إله السينما الصيفية

رؤى المدينة المقدسة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
نهض وابتعد عن فراشه، توجه للحمام ليستحم وينفض آثار الكوابيس عن عقله. وكالمعتاد تأنَّى وترك غطاء الوعاء الكبير يتقافز أمام عينيه، بينما تتسارع الأبخرة في أسفله. كان هو أيضًا أسفل الغطاء، يجاهد ليخرج.

أميمة صبحي 

  كانا قد عادا لتوهما من رحلة للمدينة، سعد وأبوه. كان سعد مرتديًا سترة بنية كالحة بالكاد غلَّفت قميصه وساعدت في تدفئته في ليل خريفي بارد. كانت زيارة قصيرة تأرجح فيها الصغير فوق السلم المتحرك بالمبنى التجاري الجديد الذي عمل أبوه في السينما الصيفية أعلاه. صعد ونزل عدة مرات على السلم المتحرك، وتدرب على التوقيت المناسب الذي يدفع فيه جسده خارج السلم دون تعثُّر. وحين بدأ عرض الفيلم، أجلسه أبوه على كرسي خالٍ في الصف الأخير، رغم أن الكراسي أمامه كانت خالية أيضًا إلا من بعض الوحيدين.

  عين على الشاشة وعين على أبيه، فيما كان أبوه يصول ويجول في الأرجاء، يبيع الفشار واللب الأبيض والأسمر. أحل ظل أبيه محل الفيلم. رآه أعلى الشاشة الضخمة، برأس عارٍ منتصب نحو السماء. يلقي بتساليه على المشاهدين برفق، كل صف على حدة. وبعد انتهائه، يمسك بيديه خيوطًا طويلة غير مرئية، ويبدأ في تحريك الممثلين. يخلع عن هذه ملابسها ويسمح للشاب أمامها بتقبيلها. يصنع مشاهد الضرب والحركة، يُحرِّك الخيوط بعنف فتصطدم السيارات بعضها ببعض وصوت الارتطام يخرق أذنيه. كان إلهًا للسينما، طويلاً، رفيعًا، أصلع، استبدل شعره بخيوط التحريك، يمكنه قضم قطعة سحاب بين أسنانه ونفثها فوق رؤوسهم، فتخرج ناعمة رقيقة كدخان يفصلهم عن تيارات الهواء الباردة.

  حدث الأمر بغتة بعد عودتهما للبيت، لم يكن يدرك أن أمرًا كهذا يمكن حدوثه. لكنه أحس بأن العالم يُحدِّثه، يعطي له الإشارات ويحثه على الفهم والاستجابة. حين طردت أمُه أباه وألقت بملابسه من شباك حجرتهما، سهر سعد ليلته. لم يتخيل أباه يخطو لمحطة القطار، ولم يره جالسًا على كرسيه كالمسافرين، بل كان موقنًا بأنه حلَّق حتى حل على شاشته ومارس دوره اليومي كما اعتاد.

  ليلتها، سمع تخميشًا على زجاج نافذة حجرته القريبة من الأرض، قبل أن يمد النور رقعته. التصق أكثر بفِراشه كقراضة توجسًا وقلقًا. دفعت يد ما مصراع النافذة وألقت ورقة كبيرة مطوية في عجالة. أسرع سعد ليلتقطها، ثم فتح النافذة مبتسمًا لصاحبها، لكنه كان قد اختفى. لم يعرف قط إذا كان أبوه من ألقاها أم أنه شخص أوصاه بأن يفعل. لكن أيًّا كان من فعلها، فلا بد أنه كان سريع الحركة، شخص لا يخطو، إنما يطير.

  استدعى سعد تلك الأحداث بعد سنوات بلغت العشر، كما هي بالترتيب نفسه، كأنها طازجة تلمع في ذاكرته. افترش الحقل وأشعل سيجارة، وترك الذكرى تنساب أمام عينيه، بينما جسد أمه الميت ينتظره في الكفن على طاولة الغُسل بالبيت. لم يُرِد رؤيتها، اكتفى بمعرفة أن جسدها الهزيل مهزومٌ هناك، ومتحررٌ أخيرًا من غضب لم تعرف كيف تصرفه، فأمطرته فوق رأسه كسهام مشتعلة.

 كان يراقبها أثناء بحثها عن أبيه. يرى الغضب يمتد ويتوغل أكثر في روحها يومًا بعد يوم. خيط طويل كحنق غليظ التف حول عنقها القصير، حتى خنقها خنقًا ولفّ جسدها الأحمق. وفي كل مرات فشلها تموء بإحباط وتتكور في فراشها وتجر سعد للهاوية معها. ورغم سخطه لكنه كان يعدّ طعامها بنفسه حين تتوقف تمامًا عن تناوله. يجلس في المطبخ يتنسَّم الروائح الشهية لأكلاته البدائية، محاولاً تشتيت توبيخ أمه له المتناثر في ذرات الهواء.

  هرب منها دومًا للحقول الواسعة. هناك، مع صبية آخرين هاربين، عبث بأعضائه ودخن السجائر وألقى النكات القبيحة، وأقسم على المغادرة والبحث عن أبيه فوق شاشات السينما بالمدينة. لكنه لم يجد مهربًا من مسؤولية ما خفية نحوها، كان يعزي نفسه بمحاكاة الأفلام التي رآها مع أبيه. يجمع الصبية ويجلسهم في صفوف بالحقول المجاورة. يحكي لهم قصة الفيلم ويختار منهم من يمثلون معه الأحداث، ويقضون نهارهم يحفظون الجُمل ويعيدون تمثيل المشاهد واللقطات. لم يكن في بلدتهم قاعة سينما، وبعض الصبية لم يروا الشاشة الضخمة قط. فأصبح سعد أكثر لمعانًا بينهم، يسير فيتبعونه مأخوذين بسحر حكاياته وأفلامه.

  تأجَّل رحيل أمه عامًا بعد عام، والورقة المطوية في عجالة ما زالت بحوزته. يربت عليها كلما تفقدها، والبريق المنعكس من ضوء الشاشة فوق صلعة أبيه يداعبه.

  بعد عودته من مراسم الدفن، كانت الأمور مبهمة. لم يتضح شيء بعد واستمر الالتباس يخيم عليه. ملابس أبيه المتطايرة من الشباك، عويل أمه، ورقة مطوية في عجالة، شاشة ضخمة تلامس السحاب، طعام بدائي فوق الوسائد، توبيخ متواصل يملأ رئتيه، حكايات تركها على النواصي وبين الحقول، خمش أظافر على زجاج، ورؤى ضبابية رآها في ليلته الطويلة الأولى له بعد رحيلها.

  نهض وابتعد عن فراشه، توجه للحمام ليستحم وينفض آثار الكوابيس عن عقله. وكالمعتاد تأنَّى وترك غطاء الوعاء الكبير يتقافز أمام عينيه، بينما تتسارع الأبخرة في أسفله. كان هو أيضًا أسفل الغطاء، يجاهد ليخرج.

ملأ البانيو الصغير بالماء البارد، ثم أطفأ نار الموقد ونقل الوعاء بجانبه. وبعد خلط المياه الساخنة بالباردة، خلع ملابسه بسرعة واندس في الماء. مدّ جسده أمامه وغمر رأسه تمامًا، كأنه دُفن بصحبتها، كأنه لم يترك القبر الذي وضعها فيه. أغمض عينيه ورآها، امرأة سمراء قصيرة صارمة، حِدتها ظاهرة على محياها، تبتكر له العقاب تلو الآخر، لم يتذكر قط ذنبه، لكن العقاب لم يلبث أن طارده كل هذه السنوات.

  يتذكر وقفته، طفلاً، وحيدًا خائفًا، يغتسل بمفرده بين جدران هذا الحمام المتهالك. مندسًا بين جوانب البانيو الصغير وقد أغراه الماء الساخن وأشعل أعصابه. وبينما قطعة الليف تزحف فوق جسده مارًّا بصدره نزولاً إلى البطن ثم أسفله، دخلت أمه بغتة وصفعته على ظهره بقوة، ظنًّا منها أنه يعبث بعضوه؛ ضم فخذيه لصدره خشية قرصة مفاجئة. استمرت بالصفع قائلة بغضب “ما صدقت بقيت عريان لوحدك يا ولا؟ إنت عارف اللي بيلعب في بلبله ربنا بيعمل فيه إيه؟”. لم يعرف قط الإجابة، وأصبح أكثر حرصًا في مراته المقبلة. حين فتح عينيه رأى البخار يتصاعد من حوله حتى السقف، مُكوِّنًا فقاقيع ماء صغيرة متجاورة تستعد للهطول مرة أخرى، لتصبح برك ماء ضحلة فوق البلاط الإسمنتي. وقد تلاشت ملامح أمه من أمامه وكذلك الغضب.

  كان قد نوى المغادرة منذ أسابيع قليلة. لكنه لم يعرف هل عليه إخبارها أم يتركها هكذا ويمضي. سكنت تساؤلاته برحيلها المفاجئ. أخبر الجميع بالمدافن أنه لن يتلقَّى أي عزاء بعد الدفن، وصمَّ أذنه عن الأسئلة والاقتراحات، تغلف بحزن رفيع ليبتعد عنهم ويتخلص من عبء الواجب.

  وبعد انتهاء الماء الساخن من الوعاء، ارتدى ملابسه بسرعة حتى لا يتسلل البرد لعظامه الصغيرة. كان قد انتهى من إعداد حقيبة وحيدة بها ما يصلح للمدينة، وتأكد مرة أخرى أنه لم ينسَ الورقة الكبيرة المطوية في عجالة. ورقة كان بوسعها إراحة أمه، لأن أباه كتب فيها عنوانه تفصيليًا، ولم يخبرها سعد قط بأمرها. “لم تستحقها” همس لنفسه بلهجة قاطعة ليغلق كل نوافذ العواطف التي تريد الحياة.

  وهناك، بالمدينة، لما لم يجد أباه في العنوان، ذهب للمول الذي لم يعد جديدًا وتعطل سلمه الكهربائي للأبد. توجه لصالة السينما الصيفية التي لا تغلق أبوابها حتى في الشتاء. اعتلى الشاشة الضخمة، وفي المنتصف انتصب واقفًا وألقى تساليه التي ابتاعها قبل صعوده. ألقى حبَّات اللب والسوداني المقشر والفشار، وهو يرى الجميع يركض في اتجاهات مختلفة، حشود صغيرة مسرعة كالنمل. نثر خيوطه الطويلة غير المرئية ليتحكَّم بالمكان. وترك الممثلين أحرارًا ليرتجلوا نصًا خاصًا بهم، لأول مرة، استطاع إعادة النظام وإخماد الفوضى. أدرك أن ذلك إرثه الذي طالما انتظره، وأن أباه حلّق بعيدًا، بينما بريق صلعته لا يزال يعكس الضوء وينير المكان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة ومترجمة مصرية، والقصة من مجموعة “رؤى المدينة المقدسة” المرشحة على القائمة الطويلة لجائزة ساويرس 2021

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

ناجية

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

ثلاث قصص

آية الباز
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ظُلمــة