اتجاهات البطل في مجموعة “مهر الصبا الواقف هناك” لحسين عبد العليم

عويس معوض
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عويس معوض

يقدم الكاتب في هذه المجموعة شرائح اجتماعية وسقوطا اجتماعيا لحقبة الستينات – عامة – والحارة في هذا العصر – خاصة – من فساد في القيم والسلوك ، وأفكارا مختلفة وغيرها من خلال تشریح يهمس به الكاتب ولا يصرح، وعلى القارئ أن تكون له عين فاحصة لرصد تلك الشرائح ، بينما يكون الكاتب محايدا دون تدخل ودون طرح إيديولوجي. وقد نجح الكاتب في ذلك في حد قريب .

وكان على هذه القراءة أن تقدم بين يدي القارئ هذا التشريح ولكني آثرت أن أتحدث عن اتجاهات الوطن في هذه القصص خاصة، وأن الكاتب لم يقدم نماذج بشرية خالصة يستطيع أن يجد المتلقي نفسه فيها – كما في الرواية – أو القصة الستينية، ولكنه يقدم أنماطا تتجاوز ذلك إلى أن تصل لحد الرمز فيكون البطل هو الرمز أو الحدث أو اللغة وهذا ما سأتناوله بالتفصيل .

وسأحاول من خلال هذا الطرح أن أعرض – ما وسعني لهذا التشريح – السقوط والمعادل له – التطهير – الذي يراه الكاتب .

البطل الرمز

ويتجلى ذلك بوضوح في قصة (حكاية الرجل الطويل الغليظ السخيف وما فعله معي) والتي تحكي عن مواطن مجهول الاسم والعمل ، المطارد من شخص – مجهول أيضا – ولكن له أوصاف الغلظة ، اللزوجة، الأفخاذ الخنزيرية والجسد القوي ، وهذا الشخص المطارد – يقهر هذا المواطن في السينما والمواصلات وقبل الأخير في الحصول على القوت، ثم في الشرف فيصل الكاتب، في مرحلة التطهير – إلى استخدام القوة بأن يقرر الخروج وفي يده سكين وينبغي أن نلاحظ من عنوان القصة (ال) المعرفة للشخص القاهر، وضمير المتكلم في (مي) . فهذا الشخص – الرمز- ما هو إلا قيمة القهر التي يعزف عليها الكاتب امتداد أفقي. وتعريفه يعني أنه معروف لدينا جمعيا . وضمير المتكلم يعني أن ما به حدث لراوي القصة قد يحدث لأي فرد في المجتمع إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الراوي هو المعادل الموضوعي لأفراد المجتمع، ويؤكد ذلك على عدم وجود أي صفة للراوي على المستوى المادي أو النفسي. كذلك استخدام الضمير الغائب للشخص – القاهر- (وإذا به ….) أي (هو) . ( لقد خشيته ……..) أي (هو) والاستسلام للقهر ، عندما قطع له تذكرة السينما وتخطى دوره في الطابور ، وتدخل الكاتب – على لسان الراوي ليلقى الحكمة (لكن الاعتراف هو أول الطريق للصواب) ويتصاعد الموقف التالي عندما يحرمه من مسند المقعد ويؤثر به نفسه ، فتتصاعد معه الرغبة في الخلاص (التطهير) ، : شنت ضده حربا صامتة ، لكن عندما يبلغ القهر أشده في حرب القوت تتزايد الرغبة في الخلاص (التطهير)، فعندما يأخذ دوره في طابور الجمعية يكون الفعل الإيجابي (تشجعت وطلبت منه أن يخرج من الطابور) حتى وأن جاء صوت الراوي متحشرجا ضعيفا . وفي النهاية يمتزج الواقع بالحلم والحلم بالواقع وتكتمل دائرة القهر ، حتى في المجتمع المحيط بالراوي، عندما يسمع أغنية هزلية يستمتع بها الجيران فيكشف الراوي أن الصمت والاستسلام لن يجدي إذ يحاول القهر سلب شرفه واغتصاب زوجته فيخرج وفي يده سكين .

البطل الأسلوب

(التماع الخاطرة للسيرة العاطرة للولد میمي وأخيه ضبو)

يتجلى الأسلوب ويتفرد في هذه القصة ليطفو على السطح وليأخذ الباب القارئ حتى يصبح الأسلوب هو (البطل) خاصة وأن الطرح هنا فكرة ذهنية تقوم على الجدل الثنائي بين (میمي) المثقف الطموح و(ضبو) ممثل القوة الغاشمة.

