محمد عبد الفتاح السرورى
لاشك أن دراسة الأديب نجيب محفوظ للفلسفة قد أثرت في أعمالهِ تأثيراً واضحاً، ومن الواضح أن اختيار نجيب محفوظ لدراسة الفلسفة لم يأت من فراغ ٍ فـ طرح الأسئلة يُعد سمة ً أساسية فى كثير ٍ من حوارات شخصيات رواياته – بما فى ذلك الأسئلة التى تنطوى على سخريةٍ لا تخلو من مرارة – وإذا أردنا أنْ نبرهن على ذلك فـ لنا فى ثلاثةٍ من أعمال محفوظ خير مثالٍ..
ولتكن البداية مع رواية الطريق… فذاك الشاب (صابر) الذى أخبرته والدته قُبيل رحليها بأن والده لا يزال على قيد الحياة فطفق يبحث عن والدهِ ولكنه فى الحقيقة كان يبحث عن ذاته الضائعة ولو أنه كان مُحققاً فى الواقع فلن يعينه حال أن أخبرته والدته بتلك الحقيقة السالفة أن يبحث عن ذلك الأب المجهول الذى هجر أسرته مبكراً.. ولكن ظهور سيرة الأب مَثّل بالنسبة له طوق نجاة أو بصيص أملٍ تعلق به إحتياجه – سيكولوجياً – الى ذلك المفقودٍ نفسه قبل أن يتعلق به احتياجه إلى المال.
أما الرواية الثانية فهى رواية قلب الليل – وهى واحدة من أجمل روايات محفوظ على الإطلاق – فيتجلى فيها هذا المعنى بوضوحٍ والمشكلة بدأت مبكراً مع ذاك الصبى الذى تلطم بين الأم والجد.. وعندما شبَّ عن الطوق قليلاً بدأ فى طرح الأسئلة ورغم أنه لم يكن يعوزه شئ فقد كفل له جده حياة ً كريمة إلا أن ضغط السؤال – الوجودى – عليه كان شديداً ولم يستطع تجاهله.. وبدأت رحلته فى البحث عن ذاته – و البحث عن الإجابات – فلم يعثر عليها لا مع تلك الفتاة الغجرية التى تزوج بها إنقياداً وراءَ شهوة هو نفسه لم ينكرها أو يتبرأ من الإعتراف بها ولا مع تلك السيدة الأرستقراطية التى تكفَّلت به ومالبث أن اصطدم بمن سخر منه ولم يأبه بأزمته.. الشخصية الوحيدة التى أحس بالتوافق معها هى شخصية – شكرون – ذلك المطرب الشعبى الذى نشأ معه ربما لأنه كان يمثل له شكلاً من أشكال البراءة أو الطهارة فصاحب هذه الشخصية لا يوجد لديه داخل يقلقه كما أنه يعيش حياته بصورة علنية لا خفاء فيها.
أما الرواية الثالثة فهة رواية (الشحاذ) وهى أكثر الروايات الثلاثة وضوحاً ومباشرةً فى طرح الأسئلة عن معنى وجوده وجدوى حياته.. فـ بطل الرواية (عمر) لا يعانى عملياً من أى شئ.. محامى ناجح.. زوج لـ زوجةٍ مُحبة ومتفانية.. أب لأبنتين ثم يأتيه أبن ثالث… عضوياً لا يعانى من أى مرض.. ورغم كل ذلك فهو يعانى من إضطراب نفسى وإحساس بالضيق… حتى يظهر فى حياته صديق قديم يحاول هو الآخر انتشاله من هذه الحالة النفسية فيذهب إليه فى ذلك المكان النائى الذى لجأ إليه هرباً من نفسه تاركاً أسرته وطفله الوليد ويفشل الصديق فى تغيير حالته ولا ينقذه من نفسه إلا رصاصة طائشة تريحه من عذابات الأسئلة التى تطن فى رأسه.
البعد الفلسفى – الوجودى – واضح بين ثنايا أسطر الروايات الثلاث فشخصياتها الرئيسة تعانى من الذات وليس من الآخرين – كما هو معتاد – لأن المشكلة تنبع من داخل الشخصية نفسها وليس من مؤثر أو أزمة خارجة عنه… بل إننا نستطيع أن نقول أنه لولا تلك المعاناة ما وجد موضوع لأى من الروايات الثلاث على الإطلاق فلا توجد لىشخصياتها أى أزمة ملموسة لأن المشكلة فى السؤال وليس الحدث.
تم تحويل الروايات الثلاث إلى أفلام سينمائية وجاءَ التناول السينمائى مخالف إلى حد قليل إلى التناول الروائى – الجدلية المعروفة فى العلاقة بين الأدب والسينما -.. فيما عدا رواية الشحاذ فكان التناول السينمائى لها مباشراً وأقرب ما يكون الى روح شخصية البطل الأساسى فى الرواية.
وتجدر الإشارة هنا إلى طبيعة الحوار فقد تم التعامل معه بصورة حذرة وهذا أمر طبيعى ومفهوم فلا يمكن للأسئلة المطروحة فى رواية مقروئة – فردياً على الأقل – أن يتم طرحها فى فيلم سينمائى – جماهيرى- كما أن نوعية المُخاطَب تختلف فالقارئ – مع إحترامنا – غير المشاهد خاصة فى مجتمعنا المصرى الذى نعرف جميعاً طبيعة العقلية الغالبة فيه.