فى الطريق تكرر على مسامعنا بحزم :”أول ما نوصل تبكوا”. على بعد أمتارِِ من شارع جدتى لأبى المتوفاة، تُخرج أمى منديلا تُبلله بِريقها، ترسم مجرى لدموع لم تذرفها، أختى الكبرى تُحاكيها مستبدلة المنديل بإصبعها.
يصلنا عويل النساء خارج المنزل يُهييء أمى، على عتباته افتتحت وصلتها الخاصة، وبإنسيابية شاركت الآخريات العزف صراخا. لم أتمكن من تفسير الكلمات الفاصلة والممزوجة بصراخهن بوضوح، كانت أشبه لمديح بسِمات لم تقترن يوما بجدتى.
جذبتنى ابنة عمى صارخة بوجهى وسط شهقات نحيبها بـ”ستى ماتت .. ستك ماتت”، أعلم هذا.. ولا أدرى ما عليّا فعله لها؟! ألتفت لأختى فتُفاجِئنى، ها قد عثرت على حفنة دموع لا أدرى من أين؟!
أخذت أمى تسترق نظرات نحوى، فى غفلة من أعين النسوة حولها. ترمقنى بالغضب، وهى تجذ على أسنانها، حتى لا ينفلت منها السباب. أراها لكنى لا أتحسس وجودها بعالمى، كأنها والنسوة معها فى إحدى مشاهد أحلامى، وأمى تسعى لإخترق الحجاب بيننا، تلوح بإشارات لى.
انشغلت برسم حلقات واشكال بقدمى الصغيرة على التراب بساحة المنزل، وتوقفت بقرصة فى ذراعى، ألمتنى وقبل أن تنفلت الآه كانت يد أمى على فمى. سبتنى بالمجنونة الغبية، تمنيت لو قلت هذا أنتِ، لكنها أمى.
نظرت لأعلى أتطلع لوجهها، كان يشتعل غضبا وغيظا، ويعتصر حرجا بى.
أخذت التقط ما تسعى شفاهها أن تبلغنى إياه، كانت ترسم أحرف (إ ـ ب ـ ك ـ ى)، فى الخفاء عقب عودتنا لمنزلنا ظلّت أعصر عينى لتُسقط دمعا، لم تستجب وشعرت بالبلاهة.
الحلم امتد أياما، وتصرفات أمى الغريبة تتواصل. حرمتنى مشاهدة أفلامى الكرتون، وحين أدقق فى التفاصيل، أتذكر شاشة التلفاز سوداء، كانت قد حرمت الجميع. مع فك الحظر بأيام، أمرتنا ببقاء صوته منخفضا، لئلا يسمع الجيران. ألمح خطوات أختى المتسارعة لغلقه، وجحوظ عينيها مع سماع أولى الطرقات على الباب، إن كانت لغريب أو لأبى.
أخذنى “جيرى” لمكائده مع “توم” يوما، لم أنتبه فيه لتواجد أبى فى الحجرة معى. ارتجفت من ثورة غضبه التى حُذِرنا منها، تسمرت على مقعدى مع شعور غامض بالذنب. لم يتطلع أبي إليّ. كان ساكنًا حزينًا، كان غريبًا هو الآخر كبقية من فى الحلم، لكن ليس بالصورة المزعجة التى عليها أمى. وحده من رغبت بشدة أن يخترق الحجاب الذى بيننا، وحده الذى لم يفعل.