اتساع التجربة وتمددات الأثر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. رضا عطية

يقدم الناقد العراقي عبد الوهاب عبد الرحمن في كتابه، “التجربة والأثر: قراءة في شعر الحداثة”، رؤية جمالية لعدد من تجارب شعراء الحداثة، مراوحًا بين مفهومين متلازمين: التجربة بوصفها الخبرة الموضوعية بأبعادها المادية الحياتية والتاريخية والاجتماعية وفق سياقها المحايث والنفسية الغائرة، والأثر بوصفه نتيجة تفرزها التجربة. وإذا كانت التجربة تخص منتج النص، الذي يكون-هنا- الشاعر، فإنّ الأثر يخص، في المعتبر الأول، المتلقي، القارئ، الذي يعيد إنتاج النص، الذي يمسي ساعتها تجربة يتوزع أثرها ويتعدد بتعدد القراءات وتنوع القُراء، باعتبار أنّ النص، حسب المفهوم الدريدي، آلة منتجة لعدد لانهائي من الإحالات.

يحيل مفهوم “الأثر” في قراءة التجربة الشعرية أو التجربة الفنية عمومًا إلى اتساع دوائر المعنى وتمدد الدلالة بل تجاوزهما في انفعال المتلقي بالتجربة الجمالية، وفي قراءة عبد الوهاب عبد الرحمن للشعر نجده معنيًا بظلال الدلالة التي تكتنف التجربة الفنية، كما نجده يسترئي أطيافًا فلسفية من الفضاء النصي باعتبارهًا آثارًا للتجربة الشعرية، كأنّه يترجم الشعر فلسفةً، أو كأنَّ القراءة الجمالية تقيم حوارًا مع النص الشعري يكون بمثابة أثره المتبدي في مرايا التلقي.

ويحاول عبد الوهاب عبد الرحمن أن يتلمس آثارًا لتجارب مختلفة ومذاقات شعرية متنوعة باستجلاء منظومة علاماتية تنتجها التجربة الفنية أثرًا يقوم متلقيه بإنتاج دلالته الفنية، لتحيل التجربة النص أثرًا مباحًا لمن يمتلك أكوادًا لفك شفراته.

ويقارب هذا الكتاب عددًا من تجارب شعراء الحداثة وما بعد الحداثة من أجيال مختلفة بما تُمثِّله هذه التجارب الشعرية من أصوات تنطق برؤى جمالية وتحمل مقولات فلسفية تعبر عن وجدانات إبداعية منتمية لحقب زمانية ممتدة من خمسينات القرن العشرين وصولاً للعقد الثاني من الألفية الثالثة.

كما تتوزع مقاربات هذا الكتاب بين تجارب شعراء يكتبون الشعر التفعيلي، وآخرين يكتبون قصيدة النثر، الشعر اللاتفعيلي، فيما يُعدُّ تأكيدًا على تجاوز الأثر الجمالي للتجربة الشعرية التقعيد الوزني التقليدي، ليبقى الشعر هو الشعر، موزونًا كان على الطريقة الخليلية أو مستغنيًّا عن الوزن.

وفيما يختاره الناقد من تجارب لشعراء جيل الخمسينيات من القرن العشرين يتناول أحمد عبد المعطي حجازي في واحدة من أشهر قصائدة “مرثية لاعب سيرك” بإقامة حوارية نصية مع فصيدة “لاعب أكروبات” للشاعرة البولندية “فيسوافا شيمبورسكا” الحاصلة على جائزة نوبل 1996، فيتبدى لنا مسعى ناقدنا ألا يكتفي في مقارباته النقدية للنصوص الشعري بمعاينة ما قد يلوح على سطح النص من دلالات، “آثار”، إنما نجده ينقب في البنى التحتية للنصوص ساعيًا لالتماس صلات لها بنصوص أخرى تتعالق بها بوشائج ضمنية وترتبط بها بخيوط خفية، فالمسعى النقدي، في هذا الكتاب، ذاهب لاستجلاء ظلال النصوص، مفتشًا عن “النص الغائب” الذي يلوح في أفق النص الممتد.

