حاورها: محمود الورداني
– عندما رحلت من المنصورة إلى القاهرة…هل كان ذلك من أجل الشعر؟ عمّ كنت تبحثين؟
– في صيف 88 حملت حقيبة كبيرة وبعض الصور العائلية – كأن القاهرة تبعد عن المنصورة بأيام سفر- جئت وأنا ملوثة ككثير من أبناء القرى والمدن الصغيرة بالعاصمة؛ كحلم يحقق أبواباً مفتوحة.. روح الغزاة دائماً ضئيلة، استغلال المكان الذي تذهب إليه لا يجعلك صالحاً لاكتشافه.. هكذا جئت للقاهرة وبمبرر الدراسات العليا كان أبي يدفعني عكس المتوقع من ربّ أسرة من الطبقة الوسطى وبلا هموم ثقافية تقريباً، كان هو الآخر ملوثاً بأوهامه حول ابنته الكبرى، المتفوقة دائماً، والتي يجب أن تعوض طموحاته المجهضة.
منذ الشهور الأولى، قدمت لي القاهرة ببذخ بالغ، وجهها الأول والأسوأ لحسن حظي، حيث من الأفضل أن يأتي الأسوأ مبكراً، كي يكون لدينا الوقت لنقول إنه مر بالفعل، رأيت ماسكات يكرس بعضها البعض، بحثاً عن أدوار أساسية فوق مائدة الحضور الوهمي، حوارات لا تخصني تمر من تحت عيني، كنت أبحث عن”ماسك” يناسبني ويداري هشاشتي حتى أكون على مستوى تماسك الوجوه الثقافية التي لم تخل من إبهار بالنسبة لي، ربما كان تصوري عن جسدي النحيل لا يؤهلني للعب الدور الشهير في ثقافتنا، دورالملهمة؛ الفتاة أداة التهيج والموضوع المجاني للشعر. ربما لم أكن كذلك، ولكن الشاعر الحداثي كان يؤسس نظرية في قمع زوجته مع الحفاظ على الأسرة. العدوان يمتلك مبررات انسانية، رأيت قيماً تتكسر دون أن أرى قيماً جديدة تحل محلها، رأيت “مثقف شيزوفريني”، مدفوعاً ببؤسه الطبقي، يخون زوجته هرباً من رتابة الحياة كضرورة للفن، ويكتب نصاً مدافعاً عن الحب والرحمة والشبق.. إلى آخره، لم تكن لدي علاقة بنفسي، كنت موجّهة للخارج، مرهونة، أكتب مثل الكتابة السائدة، وأهتم بالتقنية والتصوف والموسيقى كمهيجات مبتذلة للكتابة من منطقة آمنة، بينما الذات مختبئة، هشة، لديها سيناريوهات سرية، كنت أكذب، وكنت متناقضة. ربما لم أكن مزيفة تماماً ففشلت اللعبة مبكراً، وخرجت بعد شهور قليلة بمجزرة حقيقية، وعزلة، وشعور لانهائي بالخيبة. الفهم كان أكثر قسوة من الشعور بالذنب، ولكن بعد ألعاب نفسية مع نفسي، بدأت أفهم أنني كنت أتحلى بزيف ما ولذا سقطت في هذه الدائرة، بدأت أتذكر أنه بالتأكيد يوجد ناس آخرون، أشياء أخرى، أوعلى الأقل يوجد أحد غيري في هذا الجسد وله نفس اسمي.
– تجربتك في القاهرة.. هل أثرت على تجربتك في الشعر وفي رؤيتك؟ وكيف؟
– ربما، ولكن الكتابة لم تكن هماً بالنسبة لي لثلاث سنوات متصلة، فقد كنت أبحث بدأب ويأس عن ناس أو فكرة، فقط لأرمم روحي، حياتي التي يفاجئني خرابها في كل لحظة. كنت في حاجة لأصدقاء، لتواصل مع آخرين، لديهم القدرة على تحمل خيباتهم بلا رتوش. كنت أسعى للتورط، للدخول مع أشباه لي في ورشة إنتاج مشترك لتربية روحي مرة أخرى خارج كل تربية أبوية عائلية سياسية تحدد النجاح كذروة وكمحصلة وتؤسس لتخريب الذات لصالح نموذج عمومي وزائف.
مع أناس آخرين، وبأحاديث أكثر تواضعاً، بمزيد من الاكتئاب والعزلة والتعرية، أرى القاهرة تجربة، مدينة (ستحملها بداخلك أينما ذهبت) ولن تستطيع تجاوزها.
لن يعرف القاهرة أبداً من يؤمنون بها كمكان نهائي ووحيد، من أجل أن تحبها في تعددها، يجب أن تدرب نفسك على الاستغناء عنها، أن تتحرر منها حتى وأنت تعيش فيها.
ليست القاهرة هي المدينة التي تورثنا تناقضاتها(مثل اسكندرية داريل مثلاً) أبداً، هي أجمل وأقسى من ذلك، إنها تقدم لكل من يدخلها ما يريده بالضبط. إذا كنت خاو ستبهرك بوسائل استهلاكك، سرقتك، وإذا كان لديك سؤال حقيقي ستؤرقك بأسئلة أخرى. إذا دخلتها من باب قصرها العالي سترحب بك ترحيبها بالغزاة، ولكن لن تمنحك معرفتها، وإذا دخلت متواضعاً، مرتبكاً، من سلم الخدامين فقد تدخلك غرفها المعتمة الممتلئة بالكراكيب والمهملات والكنوز أيضاً. القاهرة تهزأ ممن يستعملونها.. تستعملهم، تحرمهم حبها. أفكرهكذا، وأفرح بكوني مواطنة تمشي وحيدة، وتنتقل من رصيف لرصيف في زحام يستطيع أن يشعرك بحدود جسدك، بتعينه واختلافه عن كل الأجساد الأخرى.
– كان ديوانك الأول “اتصافات” 1990 ينتمي لشعر التفعيلة ثم كانت قصائدك التالية تنتمي لقصيدة النثر.. لماذا هذا التحول؟
– لا أحب الحديث عن توجه ما لقصيدة النثر، كأنها موجودة في مكان محايد، بينما شاعر ما يقوم (بتغيير مساره) من التفعيلة إليها، بالنسبة لي على الأقل، لم أراكم تجربة شعرية مهمة أو طويلة داخل أرض التفعيلة، ما حدث أنني كنت واثقة في نفسي أكثر مما يجب فأصدرت ديواني الأول “اتصافات” في سن مبكرة، معظم قصائده كتبتها وأنا طالبة بجامعة المنصورة ما زلت. بعد “المتصف” آخر قصائد الديوان (أبريل89) ولأسباب سبق الاشارة إليها توقفت عن الكتابة، دخلت عطلة، وبلا أحلام تجاه الكتابة كنت أقرأ بهستيريا، وأتابع بدأب بينما كانت جغرافيا قديمة تتفكك في حياتي بانتظام, عندما عدت للكتابة كانت لدي رغبة في التواصل مع آخرين, في الحكي, وكأن شيئاً ما تغير في تصوري عن الشعر الذي أحبه دون وعي مني.
على مدى 93-94 , كتبت قصائد (ممر معتم يصلح لتعلّم الرقص) بالاضافة لقصائد أخرى موازية لها, رأيت أنها لا تستطيع الحياة خارج الفداحة التي تشكل مرجعيتها, فاحتفظت بها في أدراجي الخاصة.ببساطة لم أهجر التفعيلة, تراكم ما جعل الموسيقى هي التي تهجرني.
– هل لديك تفسير لهذا الاندفاع والتدفق من جانب عدد واسع من الكتاب الشباب نحو قصيدة النثر؟ وهل تقدم – تلك القصيدة – حلولاً لإشكاليات ما؟
– أنا لا اتحدث باسم أحد, ليس لدى سوى خبرتي, البحث عن كتابة تناسب تفككي, رغبة في كتابة الذات بلا أطر, التداعي الحر, الهيستريا, البحث عن رائحة جديدة بلا ضمانات جمالية جاهزة تم العمل عليها لقرون طويلة, وأتمت إنجاز نماذج وقصائد جميلة داخل تاريخنا الشعري, ولكنها تخص لحظة سابقة لم أعشها, ومن حقي أن أعبر عن نفسي بالطريقة التي تتواءم مع لحظتي.
لاأفهم كيف تستطيع “قصيدة النثر” أن تحل اشكاليات يواجهها كاتب, المنطقى أن تطرح إشكاليات جديدة, لأنها تبني ذائقة جديدة, خارج تراث طبلة الأذن التي تعودت على الانشاد والموسيقى, كما أني لا أعتقد أن الكاتب لديه كل هذا الترف ليختار بين مجموعة احتمالات كتابية, الذات أمام الكتابة تسقط على المساحة التي تسع وجودها, دون وعي قبلي بذلك.
كما أني أعتقد أن التعدد والتراكم داخل تجربة الشعر الجديد والذي وصفه البعض بأنه “قصيدة نثر” كأن النثرية هي الملمح الوحيد المختلف فيه, سيقومان بفرز هائل بين الجمال والتقليد, الخفة والثقل, الدقة والاستسهال, وسيحدث مثلما حدث في كل المحطات الشعرية السابقة, فنحن الآن عندما نتحدث عن قصيدة لعبدالصبور أو السياب أو غيرهما، نتحدث عن علاقتنا بالنص أوعن علاقته بنماذج أخرى وتميزه عنها, ولم نعد نشغل أنفسنا (بشعر التفعيلة) في مقابل الشعر الموزون المقفي على سبيل المثال.
– كل قصائد “ممر معتم” نشرت في “الجراد” و “الكتابة الأخرى” و “الكاتبة اللندنية”, هل هذا موقف أم أنك تسعين لقارئ بعينه؟
– ليس هناك موقف من أحد, هذا اختيار يناسبني حتى الآن, فأنا ابحث لكتابتي عن سياق يريح عيني عندما أراها مطبوعة في مجلة أتبني طموحها العام, وأشترك مع القائمين عليها في بعض التحيزات.
– في العام الماضي -1994- نشرت مقالاً في جريدة “الأهالي” بعنوان “مُغريات الهامش” تناولت فيه أهمية وجود طرح ثقافي مستقل عن المؤسسة الرسمية.. كيف؟
– ومازلت أعتقد مع آخرين – بحتمية وجود طرح ثقافي مستقل عن المؤسسة الثقافية الرسمية, وليس هناك تشنج في التعامل مع المؤسسة الثقافية, فأنا مع ويتمان عندما يقول (لست مع المؤسسات ولا ضدها, ما الذي يجمعنى بها أو بتدميرها (…) أنا فقط أريد أن أبني هنا وفي كل مكان مؤسسة حب الرفاق العزيز) ونحن أيضا نريد أن نراكم هنا, وفي كل مكان تجاربنا ونصوصنا في منابر تشبهنا, نحن هامشيون شئنا أم أبينا, ولكن جئنا في لحظة يحدث فيها تطور ما داخل الهامش الثقافي المصري, مقارنة بتاريخه السابق, فالهامش الآن ليس مجرد معارضة للسلطة الثقافية, وليس همه الأساسي متابعة أطروحاتها, ولا نقد النصوص التي تكرسها, بل هو نتاج همه الذاتي, محنة مبدعيه وتطور وعيهم وقيمهم الجمالية, التي تناقض الثقافة السائدة والمسيدة أولا تناقضهما.
أنا مثلاً أعتقد أن المؤسسات الثقافية الرسمية، خاصة بعد إشراف مجموعة من رموزنا الثقافية عليها تمارس ديمقراطية ما، وأن المواد والتحيزات التي تنشر وتسمع وتقرأ، هي قناعات الشخصيات التي تقوم بإدارتها دون ضغط من أحد، ولكن كل ما ينشر لم يعد يرهب أحداً، السياق ملزم كما يقولون، فنحن نحلم بسياق آخر، أكثر تعدداً، وأكثر جذرية، يسمح بالتطرفات بداخله.
لم يعد ممكناً أن نقول إن كل عمل داخل السلطة الثقافية متخلف، ولا أن كل عمل خارجها أصيل ومناوئ وملتصق بلحظته التاريخية، فليس الفرق بين تأسيس وعي جديد، وتكريس وعي زائف هو التمويل أو الموقف السياسي المباشر، فثمة مجلات ماستر داخل تاريخنا الثقافي كانت مستقلة، ولكنها لم تراكم وعياً مختلفاً، ولا جماليات مختلفة، لأن طموحها لم يتجاوز إقامة سلطة أخرى، يقين آخر مجاور ليقين السلطة الثقافية الرسمية. هذه المجلات انتهت كمعمل تفريخ لتقديم وجوه أكثر شراسة في محاربة كل جديد، وإذا رجعت إلى انتاج هؤلاء الأشخاص، ستجد كتابة كهنوتية وشكلية تداري خواءها وتواطؤها مع السائد بالموسيقى والإصاتة والاجترار. نحن بالطبع لا نتمنى لأنفسنا نهاية تعيسة كهذه.
من هنا أتحمس لكل المحاولات التي تطرح نفسها كعمل ثقافي مستقل، ورحب، ومتحيز لجمالية بعينها، له هوية، ورغم ذلك أعي أن كتابتي داخل هذه المجلات معزولة لأن هذه المجلات هي الأكثرعزلة داخل ثقافة معزولة أصلاً. وأعي أن هناك أمراضاً قد تصيب هذه المنابر؛ كأن تكرس لشخص القائم عليها، أو تتحول هي الأخرى لمؤسسة. لذا هناك دائماً المتابعة والمراجعة حتى لا يتحول حلمك بمنبر مستقل إلى منبر شكلي في استقلاله وحسب.
– هل تنتمين لجيل أدبي يتشكل الآن، ليس في الشعر فحسب؟
– عندما نتحدث عن “جيل أدبي” فنحن نتحدث عن قضية ثقافية لا عن همّ يخص الكتابة، فتدقيق ما هو الجيل الأدبي، وما العوامل التي تشكله، الملامح المشتركة بين إنتاج أفراده، كل ذلك من مهام النقد الأدبي، علم الاجتماع، سيسولوجيا الثقافة.
عندما أقرأ ييتس أو وديع سعادة، لا أفكر إطلاقاً من أي جيل هم في الحركات الثقافية التي ينتمون إليها. إن حضور النص يصنع هويته وسلالته، وعليك أن تقيم علاقة ما معه أو تفشل، تدخله في شبكة تصوراتك أو تنساه بعد القراءة مباشرة، في نفس الوقت لا أتذكر اسم بعض الشعراء إلا إذا فكرت بهذا التوصيف التجييشي (جيل) ذلك لأن ليس لديهم إنجاز خارج هذه القائمة، التكتل. نفس الملمح أفكر فيه عندما أقرأ(سينما المرأة) أو(كتابة المرأة) تجد أسماء حضرت لأنها تنتمي لهذا النوع (المرأة) بينما لو فكرت بالسينما أو بالكتابة، لن تتذكرها، أظن أن بعض محدودي الامكانيات من منتجي الفن يهمهم وجود هذه التصنيفات الزمنية والنوعية، حتى يحملهم سياق ما هكذا(شروة). بينما الصراع داخل الفن- كما أظن- هو صراع بين ذوات فردانية. أنت نصك. ونصك لن يعيش إلم تكن لديه الطاقة الذاتية لتحمّل ذوات قرّاء مختلفين، ولحظات قادمة مختلفة عن لحظتك.
مع ذلك أرى أن ثمة روحاً مختلفة تتشكل، تتلبس داخل الحياة وداخل الكتابة أشخاصاً متبايني الأعمال والتوجهات، الأمر يعود ليقظة الذات في مواجهة ما تعيشه، الوعي به، القبض على هذه الروح التي لا أستطيع وصفها، لأنها تتغير باستمرار محتفظة بهويتها، شعر ياسر عبداللطيف وأحمد طه وأحمد يماني، سينما داوود عبدالسيد، الشلة التي تجلس على مقهى الحي لاهدار الوقت، كأن الحياة حكم مؤبد وقاس، “هرتلة” أصدقائي وهو يتبادلون الذكريات، تعطل أسامة الدناصوري عن الكتابة، كتابة وائل رجب وهيثم الورداني وأحمد فاروق وأحمد غريب، الذهاب للعمل مع الحفاظ على انفصال دائم لأنك غير قادر على الاندماج ولا التبني مع ذلك تحتاج طعاماً وسجائر وكتباً، تجاور الاكتئاب مع الهوس في حب الحياة في لحظتين متتاليتين.
اللحظة تتشكل وتتسرب إلى الأشخاص الأحياء بجد، والحياة هنا طاقة، وليست شهادة ميلاد.
– اللغة الجارحة والمحايدة وإحكام قبضتك على المشهد الذي تكتبينه.. مواجهة العادي والمألوف- لا ما اصطلح المتلقون على انه شعر- تبدو هذه السمات في تجربتك مغايرة، هل تسعين لبلاغة جديدة؟ وهل البلاغة القديمة استنفذت امكاناتها؟
– بصراحة لم يكن السعي لبلاغة قديمة مهيّج أو سبب أو هدف يدفعني للكتابة، فطموحك عندما تكتب يتركز في الوصول لأعمق نقطة ممكنة في معرفتك بذاتك وبالآخرين، أنت تكتب تحت وطأة ما، تناقض، عتمة تستفزك تعريتها، أمراض مزمنة، عدم قدرة على التكيف، تؤرخ لجسدك، لأحلامك، لخيباتك، لوحدتك. أنت تكتب لأنك تقبض على الأشياء في هذه اللحظة كما لم يحدث لك من قبل، في التباساتها وجمالها وقبحها، تستمتع بالكتابة، ربما لأنه الفعل الوحيد الذي تختاره بكامل حريتك، الذي يفرض عليك نفسه ويهيمن. أنت تكتب لأن ثمة وجوداً إضافياً وحقيقياً تكاد تراه غير الوجود المتعين للوقائع.
إذا طرح نص ما بلاغة جديدة، خارجاً عن بلاغة قديمة وسائدة فهذا معناه أنه خاطر ولم يقبل بالمضمون، أنه ملتصق بلحظته التاريخية، أن لديه بصيرة اعتنى بها، وليس معناه الوعي بموقف قبلي من البلاغة.
لا أدري ما المقصود بـ “العادي والمألوف” هل تقصد ما هو خارج القضايا الكبرى السياسية والجمالية التي شغلت كثيرين من شعرائنا الكبار، أم تقصد بالعادي والمألوف الذاتي والحميم والبسيط لأنه داخل خبرتنا المباشرة؟. على كلّ فأنا أتصور أن مواجهة العادي والمألوف هي سمة لكتابة ما، ولا يعني اختياراً أبدياً، أو أيديولوجيا، ولا حتى طريقة دائمة للأداء الشعري.
