د. عزة مازن
في مجموعته الأولى والأخيرة والوحيدة “الإعلان عن قلب وحيد” تسيطر مشاعر عشق العزلة واللا طمأنينة على كاتبها الشاب “محمد حسن خليفة” (1997 – 2020)، ولا يستطيع فكاكًا من هاجس الموت الذي يمتد عبر معظم قصص المجموعة السبعة عشر. هل كان الكاتب الشاب الموهوب يستشعر قرب مفارقته للحياة، لتُكتب شهادة ميلاده الأدبية على شهادة وفاته؟ لم يحتمل قلبه المعلول فرحة صدور مجموعته القصصية الأولى في معرض القاهرة الدولي للكتاب (2020)، فسقط مفارقًا الحياة. على مدى سبعة عشرة قصة قصيرة تتجلى موهبة استثنائية في السرد القصصي، وثقافة عميقة ولغة مرهفة، مما يدهش القارئ ويستوقفه عندما يعلم أن كاتبها لا يزيد عمره عن الثالثة والعشرين عاما.
تٌستهل المجموعة بمقتطف من “كتاب اللاطمأنينة” للشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا: “أنا ضواحي بلدة غير موجودة، التعليق المسترسل على كتاب لم يُكتب قط. أنا لا أحد على الإطلاق. لا أعرف كيف أشعر، كيف أفكر، كيف أريد”.
تسيطر مشاعر “اللاطمأنينة” والإستغراق في العزلة وسيطرة هاجس الموت على كثير من قصص المجموعة. يتضافر الواقع مع الفانتازيا، تؤطره عوالم الكوابيس والأحلام. في القصة الأولى “فكرة ظل ما” يتحاور السارد مع ظله الراغب في الإنفصال والتحرر التام، حتى لو كان ذلك على حساب السارد، صاحب الظل. في قصة “موت نجمت” يضفر الكاتب الواقع مع عالم الأساطير وحكايات التاريخ الفرعوني. تحتفظ الجدة بقطعة مرمرية من مقبرة وجدوا بها قطعًا من كنوز مصر القديمة في سرداب، وقت بناء بيتهم، رفضت أن تأخذ غيرها، وهي “قطعة من المرمر يعود نسبها إلى الملكة “موت نجمت” زوجة حور محب آخر ملوك أسرته”. يسأل السارد جدته، التي اتهمها جده وأبوه بالجنون، وهي تمسك بيده لقراءة كفه، عن سر اختيارها لتلك القطعة دون غيرها، فتقول: ” كانت صغيرة، تمنت طفلًا وماتت وهي حامل فيه، عظامه الطرية في طور التكوين، حفظها التحنيط مع الجثة، وهذه القطعة وجدوها في المقبرة، محفوظة في صندوق خاص من الأبنوس” وتسترسل: “رؤى بصرية تأتي من بعيد جدًا، قديمة العمر والرائحة، إلا أنها تتمثل أمامي حية، كلما ارتديتها على صدري، كأن تخرج من عصا موسى ثعابين تلقف كل ما يسعى، نار مشتعلة، أنت زدتها بيدك النحيلة هذه”. تطلب الجدة من الحفيد أن يرتدي القطعة في رقبته، حتى لا يموت في ريعانه، مثل أبيه، وتقوده القطعة المرمرية لاكتشاف مقبرة “موت نجمت”: “البس القطعة في صدرك، يبان ليك طريق خلف طريق، اقرأ آيات أبوك، موجودة في جسدك علامة. آمن إن ل”موت نجمت” حق في الظهور، الحق يرجع لأصحابه ولو بعد ألف سنة”. يرتدي الحفيد القطعة فتحمله إلى أعماق التاريخ وقلب الأساطير: “على كف يدي انشقت الخطوط وخرج نور عظيم…، دق عنيف داخلي، وقدمي متجمدة، بين الخطوة والخطوة مائة سنة، شيئًا فشيئًا أسقط في بئر لا آخر له، وصوت الجدة في كل ركن، يتبعني أينما حللت، تغطسني فيه وتدعك جسدي بطمي النيل، وتتلو ما لا أفهمه”. ينتقل السارد في المكان بعيدًا في جوف التاريخ: “صحراء واسعة، أحمل فأسًا وحبلًا متينًا، أنظر في يدي بين لحظة وأخرى، أقيس مسافة قرب حجارة ضخمة كتلك المستخدمة في الهرم الأكبر، نزعت الفأس، وضربت بها على الأرض، شبرًا شبرين، تتسع الحفرة، الآن تبدو على شكل قبر، العرق يغمر الجسد والقطعة، الأرض تنفتح، قريبًا يخرج من باطنها آية تشهد على “موت نجمت””.
في قصة “بقايا ضوء” تطبق شرنقة الوحدة والعزلة، التي اختارها السارد لحياته، على نفسه، فيختلق رفيقا يشبهه ويؤنسه، بل ويحمل نفس الاسم وله نفس الهوايات والمواهب. يعيش السارد وحيدًا في حجرة منفصلة على سطح إحدى العمارات، يغوص في عالمه الأثير مع الكتب، ولكنه فجأة يشعر بحركة مريبة في الجوار. يخرج للبحث عن مصدر الصوت دون جدوى، فيعود إلى كتابه الذي يقرأه عن الأسماك، ويقوده عالم الأسماك إلى الإستطراد في الحكي عن وحدته وخشيته من العالم الخارجي. فجأة يسمع طرقة على باب غرفته، وعندما يفتح الباب يجد من يخبره أنه الساكن الجديد في الغرفة المقابلة لغرفته. يحمل الساكن الجديد نفس الإسم “سعد”، وهو مثله يعشق القراءة والعزف على العود. تتوطد الصداقة بينهما، ويتردد السارد على غرفة جاره، الساكن الجديد، يستمع إلى عزفه على العود ويشاركه العزف. وبعد سهرة مع جاره الجديد، يغادر السارد غرفته ويؤنبه ضميره على إنسياقه لذلك الشخص الغريب. بعد نوم عميق يستيقظ السارد على طرق صاحب العمارة لبابه مطالبًا إياه بإيجار الحجرتين. يتعجب السارد، فيرد عليه الرجل: “الأوضتين اللي أنت مأجرهم من ساعة ما سكنت هنا يا سعد، هو كل مرة نفس الموال” ؟ يخبره السارد أنه لا يستأجر سوى حجرة واحدة والأخره يستأجرها جاره الجديد “سعد عمران”. يزداد غضب صاحب العمارة: “سعد عمران، أومال أنت مين يا سعد؟ أنت هتجنني يا بني؟! مش إنت اسمك سعد عمران ولا غيرته، مش كفاية صوت العود اللي قارفنا بيه طول الليل”! ويشهد مع الرجل أحد سكان العمارة، مطالبًا السارد بدفع إيجار الغرفتين. ينتهي السرد بالسارد وقد ازداد ذهوله وسقط مغشيًا عليه: “كل هذا يحدث أمام عيني وأنا في ذهول تام، أكاد يغمى علىّ من وقع الصدمة، انتابتني حالة من الصمت، وعدم الإحساس بما يجري، حتى غاب صوتهم تدريجيًا عني ووقعت على ظهري”.
وتتأكد العزلة جلية في قصة “إعلان عن قلب وحيد”، التي تحمل عنوان المجموعة. يٌستهل السرد بإعلان عن قلب وحيد، وجده السارد معلقًا على بعض الجدران في الشارع “عبارة عن ورقة بيضاء مكتوب في منتصفها: “قلب وحيد” ورسمة لقلب منكسر، لم أجد توقيعًا، ولا أي معلومة تدلني على صاحب الإعلان”. يعود إلى بيته ويجد معه عددًا من تلك الإعلانات. ولكن عندما يسأل بواب العمارة يخبره أن الجدران نظيفة ولا تحمل أية إعلانات. في المنزل، يرى نجومًا على السقف، مرسومة بالقلم الرصاص، وعندما ينام يرى نفسه يعلق على الجدران المؤدية للبيت “ورقة بيضاء مكتوب في منتصفها إعلان عن قلب وحيد، ورسمة لقلب منكسر، دون توقيع أو عنوان”.
ويتجلى هاجس الموت في قصة “روحي مقبرة”. يرى السارد خبر موته منشورًا في أحد الجرائد، فيعلقه على الحائط: “علقت خبر موتي أمامي على الحائط، كل صباح ومساء كنت ألقي نظرة عليه، لأطمئن أن ورقة الجورنال التي كُتب فيها الخبر بخط كبير، وصفحة أولى، بعيدًا عن الوفيات، مازالت سليمة، وتستطيع أن تقاوم معي الأيام القادمة”. وتنتهي القصة بالسارد يعثر على خبر وفاته، مكتوبًا بخط يده “وتحته صورة ضوئية للخبر” يتبين له “أنها نسخة من تلك الموجودة في الصفحة”!
رحم الله الشاب المبدع محمد حسن خليفة، موهبة استثنائية، أبى عليه إيمانه العميق بنفسه وموهبته أن يرحل قبل أن يسجل إسمه في سجل المبدعين ذوي الحس المرهف والثقافة العميقة.