باسل المقوسي*
تحرير: محمود بركة
كانت الفنون دائما وسيلة الشعوب للتواصل دون لغة، لكنها الآن أداتهم في التشبث بالحياة ومقاومة الخوف الذي أصبح ملازماً لحال كُل أطفال غزة والكبار والنساء، ونحن نحاول من خلال ورش الرسم مساعدة الأطفال في التخفيف من هذا الخوف والرعب الذي يحيط بهم في كل يوم وثانية وكل لحظة تمرّ.
حين يأتي السؤال في أوقات تستدعي الفعل للاستمرار في مواجهة كل ما يمكنه عمله لتعطيل الغياب عن حضور الحياة رغم الآلام وصعوبات تجاوزت ما يتصوره العقل، استرجع سيرة ثلاثين عاماً من العمل كمعلم للأطفال في مجالات الفن ومن هم ذوي صعوبات النطق والكلام والسمع. فأكتب عن الحرب والحياة والفن. بدأت الحرب وتوقفت الحياة، لا عمل ولا فن، فقط نحاول الركض من مكان لاَخر باحثين عن النجاة من القصف والقتل الي يطاردنا، نمشي سريعاً لنبحث عن الماء والطعام، والجري صار يأكل كل الأوقات في هذه اللحظات نفقد جزءأ من إنسانيتنا وكرامتنا وكل ما يفوق الاحتمال، الأطفال في كل الأماكن بلا أحذية وملابس مهترئة ولعل محاولتهم إيجاد قطعة من الخشب والورق هو الذي يسيطر عليهم في تلك الأوقات الصعبة لإشعال النار من أجل لحظة من الدفء، واَخرون يحملون أنابيب فارغة بحثاً عن الماء، وطوابير من الناس عليها تتجسد صور تفوق الخيال وتفتق الوعي.
لم أقف عند السؤال في مواجهة مشهد يكتب حقيقة المكان الذي لا يناسب الأطفال وما يقومون به من عمل وتحمل المسؤولية، لكن من أنا حتى أجيب على استطاعتي فماذا أفعل؟
أنا باسل المقوسي فنان تشكيلي، رسام إن شئت، وهذه هي قوتي وأدواتي. وطريقتي كسلاح ناعم في يد المقاومة في قطاع غزة، ومنذ السادس من أكتوبر في نهاية كُل يوم، يُصاب الإنسان بالدهشة لأنه ما يزال موجوداً، على حد تعبير (فيليب روث) شخصياً وعندما أذهب للنوم كل ليلة ابتسم وأقول “لقد عشت يوماً آخر”، وتتكرر دهشتي ، عندما استيقظ بعد ساعات لأرى نور صباح اليوم التالي، لاكتشف أنني باقٍ في هذا العالم، وأقول لقد نجوت لليلة أخرى.
بدأت بجمع الأطفال قريباً من الخيمة التي تأويني، أعطيتهم بعض الورق والألوان. ولكم فرحوا بها. رسموا، أطلقوا عنان خيالهم ووضعوا ألواناً على الورق الأبيض، يجب أن تروهم وهم يرسمون متحدين تماماً مع ما تجسد خيالاتهم بالأوجه التي يبدو عليها الجدية، التغير تدرجياً لترتسم مكانها ابتسامة فرح ما أنجزوه من رسومات، وهذا ما يساعدني أنا على أن أحافظ على إنسانيتي وأخلاقي بالرسم، فأقضي أوقات الهروب من أجواء وقصص الحرب بالرسم، لأوثق بالكاميرا مع زملائي الصحفيين الشهداء منهم والأحياء يوثقون أفضل بكثير، ولكن احاول مقاومة الوقت والذي تم فرضه علينا.
هذا ما أفعله خلال الحرب، أعلم جيداً أنه ليس بالكثير، ولكنني أعرف أيضا أن الأطفال أتيحت لهم الفرصة لبعض الوقت حتى ينسوا الحرب والخوف والجوع. لينسوا الوقت والعذاب والكوابيس النهارية والليلية، كفنان أعرف جيداً قوة الفن، وأعلم أنه يساعد على الهدوء والتنفس والتركيز، وفوق كل ذلك هو المتعة المفيدة والهامة
العائلات وخصوصاً الأمهات أحبوا عملي مع أطفالهم، يقفون جانباً منهم ليشاهدوا أبنائهم، فترتسم الابتسامة عليهم، ليكن طلبهم أن أقوم بعمل ورش للرسم وكانت تلك من أصعب الورش التي أنفذها
كانوا يرسمون بيوتهم وأحلامهم، يبكون وابكي معهم، من الصعب جداً عقد هذه الورش في الحرب البشعة والإبادة الجماعية، ولكن نحب الحياة نحب أن نموت ونحن سعداء، وهذا ما يجعلني استمر رغم كل شيء يحدث، ومن ذلك الوقت عملت بإصرار على تنفيذ ورش الرسم مع الأطفال والأمهات والفتيان والفتيات وذوي الإعاقة المختلفة أصحاب الهمم والأحلام. ليس لدي ما أفعله غير ذلك وإني أحب ما أفعل، وقمت بتسمية كل ذلك بالتنسيق مع مركز ومخيمات الإيواء ” إقامة فنية وليس نزوح” رافضاً كلمة النزوح بالرسم لوحات وجداريات وأنشطة مختلفة لنساعد ونساند الأطفال في التخفيف من الاَلام والأوجاع، ولعلنا نستطيع.
……………………………………..
*باسل المقوسي، فنان بصري فلسطيني ومصور حر، تتلمذ على يد الفنان مروان قصاب، له العديد من المعارض الفنية وشارك في معارض عربية ودولية وحصل على العديد من الجوائز ومنها أوسكار بينالي ثقافة النيل في القاهرة، أقام أكثر من 100 ورشة مع الأطفال منذ الأيام الأولى للحرب حتى الاَن ومستمر في ذلك رافضاً كل كلمات النزوح باحثأ عن الحياة الحرة.