وأراد الكاتب أن يطرح فكرا أيدلوجيا قد يصل إلى حد وجهة النظر، فقرر أن يهرب من ذلك بأن يغلفها بالأسلوبية القديمة التي يشعر معها القارئ بأنه أمام مقامة أو قصة تراثية ويتدخل الكاتب ليسخر من الموروث عندما يحكي عن ضبو (ورأسه المستطيلة التي تشبه (الشمامة) ، يقول أهل الحي بأن أمه قد توحمت على شمامة ولم تعثر عليها) .

ويسوق الكاتب السقوط الاجتماعي عندما يتعرض لموت الست فاطمة (بائعة البخت) (اكتشف الناس أنها كانت تحتفظ في الحجرة بملابس داخلية فاضحة مزركشة وذات ألوان فاقعة)، وإن كانت القصة تعرض شريحتين متوازيتين لميمي وضبو . ميمي الذي يتأمل ويفكر حتى يصبح ولدا ثائرا يدين القهر الاجتماعي ، فهو يعمل منذ صغره ويتأمل ويأتي بأفعال شاذة – عادة العباقرة – كأن يأكل أعواد الكبريت. وضبو القوة الغبية ، الذي يعمل في الفرن ويسهر في الأفراح ويتشاجر مع عباد الله معتزا بقوته ومثله الأعلى (صبحي هيرقل) فإنه – أي الكاتب – يدين في الاتجاه المقابل مجتمعا دون أن يحبو ، في موت الست فاطمة التي سقطت نتيجة القهر والحرمان، والوفي الوحيد لها هو الكلب (يتمدد أمام حجرتها ويعوی بطريقة غريبة) وإن كان هذا تدخلا مباشرا على لسان (ميمي) الثائر الذي يهاجم (شيخ الطريقة) ويشرح الكاتب – على لسان ميمي أيضا – الفوارق الاجتماعية حتى في العطور . ويستمر هذا الجدل الخصب بين القدرة والعجز في غلالة أسلوبية يهرب بها الكاتب من الطرح المباشر ، ويقف حارسا من الخروج لهذا الطوق المحكم الذي يقود به شخصياته إلى مصائرهم : ليصبح (ضيو) زوجا مستقرا صاحب اولاد و(ميمي) سجينا متهما بالتحريض مؤكدا مقولة الشاعر أمل دنقل على سبارتكوس (والودعاء الطيبون هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى لأنه لا يشنقون) .

البطل الزمن

(أهمية أن تتزوج عنايات)

لعله من المتعارف عليه أن فن القصة – تكنيكيا – هو تحديد الزمن وعدم تخطيه، ولكننا – وفي نهاية هذه القصة – نجد الكاتب قد تخطي الزمن لتمر أعوام بعد زواج عنایات (تمر الأيام فتحبل عنایات وتلد ، ثم تحبل وتلد ) فما الذي يعنيه الكاتب ؟ علينا إذا أن نستعرض قصة عنايات التي جاءها العريس ، برغم ما أشيع عنها من انحلال أخلاقي وسلوكي كالذهاب إلى السينما بمفردها أو سماع أغاني عاطفية أو الاحتفاظ بصور الممثلين ، ثم يتكاتف أهل الحارة – كما هي العادة – في مساعدة والد عنایات – فهو الواجب المعروف في الحارة – وتتزوج عنایات وتفر دموع أهل الحارة وقت الفراق وتمر الأيام ، كما أراد لها الكاتب، وتأتي عنایات (تشيل وتجر) وأهل الحارة يرحبون بها . لعله قد بدا جليا أننا أمام حكاية عادية تطرح رؤية الكاتب من خلال غلالة رقيقة تتراقص وتتساقط من خلفها الشخصيات، فلابد أن يطفو (الزمن) ليصبح هو البطل المغير الوحيد لأفكار الناس ومعتقداتهم، فهو إذا (المطهر فعنایات في الحقيقة ليست منحلة – كما ادعى أهل الحارة – ولكنها فقط متحررة في وقت تعارف فيه أهل الحارة على سلوك معين يجب أن تسير عليه الفتاة ، ومن تتخطاه منحلة ، وعنایات البنت المثقفة التي تعكف على قراءة كتاب ليلة الزفاف،  ومن خلال هذا الطرح يشيد الكاتب بمبادئ الحارة وقيمها – برغم تلك الأفكار – من تكاتف وحب ومساعدة فيما بينهم (حتى أم محمد الغسالة طلعت خمسة جنيه)، وفي الاتجاه المضاد يشرح الكاتب هذا الواقع وسقوطه نتيجة تلك الأفكار . (رؤيتها لحسن ابن يوسف افندي يحتضن لوزة الصغيرة بنت الجيران في بئر السلام)، فهذا الواقع لا يهذب الجنس عند الأولاد بشكل علمي فينتج هذه التيمة . وينسلخ الكاتب ليترك الزمن يروي أحداثه متخطيا كلاسيكية القص في عنصر الزمن ووحدته) ، ليصبح الزمن هو البطل الوحيد الذي تدور في فلكه هذه الشخصيات وهو ايضا – الزمن – هو (المطهر والقادر الوحيد على تغيير تلك المفاهيم لهؤلاء الطيبين الذين – كما يقول – (فقد كانوا يسعدون لرؤية عنايات ابنتهم ، وما دام البطل هو الزمن فلا ضيرا أن ينمو ويتطور ليصل إلى الذروة فيكون هو الطهر في النهاية .

