v=5wRk7uMNOpc
الحقيقة أنه لولا جرأة شاهين المبكرة على تشريح طفولته، وعلاقته بأسرته، فى فيلم «حدوتة مصرية»، لما صنعت ماريان خورى فيلمها «احكيلى» على هذا النحو الجسور، ولما ظهرت ابنتها سارة وهى تنتقد انشغال أمها عنها، وافتقاد الابنة للهوية، فبينما ينظر جيل شاهين إلى تعدد اللغات والأصول والأديان كنوع من الثراء، فإن سارة ترى فى ذلك تشويشًا وافتقادًا للهوية المحددة.
يمكن القول إن فيلم «احكيلى» يحقق نجاحه على مستويات كثيرة: مادة بصرية وسمعية أحسن توظيفها، وتوثيق لنماذج إنسانية، وطرح لأفكار عن الذات والآخر والعائلة، وإعادة تأمل لقرارات مؤثرة وخطيرة، بل لعل الفيلم بهذه الفضفضة، وبتلك المواجهات، حقق نوعًا من التطهر والراحة لأبطاله قبل كل شىء.
أما وسيلته فى ذلك فهى نظرة عميقة من الداخل، ونظرة بعيدة فى علاقة الشخص بالآخر، نظرة قريبة تكشف أسرارًا خاصة، وأخرى بعيدة ترسم بشكل غير مباشر ملامح كل زمن، وفى كل الأحوال، تبدو نساء الفيلم قويات، على الأقل من الخارج، أو كما وصفهن شاهين بأنهن كالوحوش، ولكن الفيلم يكشف فى مناطق كثيرة عن هشاشة كامنة فى بطلاته، دموع ماريان نفسها تكشف ذلك، وهى تحكى عن ظروف زواجها الأول، تركت زوجها وغادرت البيت، بعدما تحملت كثيرًا فى صمت.
فى تفاصيل الرحلة لمسات حميمة للغاية، كل الشخصيات تتحدث بعفوية، وبدون ترتيب للكلام، والمونتاج ينقلنا بسلاسة بين رقصة محسن محيى الدين وليلى حمادة فى «حدوتة مصرية»، ورقصة يوسف شاهين مع شقيقته إيريس فى الواقع، وهذا المزيج من اللغة الفرنسية والعربية جزء أساسى فى الحكاية؛ لأنه يعبر عن التنوع والألوان الثقافية المختلفة لهذه العائلات، والتى منحت التجربة ثراء واختلافًا، وحتى عندما تتحدث الشخصيات فى الكريسماس، أو فى جلسة عائلية، فإنها تترجم حميمية وصدقًا ضروريًا. هذا فيلم ينتمى بصدقه وصراحته إلى عالم يوسف شاهين.