محمد الفخراني
“إنسان”، وفى البداية، كانت الكائنات التى تظهر فى العالم قبل غيرها، تستقبل الكائن الذى يأتى بعدها بطريقة يخترعونها لأجله، وكان مُفاجئًا “لإنسان” أن يجرى باتجاهه فى وقت واحد، “بحر”، “غابة”، “جبل”، و”نهر”، كانوا يتصرفون وقتها ببدائية مخيفة بقدر ما هى جميلة، وكلٌ منهم يؤدى أية حركة تخطر بباله، ويطلق تشكيلة من أصوات مبتكرة، فخاف منهم “إنسان” وانطلق يجرى فى لا اتجاه، أعجبتهم اللعبة وجروا خلفه يطاردونه، وكلما اقتربوا منه تباطئوا حتى يسمحوا له أن يبتعد قليلاً، أثناء ذلك نطق “إنسان” بأول كلمة له، وقد نساها بعضهم، ولم يسمعها البعض الآخر بشكل جيد، عدا “بحر”، فقد سمعها جيدًا ولم ينسها، غير أنه لم يعرف لماذا رفض أن يخبرهم بها عندما سألوه عنها، وكانت تلك الكلمة أول سرّ يحتفظ به، قبلها لم يكن البحر يحتفظ بالأسرار، كان يفتح أية زجاجة يعثر عليها، يبعثر محتوياتها أمام الجميع، وإذا كان بها رسالة ما، فإنه يقرؤها بصوت مسموع، كان يحطم أىّ صندوق فور حصوله عليه، وينثر محتوياته بلا مبالاة، من دون أن تكون لديه رغبة فى الاحتفاظ بأىّ شىء لنفسه، كأنه ينتظر ظهور “إنسان” والكلمة التى نطقها، كى تتحوّل فيه هذه الخصلة إلى عكسها، ثم يصير معروفًا عنه كتمانه الأسرار، حتى إنه لا يفتح أية زجاجة تصل إليه، ولو ظلت معه لمئات السنين، لا يكسر قفل أىّ صندوق، الأمر الذى جعل كل الكائنات، وخاصة “إنسان”، تبوح له بأسرارها.
عندما كان “بحر”، “غابة”، “جبل”، و”نهر” يجرون خلف “إنسان”، التفتوا إلى بعضهم بعضًا، وخطر فى بالهم أن يبتكروا لأجله لعبة جديدة، سيُطلقون عليها فيما بعد: “الاختفاء”، اختفوا فجأة، ولم ينتبه “إنسان” لذلك إلا بعد أن قطع مسافة، حتى إنه التفت خلفه عدة مرات ولم ينتبه أنهم قد اختفوا، فقد كانت صورهم وأصواتهم تطارده داخل رأسه، وعندما انتبه أخيرًا، توقف عن الجرى، وتلفَّتَ حوله يبحث عنهم، فرأى العالم فارغًا، وبدلاً من أن يشعر بالأمان، تسرَّبَ إليه إحساس غامض بالخوف.
حاول “إنسان” أن يفهم ما يحدث، لكنهم ظهروا له فجأة، هجموا عليه، وقد شاركتهم “سماء” اللعبة هذه المرة، وكان دورها فى المرة الأولى أن تراقب من ارتفاع شاهق لا يسمح له برؤيتها، الآن هى تجرى فوق رأسه تمامًا، كانوا قد ابتكروا تشكيلة جديدة من الأصوات والحركات، ولأنه لم يكن قد رأى حلمًا أو كابوسًا حتى ذلك الوقت، فلم يفكر أنه يعيش داخل أحدهما، وظل يجرى حتى بدءوا يحاصرونه، بينما أصواتهم الملأى بالحياة، وضحكاتهم الكبيرة تصطدم به، فتدفعه إلى اتجاهات لم يكن يقصدها، وتدور به فى دوّامات صغيرة، حتى أصيب بالتعب وسقط فيما سيُعرف بعد ذلك أنه “غيبوبة”.