البطل الحدث

في (أوجاع القلب الصغير)

حادث يجتمع حوله الكبار وتنخلع له قلوب الصغار ، عندما ترفع صاحبة البيت – زوجة الباشا السابق – قضية لإزالة المنزل ، لأن سكانه طالبوا بإصلاح (البكابورت) ويصبح الصبي – محور الأحداث – يشيل الهم الثقيل في قلبه الصغير ، ويقرر في شكل طفولي أن يصور البيت أو يرسمه رسما كروكيا – الفكرة التي اقترحتها أخته – لأنه في

– النهاية قرر أنه عندما يكبر سيشتري قطعة أرض كبيرة ويبني بيتا يشبه تماما بيتهم ولكنه يصطدم بقول أخته (طيب البيت وهتبنيه والناس والجيران هتجيبهم منين بقى ؟) ، ولكنه حتما عندما يكبر سيجد حلا .

والقارئ لهذه القصة يمكن أن يتناسى الشخصيات والأسماء ، فالشخصيات ما هي إلا خطوط تتشابك وتلتقي وتتقاطع لتقع في النهاية في بؤرة الحدث (هدم المنزل)، وتستطيع أن تلمح بوضوح هذه المقولة التي افتتح بها الكاتب قصته . (كانت المشاكسة وبالا على رؤوس من سعوا إليها، فهذه الجملة التي يقذف بها الكاتب في البداية – والتي ترد على لسان إحدى شخصيات القصة تجعلك تسأل ، ما الحكاية ؟

وما القصة؟ وما الوبال الذي حل على أهل الحارة ؟ ثم يترك القصة الحدث – پروى على لسان طفل …. (الحكاية ابتدت بعد صلاة الجمعة …. ) فهي في البداية مشكلة قد حلت ، وهي حكاية على القارئ أن يلتفت إليها . وأن أمعنا النظر في القصة بعد القراءة الأولى وجدنا الحدث هو الذي يقود الشخصيات إلى مصائرهم وليس العكس . فلولا هذا الحادث – البطل – لما اجتمع أهل الحارة والدليل الأخر على بطلية (الحدث) هو تضاؤل الشخصيات أمامه وفشل المقاومة ولكن من أين يأتي التطهير الذي يشغل هم الكاتب . إن التطهير يكمن في الجيل الجديد القادر على الابتكار ، العقل البكر والفكر الخصب الذي لم يلوثه الواقع . والذي يفضح واقعه في براءة عندما يحكي لأخته بأن ما يخفيه عليهم أبوهم ليس أكلا ولكنه خمرة ، وهو الطفل الذي حتما عندما يكبر في النهاية سيجد حلا للمشكلة .

وعلى هذا تتنوع أبعاد البطل واتجاهاته في المجموعة ضاربا بذلك التشكيل القديم للقص وأن سار على نمط قديم في اللغة والسرد.

……………………..

* من كتاب “عبقرية الظل”.

 

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم