عبد اللطيف النيلة
أمسكتُ اليد الصغيرة الناعمة لأميمة، ومن حارة الصورة انعطفتُ بها، تحت الشمس الشاحبة والسماء الغائمة، إلى الطريق المفضي إلى مكتبة الجاحظ. وقفنا على كثب من عتبتها: رفوف وصفوف من الكتب تصعد من الأرضية حتى السقف. تتراكم فوق بعضها البعض، بألوان أوراقها الكابية الحائلة، والكتبي جالس خلف مكتبه، مستندا بظهره إلى جدار الكتب، وقد لاح بجلبابه الصوفي ونظاراته وطاقيته، نحيلا وطاعنا في السن، بل في الكتب.
لحظة وقفنا قبالة المكتب دهم خياشيمي أريجٌ خاص تمتزج فيه روائح الورق والجلد والخشب والمسك. حييتُ الكتبي المستغرق في قراءة كتابٍ مجلد، فرفع رأسه راداً التحية. بش في وجه أميمة، وابتدرها بالسؤال الذي كان متوقعا أن يطرحه عليّ:
– ماذا يحب الخاطر يا غزالة؟
تركته يحاول نسج خيوط الحديث معها، فيما أخذت أجيل نظراتي في الرفوف، والعناوينُ تتوالى: الأغاني، الإمتاع والمؤانسة، طوق الحمامة، البيان والتبيين، وصف إفريقيا… يبدو أن أي كتاب معمّر أو مفقود، يمكن العثور على نسخة منه لدى هذا الكتبي، الذي لم أعرف كيف كان يهتدي إلى سلّ الكتاب المراد من ذلك الركام الهائل..
– هل يمكن أن أساعدك؟
– هْمْمْ.. أبحث عن كتاب “ألف باب وباب”.
عدل نظاراته وحدق إليّ متبسما:
– لدي “ألف ليلة وليلة”. هل جاء دور الأبواب بعد الليالي؟
– هو ليس كتابا عن الأبواب، بل عن الكتب.
– الكتب!
– عنوانه الكامل: “ألف باب وبابْ في أنوار الكتابْ”.
ابتسم مرة أخرى وقد التمعت عيناه:
– عجيب! خلتك ستقول: ألف باب وباب في عتق الرقاب.
– أو غرس الأنياب!..
– أو نش الذباب!
انفجرنا على الفور ضحكا. وقبل أن أودعه دنا مني ليهمس محذرا: «دعك يا صاحبي من ذلك الكتاب، فهو محظور!»، وإذ نظرت إليه بدهشة، ربت على كتفي مشيرا إلى أميمة: «اجعل غزالتنا في بؤبؤ عينيك!». وحين استدرت للانصراف اصطدمت برجل يضع نظارات بلون غامق، اعتذرت له وأنا أتساءل في نفسي إن كان قد التقط حديثنا.
حثثنا الخطو لننعطف يسارا حيث تنهض الدِلالة المتفرعة عن جامع التقوى. كل جمعة، بعد صلاة العصر، يُقام في هذه الدِلالة مزاد علني للكتب والمخطوطات. كتب في الدين، والأدب، والفلسفة، والعلوم…
– هنا يا أميمة رأيت، لأول مرة، كتبا مسفرة، حبّرتها بالخط المغربي ريشة فنان، كما رأيت غير مصدق نسخة من الإنجيل، بل إني تصفحتها متعجبا من ورقها الذي أوشك أن يشفّ من فرط رقته.
في عمق المكان يجلس شيوخ الدِلالة، بوقار وهيبة، متكئين بظهورهم على الحائط والدفتين الخشبيتين للباب الموصد المفضي إلى الجامع. هم عشاق الكتب المواظبون، كتلامذة مجتهدين، على حضور ميقات الدلالة الأسبوعي، المحركون لعجلة المزاد بحب وصبر، والحريصون على عدم انفلات النفائس من بين أيديهم. بعضهم كتبيون، وبعضهم الآخر علماء أو فقهاء أو أساتذة.
طاف الدلاّلون على الحاضرين بالكتب المعروضة للمزاد، والأسعار تتصاعد بقدر ارتفاع وتيرة التنافس بين المزايدين. رأيت ألوانا شتى من الكتب، لكن ما من أثر ل”ألف باب وباب”..
استأنفنا المشي.. سلكنا سبيل المواسين، لنعرج على “الرياض” الزاهر حيث تستوي الخزانة الكبرى للكتب. اجتزنا، بعد عتبة الباب، ردهة ضيقة طويلة مسقوفة، تخلف في النفس إحساسا بمبارحة عالم اليومي المكرور الرتيب، وولوج عالم مغاير مسكون بأرواح الكلمات. دلفنا إلى فسحة تتقاسم مساحتها طاولات وكراس يقتعدها الباحثون ومحبو المطالعة. ثم مررنا عبر أحد الأبواب إلى صحن رحيب مظلل بخمائل أشجار النارنج التي تنشر عبيرا زكيا في الهواء. كانت تصعد من قلب الصحن نافورة فخمة من رخام، والماء ينفر من فمها فيتدفق في الحوض الصغير فالحوض الكبير الجاثم تحته، وينعكس ضوءُ النهار وتشابكُ الأغصان والظلال على صفحة الماء الرقراق. دخلنا قاعة فسيحة مهيبة اكتظت رفوفها بالكتب، فداخت رأسي من فرط تنقل عينيّ، في لهفة، من عنوان إلى آخر. التقطتُ أنفاسي، وأشرت إلى السقف المتفجر بآيات الزخرفة:
– أبهجي بصرك يا أميمة!
تحاذي القاعة غرفة صغيرة لاستقبال طلبات من يرتادون الخزانة. تصفحت جذاذات مرتبة في أدراج، بحثا عن بغيتي. الموظفة الجالسة خلف المكتب، طاردتني بعينين تشيان برغبتها في تحريري من تيهي. استفسرتها عن “ألف باب وباب”، بانت الدهشة على وجهها، وحركت رأسها نفيا، قبل أن تقول: «إذا عثرت عليه يوما.. لا تنس أن تعيرني إياه!».
وأنا أهم بالمغادرة، أردت أن ألقي من مكاني نظرة أخيرة على رفوف الكتب، فاصطدمت عيناي برجل واقف بعتبة القاعة الفسيحة.. كان يصوب بصره نحوي، ويمناه ممسكة بنظارات غامقة.
في الخارج كان المطر يهطل بغزارة. فتحت المظلة ويمّمت شطر الساحة الكبيرة، سالكا طريق الرميلة. أميمة تسير إلى جانبي وقامتها لا تجاوز خصري إلا قليلا. سحبتني من يدي صوب حلقة القردة، في اللحظة التي خف فيها المطر، فلبيت رغبتها رغم أنفي. سُقتها بعد دقائق إلى حلقة الراوي، وأصغيت إليه للحظات يسرد حكاية الحكيم الذي عالج حاكما من داء أعْجزَ الأطباء، ولما تيقن من عزم الحاكم على تصفيته، أعطاه كتابا خُضبت صفحاته بالسم، وأوصاه بألا يفتحه إلا بعد قطع رأسه، منبئا إياه بأنه سيخاطبه برأسه المقطوع إن تُليتْ عليه كلماتٌ من ذلك الكتاب السحري. بدت أميمة مستمتعة بالحكاية مثلي…
في الجهة الغربية من الساحة، ينتصب صفان متقابلان من الدكاكين المصنوعة من خشب وقصدير. على مهل، تمشينا في الممر الفاصل بين الصفين. كُتبٌ معروضة أمام أبواب الدكاكين، غير أن أغطية بلاستيكية تحجبها. تطلعت عيوننا إلى الكتب المتراكمة داخل الدكاكين. بجوار أصداء الحلْقات والضجة المكتومة للازدحام والحركة، وتحت سماء الساحة الداكنة المنذرة بالمطر، تستلقي في الداخل آلاف الكتب المستعملة.
أخذ الكتبيون، بعد لحظة، يزيحون الأغطية البلاستيكية جانبا، وهم ينظرون إلى السماء، على أمل أن تجود عليهم بمهلة للاسترزاق. هنا تتضاعف كثيرا مكتبة الرجل الطاعن في الكتب، والكُتّابُ المنزوون بصمت في العتمة الخفيفة لتلك المكتبة، يحظون فوق هذه الأرض بفضول ما لا يُعَد من الأشخاص الذين يرتادون الساحة على مدار الأيام. بل إنهم ينعمون بأوفر حظ للالتقاء بمن يصغي إلى كلماتهم الراقدة بين دفات الكتب. بلغنا نهاية الممر، فاستدرنا.. لأشرع في البحث والسؤال عن “ألف باب وباب”. استغرب بعض الكتبيين طلبي، وسألني أحدهم بنبرة ظننتها ساخرة: «هل تبحث عن غمد منجل؟». البعض الآخر قدم لي عناوين مماثلة: ألف ليلة وليلتان، ألف عام بيوم واحد، مائة ليلة وليلة، وألف ليلة وليلة بالطبع. عاود المطر الهطول بغزارة، فاحتمينا بالمظلة ونحن ننحدر مع طريق باب الفتوح، فيما كنت أحاول أن أزرع في النفس الأمل في العثور، يوما ما، على الكتاب المنشود.
***
حظر “ألف باب وباب” لم يبق سرا يتهامس به الكتبيون، بل سرعان ما ذاع بين القراء بعد أن عمدت إحدى الجرائد إلى نشر قائمة تضم العديد من الكتب الممنوعة من التداول. تأجج فضولي المعرفي، فلم أفتأ أطوف على المكتبات بحثا عن القائمة المحظورة، لكن من غير طائل.
زرت الرجل الطاعن في الكتب مرة أخرى، فاستقبلني ببشاشته المعهودة، وانخرطنا في الحديث كما لو كانت تربط بيننا صداقة قديمة، ووعدني بأن يتدبر لي صورة مستنسخة من “ألف باب وباب” أو غيره من كتب القائمة.. لكن في الوقت الذي بدأت فيه وسائل الإعلام تتحدث عن فيروس خطير فتك بعدد من الأشخاص في مناطق مختلفة من البلاد، ذهبتُ إلى مكتبة الجاحظ، فألفيتها موصدة، وقد خُط رسم غريب فوق خشب دفتها الوسطى: كتاب تتوسطه جمجمة. براعة إنجازه أدهشتني. ثم صادفت ذات يوم عمالا بوزرات كاكية ينقلون كنوز المكتبة إلى جوف شاحنة، وعلمت أن ملاك الموت قبض الروح الطيبة للرجل الطاعن في الكتب. ألحت عليّ صورته البهية تحفه الكتب من خلفه وعن يمينه وشماله، فيما هو يداعب أميمة ويسألني عن حاجتي. ولم أكتشف حجم الفاجعة إلا حين لاحظت خضوع المكتبة، بعد شهور، لإصلاحات جردتها من رفوفها وبدلت أبوابها الخشبية العريقة بأبواب من حديد، لتصير “بازاراً” يبيع الزرابي للسياح.
لم أكد أصبر صبرا جميلا على اختفاء المكتبة، حتى تناهى إليّ خبر ترحيل الخزانة الكبرى للكتب. على حين غفلة أخرجتْ الكتب من عقر دارها، وهُجّرت إلى مكان آخر بحي القوادس حيث تشيع الروائح الكريهة لواد تصب فيه مجاري الصرف الصحي بالمدينة. نأت الكتب عن فضاء حيثما قلب المرء وجهه فيه، شدته تجليات حضارة تحتفي بالبهاء والرؤى الملهمة: زليج الأرضية، الفسيفساء التي تشغل الشطر الأسفل من الجدران، الجبس المنقوش الذي يغطي شطرها الأعلى، أقواس الأبواب وهيئة دفاتها الخشبية الضخمة، سقوف الخشب الباهرة الزخارف…
وحين طفقت وزارة الصحة تتحدث عن سقوط ضحايا بسبب الفيروس القاتل، تضاربت الإشاعات حول مصدر الفيروس: الدجاج؟ الإشعاعات النووية؟ الخنازير؟… وطلع علينا، ذات نشرة أخبار مسائية بالقناة الوطنية، وزير الصحة مرتديا بذلة أنيقة ناصعة السواد، ليقدم بلاغا يرجح مصدر الفيروس. عندئذ أومض في رأسي بصيص من الفهم: تهجير الخزانة الكبرى، وربما أيضا محو مكتبة الجاحظ، لم يحدث إلا على أساس الشك في الكتب. ألم يشر الوزير بأصبع الاتهام إلى الأرضة التي تسكن الكتب؟
لم تلبث الأيام أن صادقت على فهمي لما يحدث. فقد تناقص عدد مرتادي دِلالة جامع التقوى، إلى أن فوجئت بأبوابها موصدة ذات جمعة وقد انتصب في أعلاها نفس الرسم: كتاب تتوسطه جمجمة.
وما هي إلا أسابيع حتى بلغني أن دكاكين الكتب بقلب الساحة الكبيرة قد تم ترحيلها إلى مكان مقفر خلف الأسوار المحيطة بالمدينة العتيقة. حُوّلت من الخشبة المغمورة بالأضواء إلى الكواليس.. لكن الكتبيين خرجوا في تظاهرة محتجين، فالتقطت صورَهم كاميراتُ السياح من فوق أسطح المقاهي الحافة بالساحة، وظهرت بعض هذه الصور على صفحات جرائد غربية ذائعة الصيت. إثر ذلك استعادت الدكاكين مواقعها في قلب الساحة. فغمرني شعور طاغ بالسعادة، كما لو أني أنجزت انتصارا شخصيا.
إلا أن أعداد المصابين بالفيروس الفاتك تزايدت، فعاد الوزير ببذلته السوداء للظهور على الشاشة ليعلن هذه المرة الخبر اليقين: لقد أكد اختصاصيون في علل الأجسام أن الكتب التي أشبعت رطوبة ولابسها الغبار والعث، هي الأكثر ترشيحا لاحتضان الفيروس وتفريخه، وقد شددوا على أن الأرضة، ذلك الكائن الصغير الذي يقتات بالورق، هي مصدر الفيروس.
أذيعت، بعدئذ، وصلات إشهارية تكرر: «الموت يتربص بكم بين صفحات الكتب! احذروا الكتب!». وردد بعض المسؤولين: «تحاشوا الدنو من الكتب القديمة المشبعة بالرطوبة والغبار في أقبية المكتبات والخزانات»… وتناسلت الوصايا: «اقطعوا دابر الأرضات بالمبيدات».. «بما أن الكتب قد أصبحت مريضة، أو بالأحرى قاتلة، فمن الضروري إطلاق نيران الرحمة عليها»…
أوعزت السلطات إلى الناس أن يقيموا ولائم للنيران في كل شبر متلبس بإيواء الكتب. استجابت للإيعاز مكتبات عديدة، إنقاذا لما يمكن إنقاذه. إذ عمدت إلى إحراق الكتب المودعة في أقبيتها، مستبقية الكتب التي تلامسها أشعة الشمس. وقد حرصت على أن تقيم المحارق على نحو احتفالي: وسط الطريق وتحت أنظار الناس، كانت تلقم أفواهَ النار الكتبَ المشبوهة. وأصبح عمال مكتبات الأحياء الراقية يضعون كمامات ويلبسون قفازات، خوفا من انتقال العدوى إليهم. وتدريجيا أخذ يتناقص عدد المولعين بالسياحة بين رفوف الكتب.
أما كتب الساحة الكبيرة فقد بدت في مأمن من المحرقة، فهي مشرعة على الشمس والهواء على امتداد الفصول؛ لا تعاني رطوبة، بل تتمتع بفائض اجتفاف، ولا تحمل غبارا معتقا، مادامت الريح تتكفل، دوما، بطرد ما يعلق بها من كائنات دقيقة. ولم تسجل أي إصابة بالفيروس بين كتبيي الساحة. لكن ذلك لم يحل دون حدوث الفاجعة. ففي عمق ليل بهيم انطفأت فيه أضواء المصابيح، أكلت ألسنة النار الشرهة دكاكين الكتب، فلم يتبق منها سوى هياكل متفحمة من خشب وقصدير، تحوي كتبا صارت رمادا. أطلال الدكاكين اجتذبت، على امتداد أسابيع، أنظارا متفجعة أو لا مبالية أو متفرجة لحشود من الناس، انحشر بينهم جمع من السياح الأجانب، بينما فضل سياح آخرون الإطلال من فوق أسطح المقاهي من غير أن يُفوّتوا الفرصة التاريخية لالتقاط آلاف الصور للكتب المحترقة، المختنقة، طبعا بسبب الدخان.. وقيد الحادث ضد مجهول، في انتظار أن تفتح السلطات تحقيقا..
لم يلبث النسيان أن طوى دكاكين الكتب، لاسيما وأن المسؤولين منحوا الكتبيين المتضررين تعويضات أخمدت أي ردود فعل قد تتطور إلى احتجاج أو انتفاضة. اغتنم بعضهم الفرصة للانفلات من صداع الكتب والفرار إلى حرفة أخرى أدر للربح وأبعد عن المشاكل. واحتشدت الساحة بموائد الطعام التي أخذت تتناسل، شيئا فشيئا، حتى استولت، في نهاية المطاف، على حيز أكبر.. حتى أصبحت سحائب الدخان تتكاثف في سماء الساحة في أغلب الأوقات، كما لو كان الأكلُ الشغلَ الشاغلَ للناس.
تحت تأثير الصدمة، راودتني فكرة تأليف كتاب تحت عنوان: “ألف باب وباب في اغتيال الكتاب”.
ذات صباح، اشتريت جريدة وجلست على مقعد بحديقة مجاورة للساحة الكبيرة، حيث أرخت شجرة كاليبتوس ظلالها. تصفحت الجريدة، فاسترعى انتباهي خبر مثير: مجلة “ريّاليتّي”، إحدى أكبر المجلات الغربية، تنشر وثائق تفضح تورط علماء في إنتاج فيروسات فاتكة داخل المختبرات، والعمل على تسريبها… أشارت الوثائق إلى جنون البقر، وإنْفلوَنْزا الطيور فالخنازير، لتختم بالإشارة إلى إنْفلوَنْزا الكتب.
شعرت باختمار فكرة الاغتيال، واستبد بنفسي الملتاعة شوق جارف إلى تأليف ذلك الكتاب.. فجأة تنبهت إلى شخص كان يشاركني قراءة الجريدة من وراء ظهري. التفتّ توا، فتحرك مبتعدا. أدركت أني أعرفه؛ النظارات الغامقة على وجهه تفضحه. نهضت واقفا، ومضيت في طريقي إلى البيت وأنا أتخيل الكتب تخوض حربا ضروسا ضد جهات نافذة تخشى الأنوار المنبعثة من سطورها.