أراد كلٌ من “نهر”، “سماء”، “جبل”، و”غابة” أن يحتفظ لديه “بإنسان” إلى أن يفيق، إلا أن “بحر” أصرّ أنه أفضل من يقوم بهذا، وشرح لهم وجهة نظره، بأنه لا يريد أن يشعر “إنسان” بالعظمة إذا ما أفاق ووجد نفسه واقفًا على قمة “جبل”، حيث تكون “سماء” فى متناول يده، و”نهر” بالأسفل مثل خيط نحيل هادئ، و”غابة” مجرد بقعة خضراء، وربما يُلهمه هذا بعض تعليقات ساخرة ينتقم بها ممَّا فعلوه به، أو ما يَعتقد أنهم فعلوه به.
أقنعهم “بحر” بوجهة نظره، فإذا كان هو الوحيد من بينهم الذى سيشعر “إنسان” بالرهبة تجاهه لو نظر إليه من مكانه فوق الجبل، كونه لن يراه خيطا نحيلاً، وإنما كائن ضخم، هائج، فالأَولى أن يحتفظ به معه، كما أن “بحر” لن يتردَّد أن يصفعه، ويحشو جوفه بحفنة ملح ترُدُّ إليه تهذيبه إذا صدَرَتْ عنه أيَّة وقاحة بعد إفاقته، وهذا ما لن يفعله “نهر”، الذى سيكتفى وقتها بأن يتعكَّر مزاجه، لذا، اقترب “بحر” بهدوء من “إنسان”، رفَعه من بينهم، وضمَّه إليه.
كان “بحر” يتأمَّل “إنسان” أثناء إغماءته، يتحسَّسُ شعره، جلده، صدره، أصابعه، ويضغط عليها برقَّة، يتلمَّسُ أنفاسه، يتشمَّمُ رائحته ويشعر أنها قادمة من مكان نقىّ، يُقلِّبه بهدوء على جوانبه، فيُدير وجهه للنور والسحاب، ثم يسحبه لأسفل بين الأسماك والأشجار البحرية، وكلما أطال النظر إليه أَحبَّه بزيادة، وتذكَّرَ نظرات “غابة”، “نهر”، “سماء” و”جبل” إليه وقتما كانوا يطاردونه، وكم كانت عيونهم تحبه، وفكَّرَ أنهم مهما فعلوا به، فإنهم سيمنحونه فى النهاية أجمل ما لديهم.
أفاق “إنسان”، وجد نفسه طافيًا فى مكان رائق، بينما طائر أبيض يقف على صدره، فمَدَّ يده بحذر ولمسه، وقبل أن يطمئن إلى الطائر فَزِع منه عندما خفق بجناحيه، وظل يراقبه بدهشة وهو يرتفع باتجاه السماء، وقتها كان شئ ما يرفرف داخل صدر “إنسان”، وكائن بجناحين ينطلق من عينيه خلف الطائر، ظَلَّ هذا المشهد حيًّا فى ذاكرته، وكانت تلك أول أمنية يتمناها فى حياته: “الطيران”.
عندما انتبه “إنسان” إلى “بحر”، أحسَّ تجاهه بمزيج من الخوف والحب، وهو ينظر لنفسه تائهًا وسط كل هذا الاتساع، لكنه أحسَّ بعد لحظات أنه فى بيت كبير، ضحك “بحر” ضحكته الشهيرة، وارتفع به عاليًا، وانتظر حتى مَرَّر يده على “سحاب”، وأحسَّ به عميقًا، ثم هبط به ثانية، ووضعه على الشاطئ، فكان أوَّل ما فكر فيه “إنسان” هو ذلك الشىء الذى ظَلَّ يَدُقُّ بقوة داخل صدره، وينطق بعض كلمات من وقت لآخر وقتما كانت الكائنات تطارده، وهو الشىء نفسه الذى رفرف فى صدره أثناء مراقبته الطائر، فالتقط صدَفَة من الشاطئ، شَقَّ بها صدره، وأَخرجَ منه هذا الشىء، رآه ينتفض فى يده، فوضعه بجواره على الرمل، تحدَّثَ معه قليلاً فأحبَّه، وفَهمَ أنه هنا ليؤنسه فى العالم من بين أشياء أخرى يفعلها معه، ثم أعاده ثانية داخل صدره، وقبل أن يُغلقه عليه نطق الشىء اسمَه :”قلب، اسمى قلب”، هزَّ “إنسان” رأسه، وبعد أن أغلق صدره عليه بإحكام، أحسَّ أنه يمتلكه، وكان هذا أول شعور بالامتلاك، وأول شىء يشعر “إنسان” بامتلاكه، لكنه سيعرف بعد وقت قصير أنه لم يمتلكه فى أيَّة لحظة، وبعدها سيعرف أنه لم يأت العالم ليمتلك أىَّ شىء.
ابتسم “إنسان” ابتسامته الأولى عندما أخبره “بحر”، “غابة”، “سماء”، “نهر” و”جبل”، أنهم كانوا يستقبلونه على طريقتهم عندما جروا باتجاهه فى وقت واحد، لكنه عندما فزِعَ وجرى منهم، ألهمهم ذلك أن يطاردوه ويلعبوا معه لعبة “الاختفاء”، ثم أخبرته “سماء” أن ابتسامته جميلة، وعندما لم يفهم ماذا تقصد، أشارت إلى ما تبقَّىَ من ابتسامته فى وجهه، فمدَّ يده يتحسس تلك البقية بأصابعه، ويُجرِّب أن يبتسم عدَّة مرات، وفى كل مرة يحاول أن يكتشف ملامح “ابتسامة”، وكأنها شئ يُضاف إلى وجهه الأصلى وليست شيئًا يتشكَّلُ من تفاصيله ومشاعره، سيلاحظ “إنسان” بعد سبع ابتسامات أنهم يراقبونه فيتوقف، ويطلب منهم أن يلعبوا معه من جديد لعبة “الاختفاء”، فيلعبونها طوال نصف يوم، وفى كل مرة يضيفون إليها قواعد جديدة لتصير أكثر متعة، حتى اشترك فى اللعبة وجه جديد، عرَّفهم بنفسه: “موت”، ولم يَذكر عن نفسه شيئًا آخر، كما أن أحدهم لم يكن يعرف عنه أىَّ شىء.
كان “موت” يلعب بطريقته الخاصة، أضاف إلى العبة قواعد جديدة، وطلبَ مشاركة عناصر وأفراد جُدُد، فوافقوا، ورغم أن القواعد التى أضافها “موت” إلى لعبتهم كانت مؤلمة ومخيفة فى البداية، إلا أنهم لم يقوموا بإلغائها، كانوا مولعين بأن يكتشفوا جديدًا كل يوم، كما أن هذه القواعد جعلتهم يعرفون أشياء ومشاعر لم يعرفوها من قبل، وبسببها أيضًا حصل كلٌ منهم على شىء لم يكن لديه من قبل، اسمه “ذكريات”.
ولأن “إنسان” كان الأكثر حساسية وتأثرًا بالقواعد الجديدة، فقد عوَّضَه “موت” بهدية قال إن اسمها “نسيان”، فصار “إنسان” هو الكائن الأكثر تأثرًا ونسيانًا معًا، لذا، عندما يذهب إلى أماكن خاصة، أو يجلس مع أفراد بعينها من الكائنات، فإن هذه الأماكن والكائنات تُذكِّره بما نساه، كان الأمر عاديًّا فى البداية، لكن مع تكرار تذكير الكائنات له، بدأ يشعر بإحساس جديد سبَّبَ له الحيرة لبعض الوقت حتى وجد له اسمًا: “حنين”، وبمرور الوقت اعتاد “إنسان” أن يشعر بحنين لعوالمه التى تلعب معه لعبة “الاختفاء”، حتى لو لم يذهب لأماكن أو يلتقى كائنات تُذكِّره بها، كما صار “موت” عضو أساسى فى اللعبة، وصارت القواعد التى أضافها إليها أصيلة فيها.
لأنه الأصغر، والأكثر حساسية، دخل “إنسان” كل البيوت، فكانت الكائنات تستقبله، تُطعمه من طعامها، تدعوه لسهراتها الخاصة، وتحكى له حياتها، ما جعله يكتسب خبرات وأصدقاء كل يوم، كما انتقلت إليه الكثير من طبائع الكائنات التى تستضيفه ويصاحبها، وقد أحبَّتْ جميعها أن ترى نفسها فيه، هو الصغير الذى يُحب الجميع أن يروا فيه أنفسهم، وكان هذا ما يُقلِق “إنسان”، ويجعله أحيانًا غير مفهوم حتى لنفسه، وبمرور الوقت، والمزيد من التجارب، لم يَعُد شىء يفاجئ “إنسان” أكثر من نفسه، فكلما دخل تجربة اكتشف بداخله عالمًا جديدًا، وكائنًا لم يكن يتوقعه، لذا، كان فى حاجة إلى صديق لا يخدعه، لا يكذب عليه، ويجده كل الوقت، ولم يكن أقرب إليه من “قلب”، فكان “إنسان” يُخرجه من صدره، يُجلسه بجواره، ويتكلم معه، كان “قلب” صادق دائمًا، ومع استمراره فى الصدق دون توقف، صار “إنسان” يتمنَّى منه أن لو يكذب قليلاً، خاصة بعدما تعرَّف على “كذب” وأحسَّ بأنه يحتاج إليه أحيانًا، لكن “قلب” لم يكن ليُغيِّر طريقته أبدًا، وهذا ما أغضب “إنسان” وجعله يفكر فى التخلص منه، وفى اللحظة التى فكَّرَ أن يفعل، أحسَّ “قلب” بذلك، فتوقف عن الكلام تمامًا، وبعد أن أعاده “إنسان” داخل صدره، ثبَّتَ “قلب” نفسه بين ضلوعه بحيث لا يستطيع أن يُخرِجه ثانية، فى هذا الوقت كان “إنسان” قد تعرَّف إلى أصدقاء “كذب”، وصار قادرًا أن يُحَمِّل “قلب” مشاعرَ ورغباتٍ كثيرة متناقضة، ومنذ اليوم الذى توقف فيه “قلب” عن الكلام بصوت مسموع والخروج من صدر “إنسان”، لم يَعُد أحدٌ قادرًا على أن يسمع ويعرف ما فى قلوب الآخرين، وكان هذا يحدث بشكل جزئى، كما ظهرَتْ كلمة “أسرار” فى العالم بشكل قوى بعد ظهورها البسيط لأول مرة منذ سنوات بعيدة، وبسرعة تَسلَّلَت إلى “قلب” الكثير من المشاعر التى كانت مختبئة فى الحياة، وصارت كل مشاعر العالم تَقضى حياتها بين الدخول فى “قلب” والخروج منه.
“حياة”، ستعترف بحبها “لإنسان” قبل أن يعترف لها، ستقول إنها هنا لأجله، تَذْكُر له عمرها الحقيقى، وتقول أنْ ليس مهمًا كونها أكبر منه، فهى تحبه وهذا يكفى، ستكون قصتهما أجمل قصة حب على الأرض، يعيشان فيها كل المشاعر الممكنة، ولا يتوقفان عن اختراع مشاعر جديدة كل يوم، سواء بالألم أو السعادة، وهذا ما يجعلها قصة حب حقيقية.
ثم تبدأ الكائنات فى التعامل مع “إنسان” باعتبار أنه قد عاش العالمَ بما يكفى لتقسو عليه، حتى إنْ كانت وستظلُّ تحبه، ويصير “إنسان” مغامرًا ومُحِبًّا بما يكفى ليُكمل التجربة، ويتحمَّل الألم والسعادة.
تستمرُّ الكائنات فى ممارسة حُبِّها له وألعابها معه، ويكون “إنسان” هو العنصر الأهم فى كل لعبة.
………………………..
*نشرت فى الثقافة الجديدة