الألم لا يخلق الغربة بين الشركاء في حياة واحدة.. الألم يكشفها.. لماذا إذن لاحظت هي أن الرجل يبدو عجوزاً في الليل داخل هذه اللحظة تحديداً؟، ولماذا لاحظ هو أنها تبدو عجوزاً أيضاً في نفس اللحظة؟ .. ليس هناك أقدر من وقت الإذلال ـ خاصة لو كان مفاجئاً مع محاولة إخفائه ـ لمواجهة ما يصعب رؤيته ربما في زمن آخر .. إن النظرة العامة للتعاسة تضم الذين ينتمون إلى نفس العالم من القهر داخل إطار شامل .. يصبحون كياناً كلياً، تغيب بين حدوده الفروق والاختلافات لصالح الحقيقة المفروغ منها .. لكن للشعور بالمهانة خصوصية قد تسبق الشراكة نفسها، وقد تعثر على ما يدعمها حينما يصبح الفرد جزءاً من حياة تتعامى عن الجوهر الشخصي احتفاءاً بالهم الجماعي .. مشهد (المطبخ) في قصة (الخبز) لـ (فولفغانغ بورشرت) يقول لنا أن هناك عزلة تفصل بين المدفونين في موت واحد، تجعل أحدهم يتحرك في غفلة من الآخر .. هذه العزلة ليست ناجمة عن الموت ذاته، وإنما هي أساس أزلي، مهيمن فيما قبل سقوطهم داخله، وكل ما فعله الموت هو تقديم المساعدة على التحديق في عيني العزلة الدمويتين.
إننا نستطيع ـ لو أنصتنا جيداً ـ أن نسمع التساؤلات المتطايرة دون صوت داخل الفراغ المكتوم لهذه القصة التي تبدو أشبه بذبح خاطف يمرق في صمت وسط ظلام ثقيل:
ما الذي منع الزوج من المصارحة؟ .. كيف لم تشعر الزوجة بما عجز عن الإفصاح به؟ .. ما الذي حال دون تدفق الإحساس بالشفقة من قلب الزوجة إلى سطح اللحظة التي اكتشفت فيها ادعاء زوجها بحيث لم يتجسّد هذا الإحساس في تصرّف بالغ الوضوح؟ .. لماذا اتسم رد فعل الزوجة بشيءٍ من الجمود ـ رغم الشعور بالشفقة ـ بالتزامن مع التفكير في أن زوجها يكذب عليها بعد تسع وثلاثين سنة من الزواج؟ .. هل كان استياءها يرجع بدرجة أكبر إلى أن الكذب كان ناجماً عن لحظة ضعف لم يسمح لها الزوج أن تشاركه فيها؟ .. هل لأنها اكتشفت أنها لم تتمكن وحدها من الفهم؟ .. هل لأن هذه اللحظة جعلتهما يتعرفان على بعضهما كأنما يلتقيان للمرة الأولى صدفة؟ .. هل لأن كلاً منهما أيقن فجأة، وعلى نحو غير مسبوق حين نظر في وجه الآخر إلى أي مدى اقترب رفيقه من الفناء؟ .. هل لأن الغموض غير الرحيم للماضي تجلى أمامهما الآن كاملاً وعارياً كما لم يحدث من قبل؟ .. أين التوحد في الألم إذن الذي كان لابد أن يجعلهما ـ خاصة بعد كل هذه السنوات ـ شيئاً واحداً؟.
علينا أن نلاحظ النبرة التي تتحدث بها إلينا هذه القصة، وأن نتتبع الإيقاع الذي ينظّم حركتها .. هناك تضافر محكم بين الليل والصمت والبرد والعتمة والخبز .. هذه العناصر لا تمثل غطاءاً سميكاً من الوحشة يستحوذ على السرد فقط، وإنما أريد التأكيد على أن كل عنصر منها يتدخل في الوقت المناسب، الذي يخصه داخل القصة فيحدث تناغم بين الصوت والأداء .. هذا التناغم يؤدي إلى حالة من السيولة المختلسة تتوافق مع فعل الاختلاس الذي مارسه الزوج نفسه .. حالة تشبه المراقصة الواهنة لموسيقى الجاز مع الذهول اليائس أمام الوهم، حتى أنك تكاد تسمع ((Blue in Green لـ (Miles Davis) في خلفية النص.
لنتأمل مثلاً كيف (تحركت) يد الزوجة فوق السرير لتكتشف غياب زوجها، وكان هذا ما يفسر لديها ازدياد حدة (الصمت) .. كيف رأت فتات (الخبز) فوق الطاولة مع شعورها بالـ (البرد) القادم من البلاط .. كيف رأى كل منهما الآخر عجوزاً في (الليل) أكثر مما يبدو في النهار مع تنبيه الزوجة له بأن مشيه حافياً سيصيبه بـ (البرد) .. كيف أطفأت الضوء لتحصل على (العتمة) التي ستحجب عنها رؤية طبق (الخبز) .. كيف (قالت) لنفسها أنه حينما يكذب تشعر بـ (البرد) .. كيف حاولت بعد أن أعطته شريحة إضافية من (الخبز) أن ترى زوجها من جديد تحت المصباح، كأنها تريد مقاومة أخيرة للـ (العتمة).
التناسق البارع بين النبرة: (التفكير والتحدث ووصف الشعور)، والإيقاع: (عمل الجسد وانتقاله من مكان لآخر وتوجه البصر نحو اتجاهات منتقاة للرؤية) .. إن سيطرة هذه العلامات (الليل والصمت والبرد والعتمة والخبز) على القرارات المتناغمة للصوت والأداء تكشف عن الحرص ـ فائق الحساسية ـ عند (بورشرت) على تنسيق العزلة .. كيف يفعل ذلك؟ .. إنه يكسبها صفة البداهة حينما يدفعها للمرور بمثل هذه السيولة، وفي نفس الوقت يجعل من هذه البداهة واقعاً مهملاً لا يُرى ـ رغم انسيابه العادي ـ نتيجة حدوثه مختلساً في ظلام بارد.
هل هو خبز حقاً؟! .. هل الموضوع يتعلق ببؤس ما بعد الحرب العالمية الثانية؟! .. ربما .. لكن ربما لن يكون شاقاً على أي منا أن يتلفت حوله ولو لمرة واحدة .. أن يعيد النظر في كل الأشياء التي يتقاسمها مع من يعيشون معه بالتساوي دون أن يكفيه ما يُفترض أنه نصيبه منها .. أن يفكر ـ ولو لمرة واحدة فقط ـ هل ما يُعطي لنا عادل أصلاً قبل أن نكون مجبرين على تقسيمه؟ .. ربما هو أمر شاق بالفعل.
………………………
الخبـــز*
فولفغانغ بورشرت
استيقظت فجأة، كانت عقارب الساعة تشير الى الثانية والنصف. وفكرت للحظة بسبب استيقاظها. اجل! اصطدم احدهم بكرسي في المطبخ واسترقت السمع باتجاه مصدر الصوت، كان الصمت مخيما. كان صمتا عارما، ولما مدت يدها فوق السرير بالقرب منها وجدته فارغا. انه هو الذي جعل الصمت عارما الى ذلك الحد: نفسه كان غائبا. هبت واقفة وتلمست طريقها في عتمة البيت باتجاه المطبخ. وهناك التقيا، كانت الساعة تشير الى الثانية والنصف، ابصرت بشيء ابيض يقف قرب دولاب المطبخ اشعلت الضوء كانا يقفان قبالة بعضهما في ثياب النوم، ليلا في الساعة الثانية والنصف في المطبخ.
وعلى طاولة المطبخ وضع صحن الخبز، رأت بأنه قد قطع لنفسه خبزا كان السكين بعد موضوعا قرب الطبق، وقد غمر فتات الخبز الغطاء. قبل ان تتوجه كل ليلة الى السرير، كانت تنظف دائما غطاء الطاولة كل ليلة. والآن يغمر الفتات الغطاء، والسكين موضوع فوقه، احست ببرد البلاط يدب فيها ببطء. وحولت انظارها عن الطبق.
«ظننت ان شيئا ما هنا» قال، ثم أدوار عينيه بأرجاء المطبخ.
«وانا الاخرى، سمعت شيئا» ردت. ثم فكرت للحظة بأنه يبدو عجوزا في الليل وهو يرتدي قميص النوم، عجوزا بمقدار سني عمره الثلاثة والستين. ولكنه كان يبدو في النهار اصغر من ذلك. وفكر هو الآخر بأنها تبدو عجوزا، خصوصا في قميص النوم لربما يرجع ذلك الى شعرها. لدى النساء ليلا يرجع ذلك دائما الى شعرهن، انه يحولهن فجأة الى عجائز «كان عليك ان ترتدي حذاءك، مشيك حافيا على البلاط البارد سيصيبك بالبرد».
لم تكن تحدق به. ذلك انها لم تكن لتحتمل كذبه، ان يكذب عليها بعد تسع وثلاثين سنة من الزواج.
«ظننت ان شيئا ما هنا» نبس مرة أخرى، ثم أدار عينيه في اركان المطبخ «سمعت شيئا هنا، فحسبت ان شيئا ما يوجد هنا».
«انا الأخرى، سمعت شيئا، ولكن لا شيء هنا».
ثم اخذت الطبق الموضوع فوق الطاولة، ومسحت الفتات عن الغطاء.
«لا، لم يكن هناك شيء» ردد هو الآخر في نبرة مضطربة. اقتربت منه ومدت له يدها وهي تقول: «هيا يا رجل. لقد كان ذلك بالخارج. هيا الى السرير، ستصاب بالبرد وانت واقف على البلاط البارد».
حدق بالنافذة ونبس «اجل، لا بد ان يكون ذلك بالخارج، حسبته هنا».
ورفعت يدها الى الزر الكهربائي. فكرت. علي ان اطفئ الضوء الآن والا اضطررت للنظر الى الطبق. انه غير مسموح لي بالنظر الى الطبق. «هيا يا رجل» قالت وهي تطفئ الضوء. «لقد كان ذلك بالخارج، ان المزراب يصطدم دائما بالحائط عند اشتداد البرد. لا بد انه المزراب، انه يقرقع دائما عند اشتداد البرد».
كانا يتحسسان طريقهما عبر الردهة المظلمة الى غرفة النوم. اقدامهما الحافية تصطدم بالبلاط.
«اجل هو البرد» نبس. وتابع: «لقد هب البرد طوال الليل».
ولما اتكأت فوق سريرها، قالت: «اجل، لقد هب البرد طوال الليل. انه فعلا المزراب» «اجل، فكرت لربما هناك شيء في المطبخ. ولكنه فعلا المزراب» قال ذلك، كما لو انه نصف مستغرق في النوم. ولكنها لمست كيف يصبح صوته غير طبيعي. عندما يكذب «اشعر بالبرد» قالت وهي تتثاءب في هدوء «سأتسلل تحت الغطاء. تصبح على خير». ثم خيم الصمت، وبعد انصرام دقائق طويلة، سمعته يمضغ في هدوء وحذر. وكانت هي تتنفس متعمدة في عمق وانتظام حتى لا يلحظ انها بعد مستيقظة. ولكن مضغه كان منتظما حتى انها اخلدت الى النوم بفعل ذلك.
ولما عاد مساء الغد الى البيت، قدمت له اربع شرائح من الخبز. كان يحصل عادة على ثلاث فقط.
«تستطيع ان تأكل اربعا» قالت، ثم ابتعدت عن المصباح. «لا استطيع هضم هذا الخبز بسهولة. كل انت يا رجل شريحة اخرى. انني لا استطيع هضمه جيدا».
ثم ابصرت كيف انحنى في عمق فوق الطبق. لم يرفع نظره عنه. وشعرت في هذه اللحظة بالشفقة تجاهه.
«لكنك لن تأكلي شريحتين فقط» قال وهو بعد منحن فوق طبقه.
«بلى، مساء لا استطيع ان اهضم الخبز جيدا. كل يا رجل. كل».
فقط بعد لحظة من ذلك، جلست تحت المصباح الى المائدة.
* ترجمها عن الألمانية رشيد بوطيب