أما الشاعر الخمسيني الآخر الذي يتناوله كاتبنا بدراسة ضافية فهو االعراقي سعدي يوسف، في ديوان حديث له، طيران الحدأة (2012)، فيما يمثل لاغتراب الشاعر في مهاجره الغربية في فرنسا وإنجلترا، ولا يفوت الدراسة في قراءة نص سعدي أن تتلمس إيقاع النص العلاماتي، بقدر تلمسها لإشارته السيسوثقافية، في مراوحة بين خارج النص وسياقه البراني، وداخله.

أما في دراسته لتجارب الشعراء الستينين، فيُقدِّم الكاتب تجربتين لشاعرين لهما جماهيرية عريضة؛ أمل دنقل باحثًا عن حضورات التراث في نصوصه باعتباره محركًا مقولاتيًّا للأثر الشعري والجمالي، ومحمد إبراهيم أبوسنة منقبًا في نصه عن أصوات أسلافه من الشعراء.

وفي تناوله لتجارب الشعراء السبعينين، يمر عبد الوهاب عبد الرحمن على شعراء ثلاثة؛ عبد المنعم رمضان في ديوانه الحنين العاري مستجليًّا تبديات الحلم لديه وتكوينات اللاوعي في نصه الشعري بما في نص عبد المنعم رمضان من حضور تأشيري كثيف لرموز تاريخية وأسطورية، ومحمد سليمان في ديوانه هواء قديم، مراوحًا بين المعنى المغلق الأول، والدلالة المتسعة المفتوحة في شعره، ومحاولة اللغة التعبير عن الواقع.

أما في تناول الكاتب لعدد من تجارب شعراء قصيدة النثر فهو يتعرض للبناني وديع سعادة، أحد أبرز أسماء شعراء الموجة الثانية من قصيدة النثر العربية التي برزت في أواخر الستينيات وأوائل السبيعينيات فيبرز تعاملات الشاعر الإحالية مع الألفاظ التي يشكِّل منها قصائده وأسطرته للواقع. وفي دراسته لتجربة الشاعرة السورية سنية صالح يبرز الكاتب انفتاحات رؤيوية على العوالم اللامرئية وتشظيات الذات الشاعرة عبر نصوصها والنزوع الميتانصي لقصيدتها. ويتعرض المؤلف لتجربة أحمد طه أحد أبرز شعراء قصيدة النثر بمصر في ديوانه إمبراطورية الحوائط فيما يقدمه في نصه الشعري من شخصيات تاريخية وثقافية خصوصًا من يمثلون تيار اليسار السياسي والثقافي.

ومن شعراء قصيدة النثر العربية الذين في جيل الثمانينيات من القرن الماضي يقدِّم المؤلف دراسة عن الشاعر الأردني موسى حوامدة يبرز فيها علاقة معانيه بشعور عدمي يلازمه إزاء الوجود ومحاولات الذات تقصي المجهول فيما هو هو جدلي ومتوتر مع الآخر.

وفي تناوله لشعراء قصيدة النثر من جيل التسعينيات وما بعده ينتقي الكاتب ثلاثة شعراء مهمين؛ عماد أبو صالح في ديوانه كان نائمًا حين قامت الثورة، متناولاً المراوحة بين الشعرية والثورية في بحث الشاعر عن يوتبياه المنشودة واحتفائه بالجانب الميتافيزيقي للثورة، وجيهان عمر في ديوانها أن تسير خلف المرآة انحرافات المعنى وانزياحات الدلالة والصياغة المشهدية التي تؤسسها الشاعرة تمثيلاً لما هو نفسي، وجرجس شكري في ديوانه تفاحة لا تفهم شيئًا في علاقة الشعري بالمقدس وتجاوزه له، ساعيًّا لفك شفرات منظمة العلامات الأيقونية في نصه الشعري.

………………………..

*صورة الغلاف تجمع الكاتب مع الراحلين د. صلاح فضل وعبد الوهاب عبد الرحمن

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم