إنتاج الجمال

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شادن دياب

الجمال ليس إلا بهاء الحقيقة”

 أفلاطون

معنى الجمال

كيف يمكننا أن نعيش بشكل جيد دون الجمال، دون تلك التعددية؟ في الأذواق والألوان من الرموز والمعاني التي يقدمها لتأملاتنا ومحادثاتنا

في كتابه معنى الجمال: في أصول الثقافة المعاصرة، يقدّم لوك فيري تحليلاً لتطور مفهوم الجمال ودور الفن عبر العصور، مسلطًا الضوء على التحولات العميقة التي شهدها الفن في المجتمع والثقافة الغربية.

وفقًا لفيري، كان الفن في البداية يُعتبر تعبيرًا عن تناغم الكون. في الثقافات القديمة، خاصة لدى الإغريق، لم يكن الجمال يُعتبر مجرد سمة جمالية، بل كان يُرى كإشارة إلى النظام الكوني والكمال الإلهي. كان الفن وسيلة للتعبير عن هذا التناغم وجعل الكمال الإلهي مرئيًا من خلال الأشكال المثالية.

 هذا المفهوم كان يعتمد على الاعتقاد بأن الفن، من خلال تمثيل الجمال، كان يسمح بالتواصل مع النظام الأعلى والمبادئ العالمية.

أما العصور الوسطى فقد أعادت هذه القناعة بأن الفن يتمثل وظيفته في تجسيد حقيقة عليا وخارجية عن الإنسانية، وهي تلك التي تتمثل في بهاء الصفات الإلهية.

ثورة الذوق وفلسفة الفن

 لا بد من انتظار القرن السابع عشر لتحدث “ثورة الذوق“: الفكرة التي تقول بوجود حسّ داخلي للجمال في قلب الإنسان، وأن هدف العمل الفني لم يعد يتمثل في تجسيد حقيقة كونية أو إلهية، بل في إرضاء حساسية الكائنات البشرية

في القرن الثامن عشر، ومع بداية علمنة الثقافة، بدأت فلسفة الفن تتخذ شكل نظرية حول الحساسية الجمالية..

 لم تعد الأعمال الفنية تظهر بوصفها انعكاسًا لعالم متعالٍ، بل كإبداع من وإلى البشر بالكامل. وهكذا، أصبح المؤلف والمتلقي، العبقري ومستقبله، وجهين لا ينفصلان لهذه الذاتية في مفهوم الجمال

 العقلانية مقابل الجمال

يبدو وكأنه تناقض، لأن مفهومي «الإنتاج» و«الجمال» يبدوان وكأنهما ينتميان إلى عوالم مختلفة تمامًا: عالم الصناعة وعالم الثقافة.

من خلال هذا التناقض، نرى أن الجمال، مثل جمال العمل الفني، قد يُنتج بطريقة تبدو تلقائية، ولكنها تأتي من حالة من التناغم والانسجام.

غالبًا ما تُنسينا العقلانية أن الجماليات تُعد عاملاً أساسيًا في عملية التخطيط، وأنه من أصعب الأمور تنفيذها بنجاح.

في الواقع نجد أنفسنا في العديد من الأحيان مضطرين لاتخاذ قرارات واختيار حلول. وفي بعض الحالات، قد تتوافق إحدى الحلول مع جميع معايير التشغيل، والفائدة، والتكلفة، ولكن الغريب أن حلاً آخر هو الذي يروق للجميع.

يرجع ذلك إلى وجود البُعد الجمالي، تلك الجودة التي يصعب تعريفها، والتي يكون الجميع تقريبًا على استعداد للتضحية بصفات أخرى من أجل تحقيقها، سواء كانت هذه الصفات وظيفية أو اقتصادية، رغم أنها قد تبدو أكثر أساسية. هذا التوازن والتناغم الذي يحول الأشياء إلى أعمال فنية حية، تلهم وتثير التقدير العميق

نظام الرداءة والتفاهة وفقًا لدونو:

انقلاب تقوده أقلية متمركزة حول تحقيق مصالحها الخاصة على حساب الصالح العام. هذا على الأقل هو التشخيص القاتم الذي يقدمه ألان دونو، الأستاذ بجامعة باريس الثامنة، في مجموعة النصوص الشيقة التي جمعها تحت عنوان المتوسطوقراطية..

إن هذه الرداءة، التي تُفرض بشكل تدريجي، تبدو كقوة خفية تضعف أسس المجتمع، فتُبدل معايير التميز والإبداع بمعايير التوافق السلبي والمصالح الفردية، متجاهلة ضرورة تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة والبُعد الجمالي

من هم بالضبط «المتوسطوقراطيون»، هذه الطبقة التي استولت، وفقًا لما تقولون، على السلطة في كل المجالات تقريبًا، من الاقتصاد إلى الثقافة وصولًا إلى التعليم؟ وكيف تؤدي الرغبة في إخضاع كل شيء لمنطق الليبرالية المتطرفة، التي تبدو سمة المتوسطوقراطية، بالضرورة إلى إنتاج الرداءة؟

تتخذ كخيط ناظم عجز العديد من الفاعلين المؤسساتيين عن الخروج من أنماط التفكير والعمل المصممة خصيصًا لخدمة المصالح الخاصة الكبرى. وينطبق هذا الأمر على البحث العلمي، والخبرة الاقتصادية، والفنون، والثقافة. وقد بدا من الضروري الإشارة إلى أن الرداءة لا تعني عدم الكفاءة، خلافًا لما قد يُعتقد بشكل عفوي، بل تعني كفاءة مضبوطة بدقة وفقًا لمصالح معينة.

بالفعل، وفقًا لتفكير دونو، قد يتم تقليص مفهوم الجمال تدريجيًا في نظام تسوده الرداءة والتفاهة. في سياق يفضل فيه معايير الأداء، والربحية يُختزل الجمال، الذي يتطلب عمقًا، وابتكارًا، والبحث عن المعنى، إلى مجرد شكل من الامتثال لتوقعات السوق أو للمعايير التي تفرضها النخب أو القوى المسيطرة

قد يؤدي هذا التوجه إلى تقليص قدرة الأفراد والمجتمعات على تجربة الجمال وتقديره في أشكاله الأكثر رقيًا وعمقًا، لصالح رؤية قاصرة ووظيفية له.

مفهوم الأوبرة  (ubérisation)على الجمال

في هذا السياق، قد يؤثر مفهوم الأوبرة على الجمال من خلال تغيير التصورات والمعايير التقليدية. فهذه الاقتصاديات القائمة على المنصات تؤثر على الطريقة التي يستهلك بها الأفراد المنتجات والخدمات المرتبطة بالجمال، حيث يُفضل غالبًا الوصول السهل والتكيف السريع على حساب العمق أو الاستدامة. ومن هنا تطرح تساؤلات مهمة: في عالم تحكمه الفورية، كيف يمكن الحفاظ على مفهوم للجمال يظل غنيًا بالمعاني ومتصلاً بالقيم الإنسانية الأساسية؟

لتغيير معايير إثراء الجمال وزرع الذوق في عالم يشهد تحولات جذرية بفعل الأوبرة (ubérisation)، يجب أن ندرك أن هذا الظرف الجديد لا يُعيد تشكيل عاداتنا الاستهلاكية فحسب، بل يُعيد تعريف مفاهيمنا للجمال وقيمه.

إن عالم اليوم، الذي تسوده السرعة والإيقاع المتلاحق، يكاد ينسى لحظات التأمل، تلك اللحظات التي تمنح الجمال معناه الحقيقي. لذا، علينا أولاً أن نُعيد إلى المشهد الإنساني التربية الفنية والثقافية، كنافذة تفتح العيون على جمال غير تقليدي، جمال يتخطى حدود الوظيفة إلى أبعاد أعمق من الروح والإحساس.

.. ولعل أجمل ما يمكن أن نقدمه هو إعادة الجمال إلى الناس أنفسهم. إذا كانت الأوبرة قد حوّلت الأفراد إلى فاعلين في استهلاكهم، فلماذا لا نجعلهم شركاء في ابتكار الجمال نفسه؟ منصات تشاركية، ورشات إبداعية، وفضاءات حرة لتلاقح الأفكار، يمكن أن تُعيد تعريف الجمال على أيدي الجمهور ذاته

في نهاية المطاف، إن تغيير معايير الجمال في عصرنا الحالي ليس مجرد دعوة للتكيف مع التحولات، بل هو دعوة لاستعادة الإنسان الثقافة الجمالية، وجعل الجمال انعكاساً لقيمنا الأسمى ومبادئنا العميقة وفي خضم هذا العالم المتغير، علينا أن نزرع بذور جمال شامل ومستدام، جمال يتناغم مع الطبيعة ويحترم تنوع الثقافات، لا جمالاً يذوب في السطحية أو يخضع للنمطية التي يفرضها العصر الرقمي.

مقالات من نفس القسم