الآن، وبجهد كبير من عقول فلسفية ونقدية في شتى بقاع الأرض، وهي مترجمة وفي متناول يدنا، أصبح هناك جرأة في الحديث عن وعي جديد؛ فالسلطة مثلاً لم تعد هي السلطة السياسية فقط بل هي موجودة – كما يقول “بارت”- في كل الممارسات الاجتماعية من اللغة إلى الموضة والمعارضة والعلاقات العاطفية والأسرية. أصبح متابعة تجلّي السلطة في أجهزة الدولة الأيديولوجية أهم من متابعة السلطة ذاتها، أصبح الثقافي أهم من السياسي، لم يعد هناك من يجرؤ على القول بدور مباشر للكتابة في الأحداث، تحريضي أو تنويري فج، سقطت ادعاءات الكاتب عن نفسه، فهو ليس أكثر وعياً من الآخرين كي يقدم لهم معرفة جاهزة ومكتملة وكليّة، ولم يعد متماسكاً داخل حياته اليومية حتى يمارس على القارئ نبوّة جمالية. إذن فالقضايا الكبرى ليست موجودة في الفراغ، بل موجودة في كل تفصيلة؛ الوطن ليس رمزاً بل هو ممارسة، الحب ليس عاطفة نقية بل هو ملوث بمشاعر قد تناقضه. من حق الكتابة أن تتواضع وتعكس ما تعرفه وتعيشه، أو ما تريد أن تعرفه وتعيشه.
اللغة جارحة، لأن ما وراء اللغة جارح، محايدة لأنها يجب ألا تبتز القاريء أو أن تستدر تعاطفه. الجمال ليس في الفداحة والألم كوحدات نفسية خارج الموضوع، بل الجمال في زاوية النظر، في الانحراف، في تقديم ما يراه الآخر عادي ومألوف داخل سياق يمنحه القدرة على الحياة والادهاش. الموت نفسه فعل عادي ويومي، ولم يزل سؤالاً مستفزاً ومدهشاً.
–تتردد في قصائدك تفاصيل يومية، بل إنها حفل بالتفاصيل- لماذا؟
– التفاصيل أيضاً ليست تقنية ولا اختياراً أبدياً في الكتابة، الذي يحدث هو أن إغلاق باب ما خلفك يظل حياً في ذاكرتك، يمارس ضغطاً عليك، يختلف عن كل مرة أغلق فيها باب خلفك، دون أن يكون ذلك رمز على شيء، دون أن يكون وراءه حكمة، لذلك يطاردك في الكتابة.
ثمة قصائد مليئة بالتفاصيل الميتة، العمومية، ليس لها رائحة خاصة، بانوراما مجانية وكوميدية من ذات عامة، ذات ليس لديها القدرة على رؤية الحياة عبر تفاصيلها، بل لديها منظومات متماسكة من الأفكار والتصورات، لا يعاد اختبارها، ولا يُشك فيها، مع ذلك تملأ نصها بتفاصيل كثيرة كبرهان على حداثة تعيسة ومضحكة. هناك كتابة، و هناك كتابة تنتحل مكاناً رائجاً ليس مكانها الحقيقي.
من يريد أن يختبر ذلك فليقرأ مجموعة النصوص الجديدة، وهو يبحث عن الاختلاف بينها لا عن وجوه الشبه الظاهرية، فسلة الشعر ممتلئة بالمتعدد لا بالمتشابه.
– مشروعك الشعري. . . ما هي ملامحه إذا كان لديك “مشروع” بالفعل؟
– ليس لدي مشروع شعري، ولا أعد أحداً بشيء. أشك أحياناً أن الكتابة ستظل مكاناً للتوهج بالنسبة لي، وأحياناً أعتقد أنها المكان الوحيد. عموماً وكما تقول إميلي ديكنسون” ما أستطيع أن أفعله سأفعله، وما لا أستطيع يجب أن يظل مخبوءاً في الامكان“.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* أخبار الأدب- العدد124- 26 نوفمبرسنة 1995