وهو على ما يبدو استمرار لقناعة ذكري أن الرواية التي أصبحت مرتعا لكل من يريد اليوم لا تصلح لمقاربتها، ربما إلا بأشكال جديدة ومختلفة، وهو ما جعله يلجأ إلى كتابة اليوميات في كتابين صدرا بالتتابع هما “حطب معدة رأسي”، ثم “على أطراف الأصابع”. وها هو يلجأ الآن إلى هذا الشكل الملتبس بين السردي والمرئي. بين الرواية والفيلم.
مع ذلك يبدو هذا النص لمن يود التعامل معه كنص سردي بحت، مضافا إليه لونا من التشويق ومزجا رهيفا بين سياقات من الغموض، بما تحيل عليه أجواء روايات الجريمة، وبين امتزاج حساس وصارم في الوقت نفسه بين الواقعية المحضة واللامعقولية، التي تبدو هنا علاجا فنيا لكبح الواقعية.
طبعا في نص يبدو أنه مكتوب لعين المشاهد، يمكن لذكري أن يستخدم الحوار بالعامية، ويكشف بالتالي قدراته في إنطاق الشخصيات بكل ما تتسم به جماليات العامية كاسلوب اتصال يخص المجتمع المصري، لكنه يحقنها، رغم ذلك، بين آن وآخر بإيحاءات فلسفية غامضة أو مركبة، تؤكد ما يفعله في السرد بالمزج بين الواقعي واللامعقول من أجل تحقيق شرطه الأساسي، الذي راكمه في أعماله السابقة كافة، من أجل إنتاج نص جمالي نقي.
وأظن أن اختيار هذا الشكل من مصطفى ذكري هو تكريس يأخذ شكلا مختلفا هذه المرة لتشكيل عمل أدبي نقي يتكيء على العامودين الأساسيين لأعمال ذكري: الفلسفة والسينما.
الكاتب خالد عبدالحليم هو أيضا كاتب البدايات بامتياز، بما يحيل على شخص المؤلف، ولو من بعيد، فذكري معروف بولعه المفرط بالبدايات، بتفجير الإمكانات الخاصة للبداية، وتوليد بدايات فرعية من بداية مركزية ما. أما النهايات فهي لعبة الفن والكاتب مع القارئ. النهايات يمكن أن يكون لها الف احتمال، أما البدايات فهي صارمة ودقيقة حتى لو كان وقوعها بمحض صدفة الأدب أو صدف الواقع.
المشاهد المتوالية تكون شذرات لعوالم تبدو في البداية منفصلة تماما ولا رابط بينها، سواء في الأماكن أو الاشخاص، لكن سرعان ما نلمح تدريجيا روابط دقيقة تجمع ما بين تلك الشخصيات المتباعدة.
الكاتب وصديقته كريمة، الكاتب وسعد الدين عمران، صاحب الساق المقطوعة، والمحتفظ بها مجمدة في ثلاجة بالبيت، ويبدو أنه كان صديقا لعائلة خالد في مرحلة ما. ثم يظهر كتاب لجاليلي جاليلو بعنوان “خسوف كلي”، ليصبح طرفا خفيا مشتركا يجمع بين هؤلاء وآخرين: بينهم عايدة المستعيرة القديمة للكتاب من إحدى المكتبات العامة، حفيدة جد وجدة غريبا الأطوار ينظمان مجموعة من الناس في تنظيم سري غريب يتسلم فيه العملاء حقائب سرية غامضة ويقومون بتسليمها وفقا للتعليمات على أن يتم تغييرهم لشفرة الحقيبة يوميا. ثم قُطّة العدوي، الخطيب السابق لعايدة، وخاله حفظي غريب الأطوار، ومحاميه الأكثر غرابة.
وبينما تبدو الخيوط وقد بدأت تتجمع تدريجيا ويصبح بإمكان القارئ أن يفهم علاقة تلك الشخصيات المتناثرة ببعضها البعض، فإن علامات استفهام إضافية تتناثر كلما تقدم النص قدما، فلا يفهم اسباب احتفاظ سعد الدين صاحب القدم الصناعية بساقه المبتورة في الثلاجة، ولماذا يدفنها لاحقا مستعينا بخالد وصديقته. ولا يفهم أسباب الموت المباغت لبعض الشخصيات بطريقة غامضة. ولا حقيقة أزمة القضية التي يعاني من تبعاتها قطة العدوي، ولا مآل علاقته مع الممرضة الخاصة بمحاميه : نسرين.
هذا بشكل عام واحد من مناطق أثيرة لعوالم ذكري السردية، الفضاء الملتبس بين أصل ما يمر به الأشخاص، وبين مآلهم. وهي ربما هنا خصيصة تسم كل شخصية من شخصيات هذا العمل.
اللغة التي يصف بها ذكري المشاهد، ما يرتديه كل شخص، الأدوات والمعدات، طريقة الحركة والسير، مطوعة تماما للدقة التي تخلق المشهد بصريا في ذهن المتلقي، وبطريقة مبهرة من فرط العناية بتفاصيل السلوك والتصرفات في تقاطعها مع الحوارات. وكعادة ذكري وهو شغوف عموما بتكرار قائمة موجودات ما، كأنه يراهن على معرفته بالأشياء وكيفية وصفها، سنجد ذلك بارعا في وصف موجودات ورشة نجارة مثلا.
اللعب المستمر مع القارئ بمواقف غير متوقعة والتحرك بها إلى حيث لا يتوقع القارئ، مكتوبة بعناية وجمال يحققان متعة كبيرة للقارئ، دون أن تعدم الشخصيات خفة الظل في خلال حوارتها الممتدة في أغلب المشاهد.
ويستخدم ذكري عادة، في ثنايا الوصف، جملا عابرة لكن مكثفة لتأكيد ما يريده من وصف المشاهد، حتى لو كان مجرد مشهد لشخص قرر أن يتحدث في الهاتف بعد انتصاف الليل مثلا كما في هذا المشهد في بداية النص :”بالقرب من منتصف الحائط على امتداد ترابيزة التليفزيون، يقف جسم الساعة المهيب، ينزل داخله بندول طويل يتكتك بثقل ورهبة. ينظر خالد باستعداد وترقب ممثل ينتظر بدء دخوله لخشبة المسرح، وفي يده تليفون وايرلس، وعينه على عقرب الساعة الذي سيعلن خلال لحظات، الثانية ليلاً. يهبد بندول الساعة دقتين ثقيلتين. يضغط خالد أرقام التليفون بتتابع شبه سريع”.
والتفاصيل الدقيقة جدا لا تفوته، حتى لو كان انفلات “شبشب زنوبة” في قدم جمالات التي تعمل في بيت سعد الدين وابنته مريم، أو زوجها فتحي النجارمثلا :” يدخل فتحي بثقل إلى الغرفة، يرتدي بنطلوناً ساقطاً على خصره، وانطبعتْ عليه آثار الجلوس فبقي عند الركبتين منفوخاً بالهواء”.
مصطفى ذكري ككاتب صاحب أسلوب خاص جدا، وعندي كاتب من العيار الثقيل، يخوض مغامرة كتابة جديدة، يخلق عالما أدبيا خاصا، يلعب فيه مع القارئ ويكشف له في النهاية الحد الأدنى المطلوب من تعقد علاقات العمل، أما ما بعد ذلك فتظل الثغرات والفجوات مفتوحة لتأكيد المدى الذي لا ينبغي أن يطال في العمل الفني والأدبي ذي الآفاق البعيدة والذائقة الخاصة والفريدة.