إيجاد الموديل.. “حكاية لقاء فني”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شكري الميدي أجي

1

"أستغرب من الذين يثقون بالملائكة -هذا ما قاله المذيع مازحاً ثم أضاف- بالنسبة لي، أولاً بأول وبنفسي أسجل حسناتي". لم يكن يستمع للإذاعة باهتمام. كان يتأمل فتاة بملامح شبه ممسوحة بجمود التماثيل الرومانية، تقف خلف طاولة مستطيلة الشكل، عند زاوية شبه مهملة، تعرض عاديات بألوان مختلفة بدتْ كمن تحمل العالم على رأسها. عثر عليها قبل مدة، واصل مراقبتها خلسة وبأسلوب مرضي للغاية، لم تُفقده متعة الإحساس بالرعشة الأولى للحب، بالرغم من أنه كان أبعد ما يكون عن العشق، إلا إنه سُحر بها تماماً. 

واقفة هناك بصمت مقدس، تُحيط بها هالة ضبابية كأنها عارضة ضمن جوقة منتهية من زمن الستينيات، تُدهشه حركات يديها، ابتساماتها التي ترتسم على شفتيها مجاملة لبعض الزبائن الذين يشترون منها معروضاتها الصغيرة والرخيصة، عشرين قلامة أظافر، عدة أحزمة من أمواس الحلاقة، خمس قناني مزيلات العرق، مجموعة من المرايا الدائرية الصغيرة بألوان مشتعلة عليها زخرفات بلاستيكية تاجية، وأعواد السواك المعوجة المجلوبة من الأراضي المقدسة، لحظات باهتة فيما يواصل المارة العبور من أمامها بلا أدني اهتمام، لوهلة صغيرة يدخلون زمنها الباهت، فيفقدون مظاهر زمنهم الحالي، هيئاتهم وألوانهم الفاقعة لثواني معدودة، ليعودوا أنفسهم من جديد إلا إنهم لا يُظهرون تأثراً قط، لا يبدون منتبهين لكل ما يحدث لهم من تغيرات متعلقة بالزمن، غاية في الإدهاش والجمال. هو فقط من يرى تفاصيل الفنية لتبدل قامات النخيل بالقرب منها، عودتها لتصبح فسائل قزمة تحتج بشغب طفولي، اختفاء الوهج الرمادي للأجواء كانهم أصبحوا محبوسين داخل صورة من الثمانينيات حيث تُرسل -الذكريات الواهنة أثناء الغروب- شعاعاً ذهبياً كامداً وساحراً، مشبعاً بالرطوبة المنزلقة مع الرياح الدافئة بحمى الأجساد داخل المدينة الصاخبة، متجهة بجنون صيفي نحو الشاطئ الرملي القريب، لتتلاشى بصمتْ بين كثافات الزبد الأبيض والمنفوش للأمواج. “تخيل حدوث شيء رهيب مثل هذا -قال الضيف في البرنامج الإذاعي متحمساً للمذيع- أصابع نحيلة بارعة لعزف البيانو في يد شاب سلفي”. ضحكة عالية استمرتْ لثواني.

2

أخرج كاميرا كانون 1200D ركزها على ثوابت حديدية بالقرب من ذراعه المتشبثة بالنافذة السيارة المفتوحة، تنفس بإنتظام وأغمض عينيه ثم فتحهما مجدداً باتساع الدائري والمعتم للعدسة، بعد أن أرجع كرسيه للخلف ومدده للأسفل قليلاً، مرتكزاً بإحدى ركبتيه على المقود المغلف بالجلد، مستعداً للإلتقاط صورة أخرى جيدة، بالرغم من أنه مبتدئ في التصوير إلا إنه التقط المئات من الصور الجيدة عبر شوارع المدينة. العشرات منها حول الزاوية التي تقف عندها الفتاة يومياً. زاوية باعثة على الحزن مماثل لتلك المشاعر العتيقة التي خلفها وراءه جندي أوروبي مجهول من الأربعينيات، عندما وقف بثبات في ذات الزاوية، حلم للمرة الأخيرة قبل أن يتلقى رصاصة في الرأس لينتهي كل شيء بالنسبة إليه، لكن كل شيء لن ينتهي بالنسبة للصورة الدرامية التي التقطتْ له لحظة مقتله، كل شيء ظل كما هو دون أدنى تبديل. و يمتلك تلك الصورة التاريخية. بحث لسنوات عن لقطات نادرة مأخوذة عند تلك الزاوية بالذات. منذ ما قبل العشرينيات، شيء ما قدري كان يدفع المصوريين الأوروبيين للإلتقاط صور تغدو -فيما بعد- تاريخية لأناس يقفون دوماً عندها بحزن بالغ. هذا التقليد أصبح بمثابة طقس ديني. “اسمعني، عندما يبدأ عازف ما بارع بتحفته الفنية، لا تنظر إلى وجهه، فهذا يُفقدك المتعة تماماً”. هذا ما نصح به الضيف معقباً على حديث متصل مجهول حول متعة الاستماع لعازفي الكمان. ما هي المتعة؟ تساءل الضيف وبعد لحظة صمت اجاب نفسه على الهواء. طفل تائه يشعر للمرة الأولى بلذعة الذنب، هذا ما قاله مضيفاً، الله حرم الموسيقى. عاش هذا الجنون الروحي بدوره. الله حرم التصوير. أخبره داعية ديني. كان قام بالتقاط صورة له. لماذا استعاد عقله هذه الذكرى؟ أحياناً يعمل عقله لوحده بلا قصدية منه، هذا يربكه للحظات قليلة يعاني بسبب هذا الإرباك، ليس دوماً يعاني بسبب جموح عقله، مثلاً هو يغدو في قمة البهجة والطفو عندما يتحول مشهد ما أمامه إلى إكتساب تحولات زمنية متناسقة بحيث تشكل عالماً فنياً مدهشاً غاية في الفرادة. عندها لا يعود أمامه شيء سوى المراقبة الدقيقة لكل التفاصيل التي تكشف عن ذاتها متفجرة ضمن شرارات مثل جنيات ايرلندية صغيرة وخضراء، تُحلق في دوائر مضيئة مخلفة ورائها نثاراً سحرياً من عالم الأساطير. إنني أحب هذا. يُردد لنفسه بخفوت مقاوماً شدة النشوة. إنني أحب هذا. متمعناً في كل تفاصيل الدقيقة ضمن تلك الأحلام التي يراها. إنني أحب هذا. النثارات الحلمية تفجرتْ أفكاراً فنية داخل ذهنه متشكلة حول الصورة المثالية للفتاة. إنني أحب هذا. أدرك جيداً بأنها جزء من كل ما كان متعلقاً بأساليب اعتبرها دوماً قدرية، دفعتْ في النهاية العشرات من الأوروبيين لقطع الآلاف من الكيلومترات من أجل التقاط صورة عند زاوية مهملة أو تلك التي تبدو مهلمة.

3

تصويره للفتاة كان يبدو مهمة تاريخية من هذه الناحية، إلا إنها ظلتْ شخصية أيضاً -لسبب ما غامض- متعلقة بتبدل الأيام والفصول، خيال أم أحلام؟ فأثناء الشتاء تبدأ -الفتاة في صورتها الأبهى والمحررة من الزمان والمكان- بإرتداء معطف صوفي رمادي اللون بياقة ضافية من الفرو. وفي الصيف تكتفي بالقميص الكاروه ذي التربيعات مع سروال جينز ضيق، يُظهرها بأتم الإستعداد ليوم كامل من النزهات، لكنها لا تتحرك من مكانها إلا لمسافات قصيرة وبقلق مفرط كظبية بين شجيرات الغابة ذات تحركات أنيقة، برباط وردي فاتح من قماش على رسغها الأيسر -ماذا أرادتْ أن توحي؟ تساءل مراراً- التقط لها بإتقان المحترفين صوراً بانورامية أعتقد بأنها جيدة كفاية، فهي لم تكن تستهدف ملامح الوجه تحديداً، فضمن صوره السابقة من بعيد بدتْ مثل تمثال روماني بلا ملامح خاصة، بدتْ ملحمية. “أنت ترى مساوئ مثل هذا الوضع، عازف بيانو بارع داخل دولة غارقة في مستنقع الحروب الأهلية المتوالدة، مسألة جنونية”. هذا ما قاله المذيع بمأساوية. “والدته كانتْ فنانة، ممثلة إغراء -أوضح الضيف المتحمس طوال البث الإذاعي بصوت متواطئ- قررتْ يوماً أن تعيد صنع الرجال صرحتْ بهذا أثناء لقاء قديم في إحدى صحف الستينيات. قالتْ بأنها سئمتْ من الأوغاد الذين يستغلون النساء الضعيفات، كانتْ ضعيفة أيضاً، فقامتْ بإرسال ابنها إلى فنان ضرير متقاعد، ليتعلم الفن فيصبح لطيفاً وانساناً، أردات منه خلق إنسان جيد، لكنه تعلم أخلاقيات دينية متشددة من جار الموسيقي، هذه سخرية قدرية”. أعاد الكاميرا إلى الكرسي بجانبه. ضحكات متصلة مصحوبة بسيل متداخل من الكلمات غير المفهومة أطلقها المذيع والضيف معاً.

