صفاء النجار
1
يومان، أحاول أن أتواصل معها، وهى لا ترد. اتصلت بـ«وفاء» شقيقتى الثانية، وقبل أن أنطق ابتلعت سؤالى: «إيمان» عاملة إيه النهارده؟.
أعرف أنها مشغولة بعالمها الجديد، تستكشف مفرداته، مكوناته، تحاول أن تتوازن بعد المرور بنفق اللامكان واللازمن، ربما مازالت واقفة على الباب مترددة فى الدخول، أو خطت، خطوة أو خطوتين، لكنها تهاب الاستيعاب والاندماج، الأبدية فكرة مخيفة، ثقيلة، رتيبة، مملة.
هل ستجد من يرشدها؟، السلسلة طويلة. ألهذا أصرت أمى على دفنها بجوار جدتى؟، بالطبع كل الأشياء مختلفة والمعايير والمقاسات.. ربما يكون اليومان اللذان مرا علىّ هنا فى انتظار أن تتواصل بى وتطمئن قلبى عليها، ربما تكون هناك مجرد لحظة وهى لا تعرف ثقل الساعات التى تمر هنا علىّ، ربما مازالت تجلس مع «هناء» ابنة خالنا التى لم يتح لها أن تسجل مشروع الماجستير فى النقد الأدبى، الحكى عن أبطال الدراما التليفزيونية يحتاج الكثير من الوقت. أو ربما التقت بـ«محمد» ابن خالتنا الذى لم يتخرج من جامعته واصطحبها ليلعبا «الويجا».
لا أعرف كيف ستتواصل معى تحديدًا.. الأقرب لذهنى أن آراها فى حلم: رقيقة كما كانت وقد تخلصت من تشنجات وعذابات الألم واستعادت عافية جسدها وبهاء روحها.
قد أراها على شاطئ بحر، والأمواج تتكسر من حولها، ونحن نحذرها من الموجة القادمة فهى قوية وقد توقعها لكنها ستفاجئنى أنها قد تحولت إلى سمكة فضية من راكبى الأمواج أو إلى طائر نورس لا يصيب رذاذ الموج ريشه الأبيض. براح البحر وانسياح حدوده قد يكون مناسبًا أكثر للرحيل، وهى قد رحلت بالفعل، أم أننى لا أريد أن أصدق، وتختلط لدى الرموز؟.
الحدائق الواسعة والخضرة المطعمة بألوان مبهجة تليق بالحضور الأبدى، فربما يأتينى طيفها مندمجًا فى تأمل طويل.. جلسة يوجا كالتى اعتزمنا الاشتراك بها، أو ربما تجلس على مجرى مائى، تحفه الأعشاب وفى يدها كتاب «كيف تستعدين لدخول طفلك المدرسة؟» أو ربما تجلس على دكة خشبية فى مواجهة بحيرة سويسرية شاهدتها فى صورة رحلة صيفية لمدرسة ابنتى.
كنا قد اتفقنا إن تحسنت حالتها الصحية قليلًا واستطاعت الخروج أن نتناول الغداء فى مطعم البحيرة فى الأزهر بارك.. سيكون تجمعا نسويًا نصطحب معنا شقيقتنا وفاء وابنتها نورا، وابنتى مريم وابنتها ملك.. ثلاث شقيقات وثلاث فتيات يمثلن الجيلين الثالث والرابع من عائلة موسومة بالحزن والفقد.
لكننا نذهب للأزهر بارك، ولم نذهب لفندق «وندسور» فى محطة الرمل، ولم نذهب للعمرة معًا.
أشياء قليلة استطعنا مراوغة ألمها وقمنا بها، آخرها مشاهدة فيلم «قلب أمه»، كانت سينما «فاميلى لاند» خالية، فى هذا اليوم لم يحضر عرض الرابعة عصرًا سوانا أنا وهى وأطفالنا الثلاثة، كان عرضًا خاصًا بالمصادفة، حتى إن طفلتى «مريم» وطفليها «ملك» و«محمد»، كانوا يلعبون الاستغماية فى قاعة العرض، وتشجعت مريم ووقفت أمام شاشة العرض وبدأت فى تقليد رقصة وغناء هيو جاكمن فى فيلم «أعظم رجل استعراض فى العالم» وتبعها أبناء خالتها فى تقديم فقرات فنية مرتجلة وضاحكة. فى طريق عودتنا على كورنيش المعادى، أخذت تردد مقطعا من أغنية: never enough وكانت ترثى حالها: too much too much is never enough.
فى ألمها عاشت عامًا كاملًا، ما بين سبتمبر الصدمة والسعى لمخرج وما بين سبتمبر الاستسلام وتمنى الخلاص، مرت علينا كل فصول السنة فعرفنا كيف يكون الألم قاسيًا حادًا فى الشتاء، مضجرًا مملًا فى الصيف، برائحة الحرائق فى الخريف، بطعم العلقم فى الربيع.
أعرف أننى متطلعة ولدى توقعات كبيرة، ولكن علىّ التمهل والصبر، سأتفهم تأخرها فى التواصل معى، ولأننى لم أكن لأنازع الناس مكانتهم ولا مراتبهم، سأنتظر أن تزور ماما أولًا، لكن أمى سيدة كتومة، لم تجبرها الحياة على البوح أو الفضفضة.. لا أعرف كيف أسألها؟، ربما تتجلى معجزة فقدك.
فتقطع ماما حديثًا اعتياديًا بيننا وتقول لى:
– إيمان جاءت لى فى الحلم.. كانت لابسة أبيض فى أبيض ولديها جناحان تطير بهما، وكنت أسمع صوتى يناديها: إيمان، إيمان،.. لكنها لم تكن منتبهة لى، كانت تلعب وتطير من شجرة لشجرة وقبل أن أتضايق لأنها لا تسمعنى، قطفت وردة ومدت يدها لى.
حينئذ سأنتظر دورى الذى لن يغيب.
2
أمى غارقة فى الحزن، وأنا غارقة فى الهذيان، سلبنى الألم قدرتى على حزنى، تسيطر على ذهنى أغنيات غربية، لا أتذكر متى سمعتها أو من يغنيها: «ياللى اسمك أحلى من كل الأسامى، من بعيد لبعيد باوصلك غرامى»، وأضبط نفسى أرددها، أرددها بصوت مرتفع وأنا أرتب سرير «مريم»، وأنا أكوى بلوزتها المدرسية، وأنا فى انتظار أن تجيب أمى على هاتفى، وأنا أقلّب فى ديوان «ريلكة»:
يصير المساء على الأزهار ثقيلًا
الأخوات يقفن فى حياء
ولا يحركن أيديهن
ويصغين طويلًا ويبتسمن بخواء
وكل واحدة تتشوق: تُرى، مَنْ يكون عريسنا؟!
هذا الخواء لا يشغله سوى قبر أخضر، تستقر عليه ثلاثة شواهد من الرخام الأبيض، مكتوب عليها بأسود زاعق: الحاجة «حميدة حسن إبراهيم»، توفيت ٢٧ رمضان، وحفيدتاها الأستاذة: «هناء عرفة محمد على»، توفيت ١١ ذو الحجة، الأستاذة: «إيمان كمال النجار»، توفيت ٩ محرم.
يختار القدر لعائلتى أيامًا تذكارية للموت.. ظللتُ فترة طويلة أتوجس خيفة من قدوم شهر رمضان بعد أن توفى جدى لوالدتى فى رمضان ولحقته جدتى فى رمضان التالى.. ظللنا نفتقد العيد، نفرح إلا قليلًا، نبتهج إلا قليلًا، نعيّد بحساب مراعاة لمشاعر أمهاتنا.. فى خلفية الفساتين الجديدة والبالونات الملونة، والشريط الأسود الذى يعلو الصور التى تتزايد على جدران «غرفة الجلوس».
غافلنا الحزن عشرين عامًا، لكنه عاد، جاء فى أحد أيام «وقفة عرفة»، وبينما تعبر صبية الطريق، صدمتها دراجة بخارية، نزفت حياتها على الرصيف، دخلت فى غيبوبة يومين، تركت لنا يوم العيد.. زيناه بالترقب، بالرجاء، بالأمل، لكن أضاحينا لم تكن كافية، وأيام التشريق كانت ممتدة.. وصعدت ثانى يوم للعيد.
الجدة والحفيدات، يرحلن، ويبقى الشقاء للأمهات اللاتى تصرخ ملامحهن بحزن مشوب بسؤال: « لماذا لم تكن أنا؟!».
كل واحدة من الصبايا كان يمكنها أن تكون.. منذ عرفتُ بإصابتها بالورم الخبيث، يسيطر علىّ إحساس بالذنب، إحساس مَنْ نجا من سفينة غرق كل من فيها، إحساس بالخزى، بثقل الدين، أنا مدينة لها، نحن كل الحفيدات مدينات لها، فقد فدتنا وقدّمت قربان جيلى من بنات خالاتى للسرطان، للمرض الخبيث.
يا لا شقاؤنا، فنحن نساء عائلة علينا أن نكون حذرات فى المحبة، وأن نحتضن بناتنا وأرواحنا مصلوبة على خشبة الاعتذار، دون قدرة على الندم، فعبر جيناتنا نورث بناتنا الألم والعذاب.. عبر جيناتنا نورثهن خلل الموت.
ونحن ورثنا الخلل من جدتنا التى أصابها «سرطان الثدى» وماتت وهى فى الثانية والخمسين من عمرها بعد أن تعرضت لعمليتين، ماتت جدتى وكنت فى العاشرة، فلم أربط بين موتها وبين مرضها الخبيث، ذلك أن جدتى بعد الجراحة عادت تعيش حياتها بشكل عادى، كما تسعفنى الذاكرة، وربما لا تكون تلك الحقيقة، ربما كانت قدرة الكبار على التخفى خلف أقنعة الحمد والرضا التى يمكنها أن تغرر بطفلة صغيرة وتفصلها عن الواقع.
شقيقتى كان سرطانها السبب المباشر لوفاتها، غيّر «السرطان» حياتها تمامًا، وظلت الحياة فيها تتدهور يومًا بعد يوم، كنتُ أكتب لطبيبها وأنا أشاهد عذابها: ما هذا الوحش الكاسر؟! ما هذا الكفر؟!، كان وحشًا يلتهم روحها وأعضاءها، شبابها.. فى أيامها الأخيرة كانت تصرخ: إنه يكسر ضلوعى.
وكنا عاجزين.. بعد ١٩ جلسة علاج كيماوى، أظهرت الأشعة والتحاليل أن الخلايا السرطانية لم تستجب للعلاج الكيماوى، وأن بؤرًا سرطانية تتكون فى مناطق أخرى.
كل هذا الجنون، كل هذا الهذيان تم خلال شهور.. بدأنا الرحلة يوم الجمعة ٢٩ سبتمبر ٢٠١٧، وفى ليلة السبت عرفنا نوعًا من الألم، لا تسكّنه حقن «الفلدين»، «البسكوبان»، «الفولتارين».. كل المسكنات الشرعية داخل الجدول، كان الألم قد تمرد على سيطرتها، وانطلق يعيث فى أعضاء الشابة فسادًا، وعرفنا فى تلك الليلة السوق السوداء للمسكنات الممنوع صرفها إلا بروشتة طبية عليها ختم النسر، كنا ليلة السبت وكان النسر قابعًا مستكينًا فى أحد الأدراج.
وعن طريق الصلات والمعارف، استطاع شقيقى الحصول على «لصقة مورفين»، احتاجت لصقة ٥٠، وعلينا أن نكررها كل ثلاثة أيام، سيتصاعد كونشرتو الألم حتى يصل احتياجها اليومى من مسكّن المورفين فى صوره المتعددة إلى وضع لصقات Durogesic، مجموعها ٢٥٠، تتغير كل ٦٠ ساعة، أى يومين ونصف اليوم، وست حبات mst، و٤ حبات oxynorm، و٤ حقن مورفين عند الحاجة.
(معلومات إثرائية – أدعو الله ألا تحتاجوا لها- لصقات Durogesic.. تتوافر منها معايير ٢٥، ٥٠، ٧٥، ١٠٠)
شهور فى العلاج الكيماوى والمسكنات، وفى أول مايو، قررت أن توقف العلاج الكيماوى.. سألتنى، لم أعرف ماذا أقول لها، أنا التى أخبرها الطبيب بأن شقيقتها الصغيرة لم يتبقَ لها من العمر سوى شهرين إلى أربعة أشهر.
هل أصدق؟ هل أكذب؟
لا أعرف.. لو أن لدى عينًا ثالثة استبصر بها ما وراء الأشياء، لو أن «كوشينا»، قطتنا، تعيرنى روحها، فأسمع حين تقف متحفزة، وتوجّه أذنيها صوب ما لا أسمع، تقف على قدميها الخلفيتين، وتستند على الأماميتين، وتوجه نظرها فأرى ما لا أرى.
هل أصدق؟ هل أكذب؟
«إيمان» لا ترد.
يقولون إذا أحببت شخصًا اترك له حرية التواصل معك، لا تضغط عليه، رسالة واحدة قد تكفى.
«عزيزتى إيمان.. هل أنت بخير؟».