اثنان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العنيزي

في الصباح

نهى تبدو يانعة وقمرية وهي تحدثني عن صديقتها وعن خطيب صديقتها وثوب الزفاف والحفل الذي سيقام، ترفع رأسها إليّ وتقول إنها رافقت صديقتها إلى محلات  الملابس وأمضت نصف اليوم في استعراض الواجهات الزجاجية.. تطيل النظر في كل دمية ترتدي ثوب زفاف.. تتفحص تفصيلة الثوب والطرحة . الأكمام وفتحة الثوب عند الرقبة.. خيوط الزينة التي تحيطه.. وانقباضه عند الخاصرة.. ثم تنحدر نظراتها إلى انفساح أسفل الثوب.. تقول إنها كانت تتخيل الثوب على بدن صديقتها ثم تنقل نظراتها إلى دمية أخرى ترتدي ثوباً مختلفاً.

وتقول إنها انتقت لصديقتها ثوباً أبيض.. تسهب في وصفه لي.. وأحدق أنا في مرآة عينيها السوداوين.. فأعود من رمال العمر الممتدة.. أنفض الغبار عني.. وألج واحة تتفجر بالينابيع.. وأرى نهى عروساً بثوب الزفاف.. ترفل وسط جمع من النسوة يطلقن  الزغاريد .. ويرفعن عقيرتهن بالغناء الشعب .. وتدور إحداهن حولها بالمبخرة .. تخمس بيدها.. وأراني مرتدياً بدلة أنيقة بلون كحلي.. ورباط عنق.. وحذاء يعكس أضواء الزينة المعلقة.. وألمح أهل الحي يهنئونني.. وأصدقائي يطلقون التعليقات ويباركون .

تقول نهى إن أهل صديقتها وأقاربهم وصديقاتهم.. جمعيهم أثنوا على ذوقها في انتقاء الثوب..  وأنا أعبر إلى ضفة خيالي.. وأصطحب معي نهى إلى وسط المدينة.. تضع ذراعها حول ذراعي في زحمة المارة.. وأتحسس طراوة يدها البضة حين تمسك بيدي ونحن نعبر الطريق..  فأشعر أنني مدين للخطوات التي تحملني إلى جانبها.. يرانا أحد أصدقائي القدامى .. يلوح بيده من بعيد .. ويبتسم ابتسامة صغيرة .. نمضي والطرقات لا تنتهي تحت أقدامنا.. وكأنما الشوارع تتسع لنا وحدنا.. نتنقل بين محلات الملابس.. نتأمل ثياب الزفاف.. نتوقف عند واجهة أحد المحلات.. وتشير نهى بسبابتها إلى ثوب زفاف في الواجهة.. تقول لي هذا الثوب يناسبني.. وأقول لها هذا الثوب يروق لي.. والبائع في المحل يناولنا الثوب الأبيض.. يعد الأوراق النقدية.. ويقول لنا ألف مبروك .

نهى تقول إنها ستذهب إلى قاعة عروس البحر لحضور حفل زفاف صديقتها.. يرتد إلي خيالي وأجلس بجوار نهى في القاعة.. عروسين نتألق في ثياب الزفاف.. القاعة تمتلئ بالنسوة ذوات الزينة.. وعلى الطاولة أمامنا قطعة ( تورتة ) كبيرة.. الفرقة تصدح بالغناء.. وأنا أمسك بالشوكة والسكين.. أقتطع من ( التورتة ) قطعة صغيرة.. أقدمها لنهى.. تقضم منها.. وأقضم على إثرها.. فيرتفع صياح النسوة وتمتليء القاعة بزغاريدهن.

 

في المساء

الحديقة فضاء واسع .. بلا سقف .. بلا جدران .. الأضواء الشاحبة تنعكس فوق البحيرة .. أزواج يمشون الهوينا .. وأزواج يقتعدون الكراسي .. الشفاه تهمس .. والكلمات تسري في   فضاء الحديقة .. تحمل دفئها وشوقها .. تذروها الريح الخريفية .. فترتفع لأعلى وتتعلق في فضاء لانهائي .. أطفال يركضون خلف كرة صغيرة .. يتعثر أحدهم حين تلامس الكرة قدمه.. وبائع الحلوى يبحث عن وجوه تنعكس عليها أصداء نداءا ته .. الكرسي الذي  يحتويني يتسع لاثنين .. الحياة اثنان .. الإثنان رقم .. والرقم حمل المعنى منذ الخليقة .. وفي الطوفان كان على متن السفينة .. الحياة آدم وحواء .. وأنا آدم وحدي .. وإلى جانبي مساحة تتسع لحواء ..

التفت إلى جانبي فأرى نهى تجلس إلى جواري .. تهمس في أذني القريبة من فمها .. فيصمت كل ركن في الحديقة .. يستفزني الشبق الساكن في نظراتها .. يحفزني على أن أزيح قشرة التابوت الذي أغلف به نفسي .  تقول لي : من أين نبتديء ؟

وأقول لها: من مولد زهرتين طالعتين فوق كف ربيع عشبية .

وتقول لي: إلى أين ننتهي ؟

وأقول لها: عند قمر يحمل إلينا أرجوحتين .

تقول لي: ارو لي حكاية

وأروي لها حكاية عاشق.. مد يده ذات يوم تحت رذاذ المطر.. فأنبتت كفه براعم وأوراقاً.. ثم تجذرت قدماه في الطين.. فاستحال جسده إلى شجرة تفاح..

وعاشق آخر كان يروي حقلاً في ساعة من ساعات وجده.. فأنبت الحقل سنابل قمح ذهبية.. هرع العاشقون إليها يحصدونها. واتخذوا منها أرغفة يأكلونها.. فخرج من أصلابهم أطفال يركضون في الحقول.. ويبحثون عن سنابل الآباء العاشقين .

أستفيق من شرودي على صوت بائع الحلوى.. أهم بأن أشتري منه قطعتين.. فأتذكر أنني أجلس على الكرسي وحدي.. وأن نهى الليلة تحضر حفل زفاف صديقتها .

………….

*كاتب وقاص من ليبيا

 

مقالات من نفس القسم