4

أخرج علبة سجائره، سحب واحدة، أشعلها بحركة ماهرة -بالنسبة لمدخن غير متمرس- نفث دخاناً كثيفاً، ملأ الشارع، أمام عينيه بضباب متراخي. تمعن للحظات ما كان على وشك الخوض فيه، ألقى بسيجارته وتقدم بهدوء، غاص في ضباب من الشكوك كمن يغوص بين ستائر من حرير ياباني، أخذتْ تنزاح بانسيابية وصمت حتى غمرته مشاعر اليقين بأكمله. خطواته التي تُدق على الإسفلت المعتم، تُصدر صوتاً مكتوماً لخطوات ثوري غاضب يجتاز بهواً خالياً ضمن مبنى حكومي على الطراز الاستعماري، إنه يعيش مزهواً داخل رأسه بصحبة ذكرياته، كل خطوة تعيده إلى الوراء، إلى فوهة معتمة يُدرك بوجودها حتماً، إحساس غامض بالخوف يمنحه رغبة بالإسراع، بالإبتعاد، لم يفعل ولن يفعل. حافظ على وتيرة سيره فيما كانتْ الفتاة تُحدق مباشرة في وجهه من وراء الطاولة المستطيلة. ترك زمنه المتألق عند سيارته العسكرية، غاص ضمن الثمانينات، تلك الصورة الباهتة التي عثر عليها لزاويته التاريخية ضمن مجموعة صور عتيقة للمدينة عند أحد أصدقاءه الإفتراضيين من الفيس بوك ظلتْ واضحة داخل ذهنه. كل شيء باهت من حوله ومغلف بالحنين. كل شيء تغير مع تبدل الأزمان إلا ملابسه العسكرية ظلتْ كما هي ولم يغيرها الزمن. وقف أمام الطاولة المكتظة بالمعروضات الصغيرة وباعتدال عسكري صارم. رأى في عينيها الهيبة التي توقعها، كانتْ معتمة، الهيبة التي خلقها بأسلوب سيره وتصرفه الفوقي المتعمد والمعتمد أساساً على لباسه العسكري، سترته الواقية من الرصاص، مسدسه المثبت داخل جراب جلدي أسود على فخذه AK-47 المعلق بفحش على كتفه، نظارته المعتمة تمنحه دوماً مظهراً أمنياً، بجسده الرياضي، اكتملتْ شخصيته البوليسية مثلما أحب دوماً أن يوحي للناس من حوله، بوليسي ويُشكل خطورة. ملامحها لم تعد جامدة ولا ممسوحة، عندما اقترب منها بدتْ أكثر وضوحاً بعينين واسعتين تُعبران عن نضج مبكر، خصلات من شعرها انسابتْ على وجهها الطفولي بإهمال أنيق ومتعمد، بعد أن تحررتْ من أسفل وشاحها المرخي على كتفيها، لتبدو بشرتها أشبه بتربة مروية، مغرية بأطرافها الناعمة، وفي يدها الأخرى ساعة بحزامين نحيلين ومزينين بإكسسورات فضية متدلية، تشكل مع لون بشرتها تمازجاً عظيماً للألوان والفلسفات بالإمكان التقاط صورة ستعد بلا شك تحفة فنية ليدها النحيلة بأستاذية، بإمعان عاين المعروضات الصغيرة الموزعة على الطاولة.

5

رفع قلامة أظافر عليها صورة لفتاة من الريف الهولندي، ترتدي ملابس وردية فلكلورية، بشعر ذهبي وبابتسامة ناصعة، ودسها في جيبه ووضع عشرة دنانير على الطاولة وأعلن بأنه لا يُريد الباقي. هزتْ الفتاة رأسها، سحبتْ الورقة النقدية وأبقتها بين يديها، ولم تبد أي حركة مفهومة. وجهها الدائري المكتنز حافظ على هدوءه، يديها كانتا ساكنتين تماماً ومرتخيتين عند مجمع ساقيها بأسلوب دفاعي محبب، لم تكن تتعدى الثامنة عشرة، شاهدها للمرة الأولى وهي تمشي وحيدة على الرصيف وسط المدينة، لحق بها حتى وصلتْ لتلك الزاوية، أحس بانقباض عميق، لم يكن رآها من قبل، كان يُدرك بأنه ليس عاشقاً ولم يكن منجذباً برغبة جنسية، تفاصيل صغيرة فيها، جعلتْ منه مسحوراً بها، بأسلوب فني منذ عدة أشهر كان يبحث عن موديل يشتغل عليها في التصوير، كانتْ الفتاة تجمع في جسدها الصغير الأنيق جميع تصوراته الأولى عن فنه المزعوم وما تخيل لنفسه وما حلم به. لم تكن مرتعبة، بل هادئة تماماً، لا بد بأنها توصلتْ لقرار مهم، نظرتْ إليه باهتمام، كأنها ترى ما في أعماقه أو إنها تزن تلك المشكلات التي ستوقع نفسها فيها بإرادة واعية، هزتْ رأسها ببطء. أكدتْ بأنها موافقة على عرضه وبالمبالغ التي وعد بها، وإنها موافقة على أن تكون موديل في جنونه الشخصي. كان عرض عليها مبالغ ما بين ألف حتى ثلاثة آلاف من الدنانير مقابل الجلسات الأسبوعية، لعدة دقائق وقف هناك يُحدق فيها، دون أن يُظهر حماسه وابتهاجه من الداخل. أخبرها بأنه سيلتقي بها أمام الحديقة العامة ومن هناك سيصطحبها إلى حيث فيلا قال بأنه يمتلكها. اتفقا بلا تعقيدات على الموعد مؤكداً على إنها لا بد أن تنتظره قليلاً، كانتْ رغبة بلا معنى، لكنها وافقتْ بلا مزيد  الاهتمام المزيف، بدتْ انتحارية ومغامرة. أعجبه هذا. نزع نظارته المعتمة من على عينيه ثم أخذ يتطلع إليها بإمعان، ببلاهة تامة بدا غير مصدق لنجاح محاولته دون اللجوء إلى العنف الجسدي، ابتسمتْ ونظرتْ باتجاه صديقتها عند الطاولة الأخرى، بدتْ كأنها تطلب تفسيراً معقولاً لما كان يحدث. عبثاً. إعاد وضع النظارة. استدار متجهاً نحو سيارته. أدار محركها وحلق بها خلال الطريق بثبات من يمتلك وجهة حقيقية وواضحة، إلا إنه كان تائهاً ضمن عالم ضبابي من البهجة الروحية.

6

“إقتناع تام بالوجود -قال الممثل بافتعال صوفي خلال المسلسل الإذاعي- إقتناع تام آخر باللاوجود، إقتناع تام آخر ثالث بالموجود، إقتناع تام أخر رابع باللاموجود، عدة إقتناعات وعدة تناقضات، وفي النهاية لا شيء موجود وكل شيء بلا وجود”. بالرغم من كل هذا التضليل الفني، فإنه دوماً كان يجد الحكمة ضمن الأحاديث الإذاعية، إنها موجودة وكامنة ضمن تلك الأحاديث المرسلة، كلما غدتْ الجمل أطول بكلمات أكثر كلما كانتْ مادة الحكمة أكثر وضوحاً. الحكمة مشحونة داخل الأحاديث الأذاعية. انسابتْ الكلمات عبر روحه، أعادته إلى بهجته الأولى مع ملمس الضوء الدافئ على جسده، مسلك صوفي للغاية، هو ما انتهجه. أغمض عينيه برغم من سرعته الجنونية على الطريق الرئيسي، أنعتقتْ روحه لوهلة وشاهد الحقيقة مضيئة عند نهاية النفق بمثابة بوابة كونية متخيلة. فتح عينيه ببطء متعمد. استعاد انتظام أنفاسه وواصل التحليق بعد أن أنزل النوافذ جميعها بحيث أخذتْ الرياح تهب عواصف صغيرة داخل السيارة، مصدرة هديراً وحشياً وهي تدق بهستيرية على كتفيه من الوراء. في تلك اللحظة أخذ هاتفه يرن. في البدء قرر تجاهله، وهو ما فعله حتى توقف الرنين المزعج، كان وصل لطريق الدائري الثالث، بابتهاجه المفاجئ، دار حولها مرتين، وفي نهاية الدورة الثانية، وصلته “رسالة نصية” برنين متتالي. أوقف السيارة على جانب الطريق وفتح الرسالة.

7

كانتْ عبارة عن إحداثيات رقمية لموقع جغرافي موضح ضمن أرقام حيادية، لم يعرف المُرسل فرقمه أيضاً كان مجهولاً فيما هو يتطلع للأرقام الغريبة والفواصل العشرية مع الأحرف اللاتينية، انتفض بسبب رنين الهاتف في يده. صوت من الإذاعة كان يُعلن بدرامية عن زيف الموجودات الأرضية بالنسبة لحقائق الملكوت الإلهي، أسكت الصوت الدرامي، رفع زجاج جميع النوافذ، ولم يعد هناك إلا صوت الرنين الهاتف الحاد والمتواصل بشبه أبدية. ضغط على زر الرد موجهاً كامل اهتمامه من أجل فهم تلك المكالمة المُلحة، قابلية الفهم لديه لم تكن جيدة تلك الفترة، كانتْ مشوشة برغبات قاتمة. كان صوتاً مشوشاً هو ما سمعه، شخص ما مجهول يتحدث بسرعة محمومة بحيث بدا مرتعباً ومنقطع الأنفاس بجمل غير مفهومة، ظل يُردد كلمات بعينها، إحداثيات، إحداثيات، هذه إحداثيات، الأمانة، الأمانة الإحداثيات، وقعنا في كمين، نحن متنا، وقعنا في كمين. أحياناً كان صاحب الصوت يشرع في البكاء. لم يرد عليه مطلقاً، بل ظل يستمع إليه فحسب، يستمع كأنه يستمع لمشهد تمثيل إذاعي، إننا سنقتل، سنقتل ثم يبكي بإصرار رهيب من أجل إظهار فاجعة ما ستقع بلا شك، فاجعة لا تُريد إلا أن تُظهر ذاتها لكنه مقتنع بأنها حقيقة معاشة واستمر هذا النواح البشري الناصع لنحو ثلاث دقائق كاملة، قبل أن يصرخ عالياً كحيوان بري محاصر، بجنون يائس فيما استمر مؤكداً دوماً على أهمية تلك الإحداثيات البائسة التي كان يُرددها تباعاً مع اسم أنثوي. بعدها انتهتْ المحادثة كأنها لم تحدث. مرتْ دقائق وهو في حالة صمتْ ثم أعاد بعدها الاستماع للمكالمة المسجلة ثلاث مرات متتالية وبذات الاهتمام البارد.

8

أدار محرك سيارته وانطلق ببطء متجهاً نحو بيته، فوجد نفسه أمام ثكنته العسكرية. ليستْ ثكنة حقيقية، أو بالأحرى لم تعد كذلك مؤخراً، فالثورة التي اجتاحتْ المدنية خلال المدة السابقة، جعلتْ من الثكنة التي عُرفتْ ضمن الأعمدة الصحفية بباستيل الأقليم، هدفاً رئيسياً لها، استغرق الهجوم أربعة أيام بلياليها لإسقاطها، الكثير من الضحايا والمشاهد الدرامية المؤثرة، ومع نجاح الثورة تم هدم الأسوار الضخمة للمعسكر انتقاماً، حطمتْ المهاجع، قوضتْ غرف التحقيق وردمتْ الأنفاق ونفس الشعب عن غضبه بإحتلال بعض المساحات منها بمثابة حدائق عامة ومساحات أخرى تم وضع اليد عليها لبناء منازل شخصية على امتداد الجانب الغربي من المعسكر سابقاً، تصطف عدة منازل باهتة وبلا أي سمة معمارية، متباينة في الشكل والحجم فيما تم استغلال ما تبقى من مساحة المعسكر، الجزء المتعلق بالمباني الإدارية عند الجانب الأكثر صلابة والأقرب إلى الوحدات السكنية، كلها أصبحتْ تابعة لفصائل الثوار، في البدء حدث تنافس عليها، فوقعتْ عدة مواجهات ليلية، ذهب ضحيتها بعض الشبان، بعد ذلك وُقعتْ اتفاقيات بموجبها تم تقاسم المباني بهدوء، ورفعتْ فوق كل منها راية مختلفة، بعضها تعود لجماعات ظلامية متشددة تعاكس -البعض برى لانها تعكس- التوجهات الأساسية للثورة، كان بوسعه رؤية الرايات المعتمة المرفوعة في مواجهة مقرهم. اتجه بهدوء ناحية ثكنته التي هي عبارة عن مساحة شاسعة بها عدة مقطورات وسيارات مسلحة متوقفة في صف قصير يسمونه رتلاً وهو لا يتعدى سبع عربات مسلحة بمدافع متوسطة، متوقفة دوماً بذات الترتيب بحسب اللوحات المعدنية، خصلة مرضية، أن يهتم شخص ما بترتيب العربات المسلحة بهذا الأسلوب السخيف والمضحك، بلا شك هناك العشرات من هؤلاء ضمن الثكنات العسكرية المنتشرة في شوارع وأحياء المدينة، يعتبرها البعض خلايا سرطانية تتوسع ولا تتوقف عن الانتشار والسيطرة.

9

في البدء كان صعباً عليه التقبل نفسياً بإنه واحد من هذه الخلايا السرطانية -بحسب وصف الإعلام المضاد آنذاك- بمرور الزمن أصبح الوضع متعلقاً بالشخصية التي يعمل على ببنائها، اتجه إلى المقطورة الأضخم المعدة بمثابة مهجع لفرقتهم الصغيرة المكونة من عدة أفراد -كان انتهى من الإدراك بأن الإعلام المضاد محق تماماً- شخصيات تائهة ما بين الثورية والجنون تحركها تلك الرغبة الجامحة والمستحيلة للإنضباط العسكري المستمد من النظام الديكتاتوري. داخل المقطورة تجمع لخمسة من الشبان المتحمسين، العدد الأقصى في النوبات الحراسة الأقرب لساعات بلا نهاية من الأحاديث المتشعبة، هذا أفضل من حراسة شخصين أبلهين حيث تنتهي الأحاديث دوماً إلى الملل والتأمل الميتافيزيقي للحياة، إنها خسارة روحية لا يستطيع تحملها. “ليتك كنت معنا -قال أحد الخمسة فور رؤيته، كانوا يضحكون بابتهاج وحماس، يسمون أنفسهم بالقراصنة، لأن أحدهم ناجح في قرصنة الأفلام- قمنا بمداهمة حقيقية”. جلس على كرسي المخصص له. جال ببصره بحسب العادة واستند على الكرسي مرجعاً إياه إلى الخلف وتمطى مثل قط متخم. سمع عن التحضير للمداهمات قبل يومين، لذا أقفل هاتفه وأخفى نفسه تماماً -لم يكن هذا يُسبب له أية شبهة، فتاريخه مشرف- ففي النهاية هو لا يُريد خسارة روحه، لا يمتلك سواها، ليس تبريراً، فقط للسخرية -لم يعد مقتنعاً بالنتائج الضئيلة- هذا هو الجانب الساخر في شخصيته. المقطورة مترامية وجيدة الإضاءة. عدة كراسي بلاستيكية وطاولة خشبية مستطيلة عليها أوراق مجدولة مع أجهزة الحاسوب الخاصة، شاشة متوسطة الحجم معلقة وتعرض عليها أفلام أكشن حديثة تضاهي في عنفها الواقع تماماً، فبعد فقدان السيطرة على الشوارع انتشرتْ العصابات المتكونة من العائلات المناطقية. عصابات يتزعمها أفراد ضمن مناطق نفوذهم العائلي بحيث تصبح مداهمتها مسألة معقدة، منذرة بحروب أهلية مستقبلية، لذا يتم أحياناً استخدام العصابات الأخرى في تحطيم سطوة بعضها البعض، ومن ثم تنظيف الطرقات باستخدام الفرق الثورية المجهزة، أحياناً يتم استدعاء العشرات منهم على نحو عاجل، ليصلوا ويقوموا بالسيطرة على منطقة النزاع، في الإعلام يُطلق عليهم تسمية قوى حفظ النظام. بدأ أحد الشبان برواية ما حدث، صدام هائل بين أشرس عصابتين في المنطقة الوسطى بالمدينة.

10

“سقط هنا قرابة عشرين قتيل -لخص صحفي ستيني بحماس شديد الحزن أحداث الحرب الشوارعية- عشر ساعات من القتال المتواصل، العشرات من الفرق الداعمة، من قوات التدخل السريع، تدخلتْ ثم انسحبتْ شبه منهزمة، إنها لعبة كبرى لا تُفهم بالنسبة للبعض، إنهاك تام تجسد بامتداد عدة شوارع ضيقة. أصبحنا داخل كابوس بيروتي. أزقة خلفية شبه معتمة، مباني مهدمة وخالية تقف بصمود سخيف، خيوط المياه تواصل الإنسياب لتشكل جداول نحيلة على الإسفلت الليلي الحزين، نقبع عند الزوايا الشوارع لنشاهد ما يمكن أن يحدث أيضاً”.

11

خلال تلك الأحداث تم قتل واحد من أعنف رجال العصابات بالمدينة. قام من كرسيه مقرراً الذهاب إلى البيت بسبب المرض. قصة مقتله مفاجئة بعض الشيء. كانتْ الشوارع شبه خالية. أخذ يتجول بصمت متفكراً في هدفه أولاً وأخيراً. وجد نفسه يُردد جملاً أدبية سمعها من الإذاعة المسموعة. أغنية وطنية بأسلوب عاطفي للغاية. زعيم مافيا محلي أراد أن يؤدب واحداً من المدنيين. هجم على بيت بُنى من القرن الثامن عشر، برفقة أربعة مقاتلين على سيارة مسلحة، بدا البيت عتيقاً جداً داخل زقاق ضيق. يُقال بأن الأوروبيين لم يدنسوا حرمة البيت احتراماً لصاحبه الذي كان تاجراً وواحداً من الأعيان. الاشتباكات أصبحتْ حدثاً يومياً وقد تم قتل الرجل بعد خلافات متوقعة، وكان هذا متوقعاً، ما لم يكن متوقعاً هو خروج صبي نحيل في حوالي الثانية عشرة من البيت المستهدف، مهاجماً بصراخ هيستيري وهو يُطلق باتصال من سلاحه الأتوماتيكي عشوائياً -مغمض العينين- مردياً الجميع ما بين قتيل وجريح بإصابات قاتلة بينما تلقى الصبي رصاصة في الرأس، خلال فوضى الجنونية إطلاق الرصاص، كان الحفيد الأخير للتاجر بمقتله انتهت سلالته.

12

بعد ساعتين من التجوال وجد نفسه أمام منزله في إحدى ضواحي المدينة. أسرته نموذجية. لم يعد يراهم كثيراً، بسبب مزاجه المتقلب، بدا بأن هذا أفضل لهم. داخل غرفته بشيء من الإلهام التكنولوجي، أدرج الأرقام والإحداثيات الجغرافية في محرك البحث، الإحداثيات أظهرتْ موقعاً بالقرب من قرية صغيرة تبعد قرابة خمسين كيلومتر عن المدينة، مرة أخرى بحث عن اسم القرية القريبة منها وبملل مريح حاول إيجاد معلومات أكثر وضوحاً، فعثر خبراً صحفياً عن مقتل ثمانية شبان، والفاعل مجهول. وجدتْ جثثهم مكدسة على متن عربة مسلحة بجانب إحدى الشوارع الرئيسية. أدهشه هذا الخبر. تاه بين صفحات مواقع التواصل الإخبارية ولعدة ساعات من البحث المهووس، رسم ذهنياً لوحة واضحة عن ما حدث هناك، في إحدى الصفحات المهتمة بالأخبار العاجلة وجد عدة صور ملتقطة للقتلى، شبان صغار في مقتبل العمر، لا يكبرونه ولا يصغرونه سناً، كانوا ما بين العشرين والخامسة والعشرين سنة. وجوه متعبة، أعين شبه مغلقة، حركة متوقفة، وضعيات منتهكة وبلا أي احترام أدامي، لكنهم لا يعرفون ما حل بهم، خيوط الدم منسابة ومتجمدة على جباههم، ملابسهم وعلى بطونهم التي انحسرتْ عنها ملابسهم، فإنكشفتْ بعري فاضح، متدلية ومندلقة بشكل قبيح مثل أكياس نايلون ممتلئة بالمياه وملقاة بلا اهتمام، مكدسين بإهمال فوق بعضهم البعض، بلا أدنى خصوصية، رأى رجلاً لأحدهم ولم ير يديه ثم انتبه بأن لباس الذي يغطي إحدى اليدين التابعتين لجسد الشاب المكوم في الجهة الأخرى، متاهة مريعة مبنية من الأجساد البشرية، لم يعرف كيف يتتبع الأجساد إلا بتتبع الملابس المنحسرة عنها ومختلطة بالأغطية القذرة الملقاة بشكل جزئي على الأجساد المكدسة بفوضوية. لحظة صمت أعقبتْ اكتشافه الرهيب استند على كرسيه إلى الوراء بما يشبه الاسترخاء. ظل هكذا لدقائق سرمدية يتطلع في شاشة جهازه، برزتْ التجاعيد الأخدودية في جبينه حتى ظهرتْ تلك الجعدة الرهيبة المتعلقة بالتفكير العميق بين عينيه ثم رسم على وجهه ملامح الخاصة بالتصميم، فقد حان الوقت للعمل الحقيقي، بدل التيه بين الفصائل الثورية من أجل حفنة قليلة من دنانير. آنذاك كان مضى على انتسابه لفصيله الثوري قرابة السنة، أصبح خلالها مقاتلاً أهلياً جيد التدريب. طوال تلك الليلة استمع للمكالمة المسجلة داخل هاتفه قرابة أربعين مرة. كان يُدرك جيداً منذ البداية بأنها ليستْ مزحة، ليستْ مزحة على الإطلاق.

13

عند الحديقة العامة، التقى بها، كانتْ ترتدي فستاناً قصيراً أو قميصاً طويلاً، بوشاح غير محكم على رأسها بحيث تُبقي شعرها المظفر مجمعاً أسفله، كانتْ عدة خصلات تتدلى بهيئة أفاعي رقيقة. وجهها بدا هادئاً بإضاءة الأخيرة من الشمس الواهنة. فيما بدا هو هادئاً، بلباس مدني وبسيارة كوبيه رياضية، من هناك، اقلها نحو الفيلا التي تحدث عنها.

14

كانتْ الفيلا موحشة، مثل قلعة شتوية عند الحدود. عندما نزلا أمامها، شعرتْ بالرعب ينزلق بارداً على عمودها الفقري. نظرتْ إليه مستنجدة، نظرة تحمل التناقضات كلها، في جزء من ذهنها كانتْ تخشى منه. بادلها النظرة مبتسماً بود كما يمكن أن يفعل أي شخص غريب في الشارع، مجاملة ضمن العتمة، تحرك بعدها بإشارة، شبه آمرة، فلحقتْ به، ممر طويل مفروش بالحصى اللامعة تحت الفيض القمري المنسكب كلعاب ضوئي. سارتْ خلفه بهدوء. لم يتحدثا طوال الطريق. راقبتْ مشيته التي أخذتْ تتحول لخطوات أشبه بالرقص، لم تعد عسكرية كما كانتْ في صباح نفس اليوم. أعجبها هذا لوهلة. صف منظم من أشجار النم العملاقة، تحف بجلال جنبات الممر الطويل، مخلفة ظلالاً شاحبة ضمن فراغات ضوئية رمادية لامعة. إحساس غامض يخلفه منظر انتصابها الملائكي مع حفيف الأوراق، بفعل نسائم رقيقة تركض عبرها بإنتشاء وأصوات الطيور تعلو بين فترة وأخرى. خطواتهما تُصدر أصواتاً مشابهة لتهشيم خيالي للعظام. الأوراق الجافة والهشة تتفتتُ تحت أقدامهما. أحستْ بالبهجة. طافتْ في ذهنها أغنية رومانسية. تصورتْ بأنه امسك بيدها، قبلها بحنان وود ثم راقصاً ومتلاعباً بمؤخرته سحبها بين الأحراش، سرعان ما ضحكتْ من نفسها، بضغطة ساحقة برموشها هشمتْ الخواطر الرومانسية وأعادتْ التطلع بصفاء ناحية نهاية الممر الأنيق، بدتْ الفيلا، أضخم وأوضح ضمن العتمة الشفافة. لسبب ما تخيلتْ فيلا كهذه عند ظهوره أمامها للمرة الأولى، منذ أول يوم شاهدته فيه، أدركتْ مثل هذا المسير الغارق ضمن الضوء القمري، شيء من الحزن والوحدة والتقدم نحو هدف بعيد، مشوار نحو العشق، ضحكتْ منها صديقتها في السوق، الأيام أثبتتْ بأنها محقة تماماً، فقد جاء إليها، سأل بقلق عن مبيعاتها الرخيصة. بدا ساذجاً مدعياً، في البدء، لكنها عرفتْ بأن هذا ليس إلا انطباعاً مخادعاً بتأثير من أحاديث صديقتها، أثناء زيارته الثانية تأكدتْ مرة أخرى بأنها محقة حيال مشاعرها. انتظرتْ لأسبوعين حتى فاتحها برغبته الغريبة، أرادها فنانة أو ما شابه. الضوء الشاحب يغمره، يسير بإنضباط تام مستغرقاً في أفكاره، كأنه داخل فقاعة صابونية تعزله عن بقية العالم وتسلبه من جهامة الواقع، هكذا بدا دوماً، داخل سيارته، كان يلتقط لها، أرعبها هذا قليلاً، ثم لم يعد يُرعبها -هذا الفعل- حتى قليلاً. أصبحتْ تسمح له بذلك، مدعية بأنها لا تعلم شيئاً عن ما يحدث، تتموضع باستعراض حقيقي، ترتدي يومياً أفضل ملابسها، تعمل بدأئب على خلق أسلوب فني خاص بها، كأنها أمام تجربة أداء فيلم هوليودي، معد خصيصاً لها، ما عليها إلا أن تقنعهم بأنها هي، لا أحد سواها، التي خلقتْ لأداء هذا الدور الخيالي. تبعد عنه بعدة خطوات، لا تستطيع الاستيقاظ من حلمها، فقط لا تستطيع الاستيقاظ، ليس منذ أن صارحها بحاجته إليها من أجل إتمام لوحات فنية. “أنا إبنة سوق”. قالتْ له بتردد. جملة سخيفة بلا معنى، لم يعرض عليها الزواج أو العشق، هذا بضبط ما قال لها، مبتسماً. أحياناً يحتاج الإنسان للحب، ليس لكي يُحب، بل ليفعل ما يُحب، من هذه الناحية، مثلها تماماً كان يتوق لفعل ما يُحب, صناعة الفن. عند نهاية الممر المفروش بالحصى اللامعة، شاهدتْ نافورة مضاءة وسط ساحة دائرية مفروشة أيضاً بالحصى، تخترقها صفين من الأعشاب الصغيرة والندية. بدتْ مسحورة جداً بالنافورة، رأى في عينيها المشرقتين تلك البهجة الطفولية. كانتْ النافورة مزينة بتصاوير إوزات جصية بيضاء في حالات مختلفة، منها على وشك التحليق وأخرى تدس رؤوسها الصغيرة تحت أجنحتها، إوزتين تتلامسان في حالة عشق أبدية تحت الفيض القمري الشاحب.

15

من وراء النافورة، بدتْ واجهة الفيلا كالحة أكثر، بلون رمادي مشوب ببقع سوداء هي أثار دخانية معتمة. الإهمال طال كل شيء في الجوار. هذا كان واضحاً. الحشائش على جانبي المدخل، جفتْ تماماً، بدتْ أطول مما يجب. تساقط الطلاء من الأعمدة التي عند الواجهة مثلما تساقط طلاء من على الباب الخشبي الضخم. الدروج المؤدية إلى الباب، متسخة تماماً. مكان مهجور منذ زمن. هذا ما يجده الزائر. هذا ما وجدته أمامها. تلاشى إحساس السحر الذي انتابها قبل قليل، عندما كانتْ تعبر الممر المفروش بالحصى، إحساس كونها أميرة ويلزية. وقفتْ تجول ببصرها خلال العتمة الشفافة، باحثة عن سحر جديد حتى النافورة، بدتْ ضخمة وموحشة، الطيور عليها أشبه بوحوش رابضة، تترقب لحظة تحولها، للعنات طائرة، بدتْ مثل غطاء لبوابة جحيمية أو فأل أسطوري سيئ. بخوف متجدد، ظلتْ واقفة عند الدرج الأول، فيما أخذ هو يصعد الدروج المتسخة بثقة بالغة، التفت إليها من أعلى الدرج السادس ربما، انتصب مثل خطيب ديني، تطلع إلى الأسفل، إلى حيث تقف بانتباه متوتر، أسفل منه بخمسة دروج. “هنا أقضي عزلتي، هنا أولد من جديد، دوماً خلف هذا الباب، يحدث السحر”. لم يكن يبتسم، لم يكن يرتجل، إنها جملة لم تولد بسهولة، بل تدرب عليها طويلاً. قبل أن تستوعب ما سمعته، طلب منها أن تشرع بالصعود، بإشارة ارستقراطية من يده، انصاعتْ للأمر الإيحائي، وبدأت الصعود وعينيها مركزتين على اليد الممدودة، حين اقتربتْ منه، مدتْ يدها إليه بحسب رغبته، فأمسك بها بثقة ملفتة، ساعدها على الوقوف بالقرب منه، نظر إلى عينيها باهتمام مفاجئ، ترك اليد، تراجع نحو الباب، بابتسامة غامضة، أدار المفتاح في القفل، دفع الباب براحتي يديه المفرودتين كأنه يضعهما على صدر إحدهن، دفع الباب بثبات للوراء، إلى الداخل، أنفتح مصرعي الباب الخشبي ليظهر عالمه المظلم. تقدم داخل العتمة، حتى تلاشى لوهلة فيما وقفتْ هي متهيبة عند المدخل المفتوح، سمعتْ صوتاً شبيهاً بنقرات متتالية، بالتزامن مع اشتعال إضاءات متتالية، أخذتْ تصعد متفجرة تباعاً وتنزل، حفلة من الأضواء تفجرتْ عبر الدروج الأفعوانية والجدران العالية المزينة بالزوائد البلاستيكية أو الزجاجية اللامعة، وإطارات المذهبة تحيط باللوحات الضخمة في الجانب الأيمن من المدخل، شاهدتْ هذا المنظر الرهيب، شاعرة بأنها فجأة وجدتْ نفسها أمام عالم طفولي، شبيه بالرسومات الكارتونية تابعتها أثناء الصغر، شيء مبهج وغامض وباعث على النشوة، كانتْ تُحس بأنها في أكثر أيامها غرابة، عملتْ على إغماض عينيها وفتحهما مجدداً، عدة مرات، لكنها لم تستيقظ، هذا كان جزء من حلم قديم، تقدمتْ بهدوء، كان يبتسم، بدا راضياً عن ردة فعلها الحماسية ومستمتعاً بالذهول الذي أصابها. عندما دخلتْ الفيلا، أدركتْ بأنه مكان مختلف عن أي مكان آخر عرفته، وإنها دخلتْ للتو، أرض العجائب، سرعان ما ألفتْ وجودها ضمنه، خلال ثانية واحدة، أحستْ بأنها تمتلك كل هذا الجنون الرائع. ضمن ذلك الحشد من الأشياء اللامعة بدتْ أقرب لإمتداد لإحدى اللوحات المعلقة أو نثاراً عرضياً ينقدح فجأة لدى إشعال الشموع الموزعة بإتقان هندسي على حوامل مثل شمعدنات من القرون الماضية، مزينة بأشكال كلاسيكية عند الزوايا الصالة المثمنة. هذا ما تأكد منه تماماً فيما هو يراقبها جالساً على كرسي بلاستيكي في هيئة عظام بشرية منحنية ومتداخلة، تلك الدهشة التي ظهرتْ على وجهها، حلم بها دوماً، رآها ضمن صورها التي التقطها طوال أيام وأسابيع، باحثاً بجدية عن ملامح مشابهة للتي رأها في تلك اللحظة السرمدية من تاريخه الشخصي. عبرتْ المنطقة المضأة، مقتربة من حدود المنطقة المعتمة، دون أن تعرف ما يوجد ضمنها، عادتْ، وقفتْ بإندهاش حقيقي أمام لوحة عملاقة لنملة نارية تحمل عالياً قطعة تشبه ماسة شفافة.

16

التفتتْ إليه. “لم تسألني عن اسمي؟”. قالتْ. كان يبدو مسحوراً بدوره، في عالمه الخاص، تغمره نشوة النصر. قام ودار حولها، وقف خلفها، واضعاً يديه على كتفيها، سحبها نحوه برقة. كانا أمام لوحة-بروتريه لفتاة إريترية تُحدق بعينين حالمتين. “هنا لا أهمية للأسماء -قال لها هامساً- أنتِ لوحتي وأنا رسامك”. أدارها نحوه، طيعة تماماً، بملامح هادئة. يُدرك جيداً ما يختزنه جسدها من تمرد. “أنتِ هنا لستِ سوى ما أريد”. قال. جعلها تلتف حول نفسها متفحصاً. شيء من عدم التقبل بدا عل وجهها. “قولي حسناً”. أمرها، ترددتْ قليلاً، ربما قلبتْ ما يحدث في ذهنها. ضغط على كتفها. “حسناً”. قالتْ أخيراً. هي تُريد ذلك وقد قالتْ ما أرادته. نزع عنها وشاح رأسها بحركة سريعة، ضفائرها انسكبتْ على هيئة أفاعي صغيرة. “كل جولة هنا -قال شارحاً- بمثابة صراع ضد كل ما عشناه خارج هذه الفيلا، كون مختلف، الداخل، الصورة النقية كما يجب أن تكون ونكون، ما لا نراه عادة. في الخارج ثورة، هنا الفن. في الخارج القتل، العنف، النهب والتعذيب. هنا استكشاف، معرفة، الحدود القصوى، الإتحاد، الحقيقة العارية، الإلتقاء والبحث عن الجمال الفعلي”. كان يدور حولها مثل وحش بشري، يتفحص فريسته قبل الإنقضاض، أحياناً تُظلل وجهه عتمة مفاجئة وأحياناً أخرى يبدو متوهجاً بالنور، كأنه ينبعث من داخل عينيه. بدتْ متفهمة لما يقول، لكنها لم تكن تستوعب تلك الصورة التي يحاول إيصالها، تبثتْ نفسها في مكانها وهي تُحدق في صورة فتاة إريترتية، بملابس مزركشة وذات رسومات أفريقية، أعين ضخمة وأنوف مفلطحة، وكفوف عريضة، تقارب الشكل الدائري إلا قليلاً. لم تكن تعي أين يكمن النقص في الشكل، رسومات تقديسية لعوالم قديمة لإثنيات مجهولة. هذا ما كان يُفكر فيه قبل مدة، حين أقدم على شرائها من إحدى المحال بمدينة ورزازات المغربية. لم تكن تعي كل ما يحدث حولها، بل أخذتْ تُفكر في أحاديث قديمة مع أختها الكبرى، بدتْ بأن هذا ما كانتْ تتحدث حوله. كان هذا قبل سنة تقريباً. سحبتها أختها الكبرى، التي كانتْ تعمل على نفس طاولتها في السابق، صارتْ فنانة قاع، هي لم تكن تسميها هكذا، بالنسبة إليها، أختها تكسب المال الوفير، لأنها جميلة أو تزعم بأنها جميلة، فقد كبرتْ وهي تُدرك بأنها ليستْ كذلك، فهي تمتلك جسداً رائعاً، لكنها تعرف جيداً، بأنها ليستْ إلا عاهرة أخرى في الشارع. هذا ما قالت الأختْ الكبرى لها في تلك الليلة. لم تعود صغيرة، لا تخافي من شيء، أنت تعرفين ما عليك فعله، تعرفين صحيح؟ ظلمة، وحدة، فراغ هائل هو ما أحستْ به في تلك اللحظة، مثل طير يسقط من السماء، وقد فقد جناحيه فجأة، فقدهما، ذابا كالثلج تحت الشمس دون أن يخلفا أثراً، سقطتْ ضمن عتمة ولم يكن هناك شيء، لا شيء، لا ضوء ولا إشارة ولا حتى لحظة إيمانية. في البدء ارتعبتْ، أحستْ بالفراغ، ثم لم تعد مرتعبة بعد أقل من ثانية -بدتْ أبدية- أجل، أعرف. قالتْ ولم تكن تعرف شيئاً. مع الأيام التالية اتضح بأنها كانتْ تعرف جيداً الكثير مما اعتقدتْ بأنها تجهله. فيما بعد تذكرتْ تفصيلاً صغيراً بلا قيمة عن نفسها.

 

ذكرى تائهة:

 

في إحدى الليالي، كانتْ ترقص وسط جمع غريب عنها، أدركتْ لحظتها بأنها ولدتْ لأجل هذا الهراء الليلي، أفزعها ذلك حتى الأعماق، كانتْ في الخامسة عشرة، لا شيء سوى مؤخرة صغيرة بحسب وصف الغرباء لها، فالذين كانتْ ترقص لأجلهم، ظلوا يسمونها تلك الليلة بالمؤخرة الصغيرة. هيا أيتها المؤخرة الصغيرة أبهجينا برقصة حقيقية. اسكبي لنا المشروب البارد يا المؤخرة الصغيرة. هل أنت ذكية في المدرسة يا المؤخرة الصغيرة؟ يضحكون بعدها بشبق محاولين الاقتراب منها، أختها تبعدها آنذاك بحجة إنها لا تزال صغيرة، عندها يأخذون بالاستعداد لخوض مغامرات البالغين. حسناً، حان الوقت للإنصراف المؤخرة الصغيرة، يقولون لها ضاحكين، فالوقت للمؤخرات الكبيرة، يقولون ويشرعون في الضحك الداعر. ربما لهذا أعجبتْ بمؤخرته المتراقصة والمتخيلة حتى تمنتْ أن تراه وهو يحركها برقصة أفريقية حتى هي تتموضع كفنانة بحسب رغبته.

17

أريدك رائعة، كوني متألقمة تماماً مع المشهد -هكذا قال منبهاً ثم أضاف- أنتِ الآن بمثابة أميرة أريترية. الحفيدة الجميلة رقم مئة-ربما- لأحد أحفاد الفراعنة. عليكِ أن تدركي هذا، أنتِ تدركين هذه الحقيقة، لذا تشعرين بالإعتزاز وبالرفعة. أنظري إلى هذا الرجل أمامكِ، إنه لا يعرف شيئاً، لا يُدرك قيمتكِ التاريخية. أنتِ أميرة، كل جزء منك احتاج لأكثر من ستين قرن لإنضاجه على هذا النحو البديع، كل جزء مغموس في النبالة والتاريخ، لكنكِ متغيرة تماماً، شعرك الذي كان قبل عدة قرون مرسلاً في كثافات محكمة بدبابيس ذهبية، وجهكِ النحيل بين جبلين معتمين ضمن اللوحات القديمة داخل الكهوف الأهرامات، لكنكِ لم تعودي كذلك، جسدك أكثر حرية، خصرك نحيل مثل ساعة رملية، التفتي قليلاً، أري مؤخرتك، أنظري فيما أنت ملتفتة، أترين تلك المشاهد، إنها الغابة، معتمة أليس كذلك؟ وراء الأشجار أعين تترصد، لا تقتربي، أوصتك جدتكِ فأنتِ هندية شابة، لا تقتربي من الأشجار وحيدة، لا تقترب منها بعيداً عن أعين الفرسان، فرساننا، هناك وراء الغابة حقد بارد مثل سحب رمادية، أترين؟ علامات القلق على وجهها، وهي تبحث في اللوحة مقدمة الغابة، أمامها على الجدار، تتموضع باسلوب جميل. يلتقط الصور فيما كان يدور حولها، يساعدها على رفع يديها، فتحس بأنه يحتضنها، هل يفعل؟ تشعر بذراعيه حولها، تشتم رائحته المشابهة لرائحة الوان البرتقالية والوردية والزهرية، يساعدها في تغير ملابسها، يلف الأقمشة الملونة حول خصرها، تشعر بأصابعه المجنونة تركض بوحشية على جسدها المندهش والسعيد، هل يغازلها؟ هل يفعل؟ شعرتْ بوجوده، بغيابه، فيما كان يلتقط مزيداً من الصور، مزيداً من السعادة بمزيد من الجنون. في نهاية يوم عمل شاق، سألته: “كيف بدأت في هذا؟”. أشارت نحو جميع زوايا المعرض. كان يُدخن ضمن قاعة ذات عتمة شفافة، جالسين في زاوية لا يغمرها الفيض القمري اللامع، من حولهما تنتصب جذوع الأشجار العارية والموزعة في أرجاء الصالة، بدتْ أشبه بأصابع عملاقة لوحوش ميتة، تتدلى منها ظلال من الخيوط ومن بعيد حيث تصل الأضواء، على الجدران، ظهرتْ لوحات غريبة كأنها فنون لأجناس فضائية فيما امتدتْ مجموعة من الصور الطولية ذات القصص المختلفة، بوسعها رؤية فتاة تقف في زاوية، عرفتْ بأنها زاويتها التي ظلتْ تقف عندها يومياً ولمدة خمس سنوات. الصورة العملاقة بدتْ عتيقة للغاية، صور أخرى تُظهر جبالاً جرادء بنية ووديان عميقة بحيث تبدو الأنهار مثل جداول نحيلة تنساب معوجة مع سماء شفافة ممتدة بلا قدسية. وقفتْ تحتها في وضعيات مختلفة، تائهة، مؤمنة عاجزة كما وقفتْ عند زاويتها الأسطورية -مثلما ظل يقول ويؤكد- التقط الصور بلا توقف طوال ثلاث ساعات حتى شعرتْ بأنها فقدتْ جزء من روحها، وإنها متعبة للغاية ومنهكة بشكل رهيب. كان سؤالها إيماناً بقيمة ما فعلته، أرادتْ أن تعرف مدى خصوصية هذا الإيمان الغريب بالنسبة إليه أم إنها أرادتْ أن تعرف كيفية وصوله لهذا النوع من الجمال الجسدي المكلف؟ تطلع نحوها بحيادية تامة ثم قال مجيباً بصوت خافتْ: “صدفة”. بدتْ متفاجئة بهذا. “كيف؟”. سألتْ بفضول. فأخبرها كل شيء، كل ما حدث، أخبرها عن الإتصال الهاتفي المفاجئ، عن الدقائق الثلاث الناصعة من البكاء البشري، عن صمته واستماعه، أخبرها عن كل شيء حدث وأخبرها أيضاً عن الإحداثيات، وقال بأنها كانتْ لموقع جغرافي، إعاد تأكيد فكرته وإنه أدرك بأن في ذلك الموقع شيء مهم، ربما كان كنزاً وقد أراد الحصول عليه. ضحك قليلاً وأكمل رواية جزء مما حدث في ذلك اليوم وعندما صمت أخيراً، أحس بدوره بإنهاك روحي عميق. “هل ذهبت؟”. “نعم”. قال. “هل وجدت كنزاً؟”. ابتسمت وهي تسأل. “وجدتُ نفسي”. قال بخيبة أمل بدتْ واضحة فيما ارتسمت علامات تبين عدم الفهم على وجهها ذو الجمال الصبياني. ابتسم. “حدث شيء مختلف، تم اعتقالي من قبل إحدى المليشيات. أسرتُ وبقيت في الأسر لمدة سنتين”. قال هذا بحزن واضح. “لم يعرف أهلي مكاني، لم أعرف حتى أنا إلى أين أُخذتْ حتى تم إخراجي فيما بعد، عقب الهجوم الجيش، فوجدتُ نفسي بالقرب من منطقة الموانئ النفطية”. قصته كانتْ غريبة للغاية بدا متألقا فيما هو يرويها بشغف. بدتْ مندهشة تماماً ومتأسفة، مشاعر جياشة انتابتها، بينما كانتْ تستمع إليه بدا مختلفاً في كل شيء، عرفته فيه أكثر ضعفاً، اقرب إلى شخص مألوف بالنسبة لها بالرغم من أنها شعرتْ بالتعاطف معها إلا إنها كانتْ تُدرك بأنها أمام مجنون مسلح، بوسعه فعل أي شيء. لم تنس أبداً كيفية تعامله مع أحد شبان السوق، رصاصة في رجل، كاد يقتله برصاصة في الرأس، لولا تدخل رفاقه. عرفتْ بأنه قاتل، قبل أن تعرف بأنه كان هناك لأجلها بالذات، عندما لاحظتْ اهتمامه العظيم بها، شعرتْ بالرعب. لم يعد هذا الاهتمام مرعباً منذ الممشى المليء بالحصى اللامع، عقب ما حدث -فيما بعد- أصبح وضعه مفهوماً بعض الشيء، أي لم يكن مرعباً.

18

“ماذا الذي حدث بعد كل هذا؟”. سألته. “الأشياء الغريبة تحدث فحسب -هكذا قال بإبتسامة بلهاء- إنها تحدث”. كانا جالسين تحت لوحة عملاقة تظهر الصحراء بتعرجات متناسق فوق الرمال الغامقة أقرب للون البرتقالي. “صعدتُ سيارتي مع ثلاثة رفاق آخرين، اتجهنا للبحث عن الموقع، حملنا معنا مؤونة والسلاح، خلال ساعات كنا فوق موقع المحدد، سهوب من الحشائش النصف جافة، ترتعش بلمسات الرياح التي أخذتْ تركض بلا هدف محدد، كنا نماثلها تماماً، فقدنا وجهتنا بالرغم من إني تعرفتُ على التضاريس المحيطة بالمنطقة، قلت لرفاقي بأنني رأيتُ التضاريس الظاهرة، ضمن الصور التي وجدتها على الإنترنت، سيارة البيك-آب الممتلئة بالجثث كانتْ على قارعة الطريق بالقرب من ذلك المكان. أخذنا نتجول بهدوء، تم أغلاق الطريق قبل مجيئنا بأشهر، بسبب استعملها من قبل الجماعات الظلامية في تنقلاتها، يُمكن الوصول لأقرب أكبر مدينة خلال ساعة ونصف، آنذاك كان الناس يستعملون طريقاً فرعياً، طلباً للآمان، طريقاً يصل إلى نفس المدينة خلال خمس ساعات، لقرابة ستة أشهر أصبح طريقاً مغلقاً. طوال وجودنا على الطريق لم تتجاوزنا أية سيارة طوال رحلتنا، بدتْ منطقة محظورة دون إعلان حظرها، تجولنا حول المكان، دون أن نجد شيئاً، قضينا عدة ساعات عندما هتف أحد الرفاق معلناً عن إيجاده لشيء غريب. ركضنا نحوه فوجدناه مدخل لما بدا لنا دشماً وسط اللا مكان، أدركنا بأننا في موقع عسكري، خلال لحظات إدركنا لخطورة موقفنا، أطلقتْ النيران في اتجاهنا بكثافة، رأيتُ عمران يسقط مصاباً في رأسه، كنتُ أزحف، باحثاً عن ساتر ترابي أو أي شيء مرتفع أختبئ خلفه. سيارتنا كانتْ بعيدة جداً عن موقعنا، أسلحتنا بعيدة، ولم نكن حملنا أي قطعة سلاح، كنا هدفاً سهلاً وواضحاً، أثناء زحفي رأيتُهم يركضون باتجاهنا، كانوا في لباس عسكري معتم، كانوا أشبه بالظلال، ضخاماً للغاية، الشمس متوهجة من ورائهم، ظلال ضخمة تتجه نحونا، سمعتهم يرمون باتصال على أصدقائي، سمعتهم يصرخون ويستجدون، حاولتُ أن أزحف أو أن أتظاهر بأنني ميت مثل حيوان بري، لكنني كنتُ اصرخ أو أبكي فيما كنتُ أواصل الزحف بثبات بعيداً أكثر باحثاً عن مكان للإختباء، عندها سمعتهم يضحكون، يتكلمون بغموض ويضحكون، أذكر بأنني حين رفعتُ رأسي لأرى ما يحدث بالقرب مني، تلقيتُ ضربة من أحدهم بأخمص سلاحه، فقدتُ الوعي تماماً”. واصلتْ النظر إليه بانتباه تام وحيادية حقيقية، وجد في هذا راحة بالغة المتعة، أن يروي لها معضلاته النفسية أن تستمع إليه بهذا الاهتمام الساحر والوجداني للغاية، تنبأ بهذه الجلسة ضمن لوحة القبلة فأحس بأنه يرغب في تقبيلها، فعلة لم يٌقدم عليها لسبب واحد إنه لم يرد فعل شيء بسبب رغبة يُدرك جيداً بأنها ستتلاشى مع أول محاولة، لذا أخذ يُفكر لوهلة في مدى دقة تنبؤاته الفنية -صوره- حول مستقبله القريب وإنها تمثل رغبة شخصية، سعى لتحقيقها بنفس الأسلوب الذي تخيله. هل النبوءة مجرد تحقيق لمتخيلات تم رسمها مسبقاً في أذهان الناس؟! أخذ يفكر على هذا النحو الجاد ساهماً لدقائق عندما قالتْ الفتاة منبهة: “قبضوا عليك عندها وأخذوك إلى السجن”. قالتْ وهي تقصد حثه لمزيد من الحديث، بالرغم من أنها لم تكن شديدة الاهتمام لمعرفة خفايا حياته إلا إنها رغبتْ بفعل شيء ما حيال غموضه، أربكه رغبتها بالمعرفة، بدا كمن حوصر ضمن حلم متكرر، ودوماً عند نفس اللحظة. أخبرها بأنهم أخذوه إلى جهة مجهولة، حيث قضى سنتين داخل سجن فريد، لم يخرج للحياة الحقيقية إلا بعد أن تم تحرير تلك المنطقة من سيطرة القوة الأجنبية -كانتْ تتحكم بالمكان- قوة مختلفة، محلية غير التي واجهوها في المرة الأولى. بعد أن روى لها كل هذا التاريخ المريع، الذي وصفه بالشخصي، غرق في موجة صمت استمرتْ لدقائق دفعتْ الفتاة للملل قليلاً، قامتْ وأخذتْ تتجول عبر الممرات شبه المعتمة والبهو الأمامي، صعدتْ الدروج إلى الطابق الثاني، حيث الإضاءة أفضل، شاهدتْ اللوحات المعلقة والصورة العملاقة المتدلية، قصص متعددة، جندي مقتول من زمن الحرب العالمية الثانية عند زاوية بدتْ مألوفة قبل أن تدرك بأنها زاويتها ذاتها، خلال الأربعينيات كما تقول المعلومات الملحقة بالصورة المتدلية، أذهلها هذا، أدركتْ بأنها جزء حقيقي من هذه الصور ووجودها ليس مصادفة بالمرة. شاهدتْ النخلة التي بالقرب من زاويتها، خلال الثمانينيات كانتْ مجرد شتلة صغيرة، بين يدي رجل بكرش ضخم، ببدلة أنيقة، بدتْ رمادية، وهو يقوم بغرسها مبتسماً بصحبة عدة رجال ببزات أنيقة من الخمسينيات.

19

لم يرو لها كل شيء. لم يكن من الممكن أن يروي لها كل شيء، إن رواية مثل هذه تستهلك ليس الوقت فحسب، بل تستغرق قيمته الشخصية، تجعل منه أقرب إلى دمية جنسية حديثة أو إلى منتهك جنسي، أو شيء أقرب إلى رقيق حديث. لم يرو لها إلا ما يُمكن اعتباره هامشياً خلال تجربته الرهيبة والتي أعادتْ تهيئة شخصيته، من حال إلى حال، اختصر هذا في قوله أعدتْ اكتشاف نفسي، لكنه أحياناً يستغرق وقتاً لا بأس به من أجل الكشف عن الجوانب التي ظل يعتقد بأنه اكتشفها. بالرغم من إنها مجرد لحظات هلامية متداخلة ومقموعة داخل رأسه إلا إنه يرى بعضاً منها كأنه جالس يشاهد السينما من وراء زجاج مضبب، يرى أشكالاً ضبابية تتحرك بإنسيابية وببطء، يعرف بأنها تفاصيل لجسد عاري، حتى دون أن تُظهر حقاً كل شيء بالوضوح المرغوب. فيما صور فيلم قصير يظهر في بعض مشاهدها أربعيني إيطالي مع عدد من الفتيات والفتيان، إريتريات وأثيوبيات، صوماليات داخل مباني ذات طابع ديكتاتوري -عمل على التعامل مع تجار البشر من أجل الوصول لهذه المشاهد- مناظر غير مكتملة لواجهات مباني على الطراز الاستعماري، تحيط بالمكان أشجار الأكاسيا الصناعية، فيديوهات قصيرة تُعرض على شاشات مغروسة في الجدران المؤدية إلى القبو، حيث تُظهر إحدى الجهات منظراً طبيعياً لغابات استوائية مع طيور الببغاء ذات الريش الملون، خارج الأقفاص المعلقة ومعوجة بأسلوب غريب -كأنها وقعتْ من جوف طائرة- لتظل معلقة بتلك الطريقة الغريبة على أغصان الشجر، فيما تتقافز الببغاوات مرددة كلمات متقنة بالإنجليزية، بالإسبانية وبالفرنسية، كلمات متناقضة مثل الحروب، القمر، الفن والحزن. الإيطالي الفنان -بلا شك ممثل بارع- بدا حريصاً على ترجمتها إلى العربية بإعتبارها -كلمات تمثل- الروح الحقيقية للفن الروماني القديم -كما ظل يُفسر كل مرة- تقليد التصرفات الخيالية لتماثيل كرياتيد المفعمة بالأنوثة مع وضعياتها العملية وملامحها الحاضرة والفتية كأنها ألتقطتْ أثناء مضاجعة حقيقية.

20

بمثابة خاتمة

المادة التي نسجتها في الفقرات السابقة، كانتْ خلاصة حديث استمر ليلة كاملة مع بطلها -إضافة لثلاث ساعات من الحوارات المتفرقة مع بطلتها- كان هذا قبل أكثر من ثلاث سنوات. كانتْ بنغازي تشهد ذروة الجنون في كل شئ، آنذاك. المال في كل شارع، كذلك القتل. الإزدهار والاحتقان. كل شيء كان دقيقاً. كل شيء كان على وشك الإنفجار. إزدادتْ متابعتنا لصفحات التواصل. كانتْ العمليات العسكرية قد بدأتْ. قُصفتْ بعض المعسكرات -التابعة للثوار آنذاك- وأصبح من الواضح إن حرباً ستنشب في المدينة. أثناء إحدى جلساتي على الفيسبوك، تلقيت رسالة عبر الإنبوكس صفحتي الشخصية. دعوة منمقة بنسق الرسومات المتبادلةGIF– انفتاح ورود. ركض حيوانات مفترسة بالأبيض والأسود. غابات تتنفس. ممر مرصف بالحصى اللامعة. نافورة حية أمام فيلا معتمة يُشرق فوقها قمر هائل. لعاب قمري شاحب ينسكب مثل شلال خيالي. مجموعة من العارضات الفارعات بمساحيق مدهشة تبدو متناسقة على وجوههن المنحوتة بدقة، يظهرن كأنهن يتحدثن فيما تنبثق الكلمات من أفواههن الرقيقة، بلا صوت، جملاً تقرأ كلمة تلو الأخرى. دعوة أنيقة لحضور افتتاح تجريبي لمعرض، أكد بأنه متعلق بالصور الفنية. بعد ذلك بأيام اتصلتُ به على الرقم الذي ذيله ضمن رسالته لي، فيه حدد موعد ومكان الإلتقاء المفترض. التصريحات النارية أخذتْ تُرسل خلال القنوات الفضائية من قبل قادة الكتائب الثورية. حين سألته عن سبب اختياري. علل ذلك بأنه مهتم جداً بما أكتبه ضمن مدونتي -لم أكن أمتلك جمهوراً كبيراً- وإنه يود أن يعرف وجهة نظري، حول ما توصل إليه من معرفة في مجال الفني الذي اختاره، لاحظتُ بأنه ظل يتحدث بهدوء، متفوهاً بجمل مفتتة مثلما أخذتْ الكلمات تنبثق -سابقاً- من أفواه الدقيقة لعارضاته الشركسيات -كما أخبرني فيما بعد- ضمن رسوماته المنسقة. أسلوب حديثه هو ما لاحظته مجدداً في لقاءنا الأول أمام الحديقة، لم أكن لوحدي كما توقعتْ، حوالي خمسة آخرين، كانوا بالإنتظار أمام الحديقة، أربعة شباب وفتاة تحمل كاميرا ضخم، كنت التقيتُ بها في إحدى الاحتفالات، قبل أن أقرر ما سأفعل ظهر شاب ضئيل وو يُردد أسماء من بيتها اسمي، اقتربنا منه، وأدركنا بأنا جميعنا تمت دعوتنا، الابتسامات الغامضة، همهمات التحيات المتبادلة. دائماً أعقد مواعيدي أمام هذه الحديقة -كان يُشير بيده باتجاه الحديقة من حولنا- أتفاءل بها. قبل أن يقول أحدنا أي شيء، أشار إلى حافلة مركونة بجانب الحديقة، ففهمنا بأنها وسيلتنا التالية إلى حيث المعرض. أتذكر بأنها كانتْ رحلة سلسلة بلا أية أحاديث، ظللنا نستمع لساعة لموسيقى الريف الإنكليزي، ونحن نتابع حرك المدينة قرابة الغروب. وصلنا إلى منقة شبه منعزلة، أقرب تجمع يقع على بعد ثلاثين دقيقة تقريباً، نزلنا وهو يتقدمنا عبر الممر المفروش بالحصى، وهو يرحب بنا بجمل مقتبسة من الأفلام، الأضاءة كانتْ مدهشة، ثمة اصوات زقزقة لا شك مسجلةن روح غابات الشمال، أحياناً كنا نسمع رمياً من بعيد. الاشتباكات كانتْ بدأتْ تزداد حدة. أخذنا ننزلق لحرب أهلية وكنا ندرك هذا. توتر عميق نشأ في العلاقات. أحاديث عن حالات ذبح في بعض أحياء، ونشرتْ فيديوهات تعذيب بشعة. شيء من القلق، بالرغم من ذلك حاولنا الاستمتاع باللحظات القليلة مع تقدم الليل. شاهدنا الصور، العشرات منها، تحدث عن فهمه الشخصي للثورة، الموهبة. كانتْ ذروة كل شيء، واقع جديد في تلك الفيلا، قضيتُ مدة لابأس محاولاً تذكر ما حدث تلك الليلة ما قاله بثمالة البهجة متوقعاً بأن النهاية ستكون بلا شك درامية تماماً مثلما يحدث دوماً، بالأسلوب الليبي. تحدث عن التجارب الشخصية. النكسة التي يتعرض الشخص في حياته. ما الذي يمكن أن حدث أكثر من هذا؟ يُحدق في صوره، ثم يجيب نفسه، لا شيء مهم. تساءل وأجاب نفسه، مرات عدة. لا يمكنك أبداً التخلص من معضلاتك الشخصية، إنها شريكتك في اتخاذ القرارات. تحدث بإسهاب -خلال جلسة منفردة على إحدى الشرفات المطلة على مزرعة صغيرة- عن ظروف اعتقاله من قبل مجموعة إيطالية، عن وقوعه بين يدي مجنون نمساوي، جعله يعمل عارضاً لستنين، أخبرني بأنه تم نقله إلى دول عدة، وإنه ظل يشعر بهذا، رحلات جوية، مطارات دولية، فتيات بلغات أخرى مع صبيان من القرن أفريقي، أنتهك جسده مراراً، أصبح عارضاً، راقصاً، قضى أسابيع باعتباره موديل شخصي لفنان فرنسي متحرر. أخبرني بأن معرضه الفني، ليس إلا شرح بسيط من المعاناة التي تعرض، لها وإنه عمل لسنوات من أجل اتمامه، واستعاد ذاته ووجوده عند الانتهاء منه. حدث هذا اللقاء قبل ثلاث سنوات، اختفى بعدها من المدينة، سألتُ عنه بعض الرفاق من تلك الحفلة، لا أحد يعرف عنه شيئاً، كنتُ بدأتُ أكتب في صحيفة أوروبية قصصاً يتم ترجمتها إلى عدة لغات. شجعني هذا أن أكتب قصته، منذ عدة أشهر وأنا أبحث عن تفاصيل هذه القصة، مستعيداً تفاصيلها من الذاكرة وما جمعته من أفواه لعض من توصلتُ إليهم بفضل تلك الليلة -بدا لي بأنه كان يُريد مني أن أفعل- التقيتُ بعارضاته، وجدتُ بعض الخيوط من القصص الخفية، تحدثتُ مع هدة فتيات، ولأسباب فنية وضعتُ هنا قصة عارضة واحدة فقط من أجل إيجادها قضيتُ أسابيع بحثاً عنها، بالرغم من إنني أمتلك أسماء، صوراً وعناوين لأماكن تتواجد بها عارضاته، إلا أن قصص النزوح من الأحياء السكنية بسبب الاشتباكات غيرتْ كثيراً من تفاصيل المدينة، أصبح البحث عن شخص ما بمثابة تعرف على مدينة ما بعد حرب أهلية. كان يبدو أمراً مستحيلاً، وإنني بحاجة إلى معجزة للعثور عليها. المعجزة لم تكن بعيدة. أتصل بي أحدهم كنتُ تحدثتُ معه -قبلها بمدة- عن فتاة بائعة العاديات. كنتُ أخبرته بأنني أود الالتقاء بها لأسباب شخصية. كنتُ أعرف بأنه قواد متخفي. قبض نقوداً مثل أي قواد يعتقد بأنه يعمل خفية، ووعدته بدفعات مالية أخرى. أخبرني بأنها تسكن في حي مشبوه في إجدابيا. التقيتُ بها في الشارع. كانتْ تتمشى مع صديقتها، اعترضتُهما. أخبرتها بأنني صديق. ذكرتُ اسم الفنان -قررتُ عدم استخدام الأسماء حتى المزيفة منها ضمن هذه القصة- روتْ لي ظروف لقائها به. جلسنا في سيارتي، تجولنا عبر شوارع المدينة الخاملة حتى أنهنيا أحاديثنا، فأخذتْ تبكي بنشيج غامض ومتواصل، للحظات تماهى صوتها مع العنف الحادث في شوارع المدينة. تركتها داخل أحد الشوارع الخلفية وابتعدتُ بسيارتي متجهاً نحو بنغازي، حيثُ قررتُ أن أجلس لأكتب القصة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم