إسكندرية حبي

محمد السعيد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد السعيد

   ستانلي

   ١

شعور غامر بحرية كانت غائبة ومنسية، كأن الزمن قد عاد معه، الفراندة تطل علي البحر، وصوت الأمواج والهواء المنعش يتردد بحرية داخل الصالة، وفي الأركان. دعانى في مكالمة هاتفية إلي الحضور لهذا العنوان في شقته في ستانلى، لم اصدق نفسي، هل سنتواصل أخيراً؟!. صعدت سلالم العمارة وأنا أسأل نفسي: هل ساجده حقا؟

حتي وجدته أمامي مبتسما، بوجهه الممتلئ المدور، وشاربه الشهير، مد يده ورحب بى بحرارة، ثم فتح ذراعيه مرحبا، مرة أخرى، وسمح لي بالدخول..أهلاً.. أهلاً…خطواتي مرحة وحذرة مثل الذكريات التي كانت!. صورة الشاب الذي كنته لا تفارقني، كما ثقل الحاضر في نفس الخطوة.

جلست أمامه محاولاً استعادة توازني، بين ماض عاد فجأة، وبعد غياب سنوات، وحاضر مضى عليه زمن،!صراع لم يدم طويلاً، ليشق الألم، سريعاً، طريقه، إلي وجودنا مرة أخرى، هو وتلال من الأشواق تراكمت بفعل الغياب العميق، وانا بروحى وجسدى المحاصرين بحدود المكان والزمان!.حدجنى بنظرة عارفة، وغير مصدقة في نفس الوقت، فيما رحت أتجول بعيني من حولي، كنت أسأل نفسى: هل اشترى محمود الشقة من عمله بالخارج، ترى كم ثمنها؟ تبدو غالية الثمن. غيابه لم يكن غيابا، علي ما يبدو، بالمعنى الذي أعرفه، فعودته مثل خيط رفيع من شوق وشوك معا، مالبث بعدها أن عدل وجهته، التي ما غاب عن النظر صوبها لحظة واحدة!، امريكا الحاضر الغائب.

-شقتك؟!

صمت لحظات وهو يختبر علي ما يبدو ردة فعلي علي إجابته، لاحظت ترددا وحرجا، ثم قام هارباً إلي المطبخ وهو يردد: ما الفرق يعني؟، بتاعتى ولا مش بتاعتى، ألا ترى الشيب الذي طال رأسي وشاربي؟ خمسة وعشرين سنة من الهجرة، إشتقت إلي أهلي وأصحاب زمان، لملمت حاجياتي، تركت كل شيء ورائى.. شهر كده.. بعدها نعود للمعاناة مرة أخرى!. في الجدار فتحة صغيرة تطل علي المطبخ، لم الحظها إلا حينما سمعت صوته يسألني: قد إيه سكر..معلش أنا نسيت؟!

. طافت برأسي صورته وهو يعزف ويغني علي العود، فتلفت حولي بحثاً عن عود هنا أو هناك، فلم أجد، إلا أن صوت محمد منير كان يتردد مع الهواء..احزن اغني..افرح اغني.عدت حزيناً لكن ثملاً بالذكري

-هل تتذكر شقة فيصل؟

-ياه ياه!

وضع أمامي كوب الشاي، وهو يقول: هذه الشقة كانت لأحد اصدقائي في أمريكا، عرض علي، ذات مرة، أن أسكنها فترة إجازتي، فوقعت في غرامها، عرضت عليه شرائها، لكنه وافق بصعوبة، ومازلت اسدد، إلي الآن، باقي ثمنها!

– عظيم.. ربنا يعينك!

كأني أسقط غيابه وهجرته علي غيابي وهجرتي، احاسبه عن كليهما، أراه قريباً ويراني بعيداً. لكن ماذا بك؟! أتريد أن تأخذ ثمن محبتك له؟ ثمن الذكريات الجميلة التي عشتموها سويا؟! أم تبحث عن منقذ لك من مشاكلك المزمنة؟!

قد ترمز ذكرياتك تلك لزمن الحرية والبراءة، أما هو، فلربما لا تمثل له سوي الضيق، والظروف الصعبة التي جعلته يغترب داخل مدينته!.طفت بذاكرتي قليلاً فيما راح يحكي، وكأني أمام مشهد من مشاهد السينما الصامتة، كنت أستمع إلي صوت قلبى الذي ينبض بصور وحكايات من من أزمنة بعيدة. حاولت الإنتباه للواقع حولى، إلا أنني لم استطع، تحركت صوب الفراندة وانا أستمع لموسيقي هادئة انبعثت من داخلي!، تتهادي مع صوت وصورة الأمواج.تذكرت، فجأة، ريهام زوجتي، والأولاد، كما تهادي طيفها!.. هدى فاروق.

**

  هدى فاروق

   ٢

وقت الذروة، ساعة عودة الموظفين، محطة سيدي بشر، الجو حار، لمحنا الأتوبيس يقترب، فتأهب الواقفون للمعركة القادمة!. كانت تشاهدني بحب، وهي تبتسم، أمسكت يدها بشجاعة، ودون خجل. توقف الأتوبيس، فاندفع الجميع نحو الباب، صعدنا بصعوبة وانا أسترق النظر إلي وجهها. وضعت يدي علي الإطار المعدني للكرسي، فيما وقفت هي خجلي، تختبئ خلف ابتسامتها!. كنت أشاهد ما حولي بتحد، ، أنت لي، لن يستطيع أحد أن يأخذك مني، لا توجد قوة في العالم تستطيع!

توقف الأتوبيس، فجأة!، نزلت وأنا ممسك بإصرار يدها، فيما بدا عليها ضيق مفاجئ، وسحبت يدها بخفة، وهي تحدجني بألم. تذكرت دكان والدها علي الناصية، فاروق ترزي افرنجي. تقدمت خطوتين، ثم تباطأت، فتباعدت المسافة بيننا قليلاً، فتحت الباب الزجاجى ودخلت، بوسة علي خدها، وهي تضحك، لا أسمع شيئاً، المتر الأصفر حول رقبته والمقص الحديدي في يده، عبرت للرصيف المقابل حتي لا يلحظني، ووقفت مطمئناً إلي أنه لا يراني. أخرجت علبة سجائر مارلبورو، لم يكن بداخلها إلا سيجارة واحدة، اخرجتها وأنا افعص العلبة الفارغة بيدي، قذفتها بقوة علي الأسفلت، اشعلت السيجارة، وعدت أتابعها. كنت أدخن بعصبية، فجأة ألتفت عم فاروق ناحيتي، لا أدري هل يشك في؟، أم أنها مجرد نظرة عابرة…لن تخرج الآن، وإذا خرجت ستخرج معه، وقت غداء، ومن عادته أن يذهب للغداء في هذا الوقت، ثم يستريح قليلاً، بعدها يعود عند الخامسة إلي الدكان.

استسلمت، أخيراً، لقدرى واتجهت صوب الكورنيش.

   ٣

جلست علي سور الكورنيش، أهز قدمي كالأطفال، وحدة بدت مألوفة ومتناغمة مع وجودي بعيداً عن أهلي، وفي نفس الوقت، مؤانسة روحية مع الأمواج ورائحة اليود، البحر، إلي الآن، لا أعرف سر علاقتي به، أهبه نفسي فيردها إلي وقد اغتسلت وتطهرت. كانت رغبتي في التفوق والنجاح كبيرة، كما أن حبي لهدى قد وهبني الدافع، وجعلني أحلم، ولو، بمنزل صغير، حتي لوكان من الصفيح.لكن يجمعني بها، كنت استذكر دروسي بانتظام، وأتابع المحاضرات، وادون كل صغيرة وكبيرة. هذا الصباح، فقط، كان ألامتحان الأخير، مادة الاحصاء، والتي ابدعت في إجابتي عليها.كانت تنتظرني أمام بوابة المعهد الخلفية، بالقرب من محطة كامب شيزار، ركبنا الترام معا حتي محطة فيكتوريا، وهناك نزلنا بدون فكرة مسبقة، نلف في الشوارع منتشيين باللحظة، كانت تلبس جونلة بيج وشيرز بني، قمحاوية، شعرها ينساب ببراعة علي كتفيها، كنت أداعبها قائلا: أنت فعلاً الملكة فيكتوريا، عرفتها بمحض الصدفة، كنت اتمشي قرب محطة سبورتنج، و كانت عائدة من المدرسة، تضم حقيبتها إلي صدرها، بزيها المدرسي الجميل، قميص أبيض وجونلة زرقاء. ضحكت في وجهي ثم سألتني، بجراءة، عن الساعة، أجبت بخجل ثم تشجعت وقلت لها:ممكن أتعرف عليكي؟! هدى..انتظرني الساعة خمسة هنا عند المحطة!. عامان بالتمام والكمال علي علاقتنا، وصلت هي إلي الثانوية العامة، وأنهيت دراستي.كنت سعيداً بنجاحي الذي لم يعلن بعد عنه رسمياً، لكني كنت واثقا منه.. أحبك يا هدى…. قمت من مجلسي، المغيب يقترب رويداً رويداً، لا أدري كم مر من الوقت؟اشعر بالجوع، تحسست جيبي ثم أخرجت كل ما فيه، خمسة جنيهات.لم يكن لدي رغبة، حقيقة، في العودة للغداء في المدينة الجامعية.عبرت الشارع ووقفت أمام مطعم كشري،

هنا أو أمام عربات الفول أو عربات الكبدة، أو في إنتظار دوري، حاملاً، صينية الطعام المعدنية، في طابور طويل من الطلاب، تكمن حقيقة المرحلة الزمنية، افقها، أبعادها، براءتها، بالأحري، أحلامها ومتاعبها.

علي الرغم من شعوري بالتعب فضلت الجلوس في مقهي علي عودتي بين أسوار المدينة، التي بدت لي، فجأة، هلامية وعبثية، كنت سعيداً، ولا أصدق أنني أنهيت الدراسة، تلفنت لابي، وفرحت أمي وطمانتها، كعادتي معها، أخيراً، كنت أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.

    ٤

كان نوما عميقاً جداً، علي مايبدو، ربما، من شدة الإجهاد. كان السرير بجواري خاليا، الملاءة مبعثرة وملقاة بإهمال، بقايا أطعمة وأوراق، علي الترابيزة، وفي الأركان، باب الغرفة نصف مفتوح، ولا صوت في الخارج، تبدو المدينة مهجورة، فغالبية سكانها من الطلبة عادوا، ولم يتبقي إلا أصحاب الشهادات الكبري.الحمام في نهاية الدور، مشترك أيضا، ضوء النهار ينير الممرات.لا أعرف الساعة، ربما، العصر.

تدفقت المياه من الدش فوق رأسي وجسدي، فشعرت، سريعاً، بيقظة كاملة، عدت لغرفتي، فتحت دولاب الملابس وأنا أجفف رأسي، ترددت قليلاً ثم عدت لإلتقاط ملابسي التي خلعتها بالأمس وأرتديتها مرة أخرى، لم أهتم بغلق الباب، نزلت درجات السلالم، ماذا حدث بالأمس؟ أحاول التذكر، فلا أتذكر!، أصل حتي غرفة البواب ثم ألقي عليه السلام فلا يرد!، أخرج للشارع كالعداء الذي وصل خط النهاية، مشهد المارة وصوت وصورة السيارات يعيدني للحياة تدريجياً، أتوجه لأقرب كشك به تليفون، ادير القرص..الو..الو.. هدى

-مين اللي بيكلم..رد يا حيوان..لا ارد، اغلق السماعة.

   ٥

كنت أتطلع لرؤيتها، فلربما تخرج إلي الفراندة، كنت في إنتظار خروجها، وعندما كنت أحس أن بواب العمارة يلاحظني، اترك المكان ثم أعود بعد قليل، كنت بحاجة ملحة لمجالستها، ورؤية ابتسامتها الخجول، لكنها لم تخرج، ازداد قلقي، فكرت كالمجنون في الصعود إلي الدور الخامس، وطرق الباب كأني أبحث عن طبيب الأسنان، لعلي أراها،!، ، لكني قدرت أن البواب سيوقفنى، وربما تحدث مشكلة أكبر مما أتخيل، ثم عدلت من فكرتى تلك، بعد أن هداني قلبي إلي وجودها مع أباها في الدكان، تركت المكان، واتجهت صوب سيدي جابر، ثم وقفت علي الرصيف المقابل للدكان، بعدها، لمحتها تأتي من ناحية البحر، فكرت أن انادي لكنني خفت، عبرت الشارع، دخلت، بوسة علي خديها، كعادته، ثم نظر نحوي، وفجاءة، شعرت بيد ثقيلة تمسك بي من منكبي، استدرت. مذعورا، فوجدت البواب، بحلبابه الرمادى، زادت ضربات قلبي، ولم أدري ماذا افعل؟!

قال غاضباً: ماذا تريد بالضبط ياض أنت..أنت حرامي ولا ايه؟

خرج عم فاروق، وتبعته هدى وهي مذعورة ولا تعرف ماذا تفعل؟، ثم قال بحزم: مين ده يا ابو رحاب؟!

-يا حاج فاروق الواد عمال يحوم زي الحدايه حولان العمارة، مشيت وراه أشوف عايز ايه ده، لقيته جي ناحيتك.نسلمه للقسم.التم، بسرعة، أصحاب الدكاكين، وكنت من الصدمة بحيث لم استطع أن انطق، كنت أشاهد ما حولى بذهول، حتي تكلم رجل عجوز ذو لحية بيضاء بعد أن وضع يده علي كتفى:سيبوه شكل شاب ابن ناس، دا لا يمكن يكون حرامى أبدا، ثم سحبني من يدى وادخلني دكان خردوات بعد أن احضر لى كوب ماء.

 لا أصدق نفسي، كأنى عدت للحياة مرة أخرى، أشرب الماء، كأن عطشا كبيراً كان يعصف بي.

كنا قرب المغيب.جلس الرجل ذو اللحية هادئا، وكأنه اطمأن إلي حدسه، وأنني، ربما، اكون شابا رومانسيا مندفعا.سردت عليه، ببراءة!، قصتى منذ أول يوم عرفت هدى.كان يبتسم وهو يسمعني، ثم ذكرت، متحمسا، أن تفوقي في المعهد، لا لشئ سوي حبى لها ورغبتي الأصيلة في الزواج بها.

-هل وجدت عملا؟

-لا

سألني برقة عن أبى ، وعن وظيفته، وعن أمى، وهل لنا أي أملاك، فقلت كلا.

-أمامك الكثير يا بنى، عليك أن تدخل الجيش اولا، بعدها تجد عملا، ثم تثبت نفسك فيه، وعليك الاقتصاد، أيضاً، حتي تستطيع أن تشتري شقة ثم تتزوج.عدنى يا ولدى أن تفكر في الأمر، ولا تنسى عمك رفعت.

-أعدك

كنت واقعاً تحت تأثير صدمة كبيرة، وعلي الرغم من كلمات الحاج المهدئة، إلا أنني كنت أشعر أنني فقدت شيئاً غاليا.!، هل انتهت قصتي مع هدى إلي الأبد؟ كنت أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر، أحلم به منذ التحقت بالدراسة، كيف يحدث ذلك، تنتهي الدراسة، وتنتهي معه علاقتي بها، أجمل قصة عشتها هنا.كنت أسير كالمصدوم، أمام محطة سيدي جابر، الأعمدة ذات الإضاءة البرتقالية، المسافرين، وعربات التاكسي، وصوت عجلات الترام.من أين خرج ابورحاب؟ هذا الشيطان، أى إرادة وضعته في طريقي.كنت ما زلت أشعر بقبضته علي منكبي، اه..وضعت يدي أتحسس موضع يده.

من كوبري الجامعة صوب المدينة الجامعية، هناك، دخلت غرفتى، لملمت حاجياتي ووضعتها في الشنطة، وتوجهت وأنا أبكي صوب محطة مصر.

لم تكن قصتى مع هدي قد أخذت تسلسلها المنطقي بعد، كما كنت أحلم، وعلي الرغم من الحكمة التي غلفت كلمات الحاج رفعت، إلا أنها تركت في نفسي أثرا كبيراً، شئ كالرفض والسخرية للعالم من حولي، لماذا يحرم قلبينا من الحياة؟ولماذا تفرض علينا إرادة أخري متسلطة وغبية إرادتها؟!

   ٦

كنت ألعب مع أخى الصغير لعبة القطار، اندمج معه لحظات، ثم أهيم بذكرياتي لحظات أخرى، كانت هدى حاضرة في كل ركن، في كل تفصيلة. وكان أبو رحاب يتبدى لي، احيانا، في هيئة رجال الشرطة الذين يلقون القبض علي المذنبين، ثم يودعونهم السجن ليلقوا جزاء فعلتهم!.ولكن أى ذنب اقترفت؟!كنت أشعر بحيرة، وفكرت في مفاتحة ابى، لكني خشيت عليه من الحرج، فابي رجل طيب، لكن محدود الإمكانيات، فكرت أيضاً في مصارحة أمى، لكني فضلت ألا أثقل عليها، كفاها هموم إخوتى وخاصة أخي الأصغر!، وكنت أسأل نفسى دائماً: الم يكن من الأفضل أن نعيش في الإسكندرية؟!

**

   يوسف فهمي

    ٧

كان يهوى الصيد، يجلس علي كرسي صغير، مادا بصره وصنارته إلي الأمام، في صبر عجيب، كأنه يتأمل!.كنت أراه عابراً الطريق حاملاً عدته، فوق رأسه طقية مموهه، وعلي كتفه شنطة من القماش والكرسي الصغير في يده الأخرى.، لم أكن أعرفه إلا أن صورته تلك لم تفارق مخيلتي، تمنيت لو فعلت مثله، أو كنت بجانبه!، حتي وجدته، ذات مرة، في دكان خردوات، بجوار المدينة الجامعية، كنت أرغب في شراء بعض الكراسات والأقلام، قابلني بابتسامة رقيقة كأنه يعرفني، ثم وجدتنى أقدم نفسي، بثقة، ثم قدم إلي نفسه قائلا: يوسف فهمي صحفي في أبو قير للأسمدة!.

 ملت، سريعاً، لتصديقه، وتحدثت معه عن تمثال سعد زغلول، وكيف أن شعب الإسكندرية شعب عظيم ذو تاريخ!.

– صح..صح هذا صحيح.. سيجارة

أخذت السيجارة، قلت له: أنا أدخن بمواعيد، لكني سأدخن إكراما لك.

-شكرا

-هل تحب الصيد

-نعم.. لما لا؟

-تاتى معي الجمعة القادمة

– أكيد

قويت، سريعاً، علاقتى بيوسف، وكنت كلما دخلت عزبة سعد أمر علي دكانه، الذي عرفت فيما بعد أنه دكان والده.

    ٨

 علاقتي بالاسكندريه تنمو يوماً بعد يوم، مثل علاقتي بهدى ويوسف نفسه.يحلو لي، أحياناً، الذهاب إلي المعهد سيرا على الأقدام، أدخل، أولا، عزبة سعد، ثم إلي الشوارع الجانبية، مروراً بسجن الحضرة، لأتسلي برؤية المساجين في النوافذ الحديدية وهم يلوحون بالمناديل لذويهم الواقفين وينادون عليهم خارج الأسوار، سرور عجيب ينتابني، وكأني أمام مزار سياحي شهير!.ثم إلي الشوارع الجانبية والمحيطة بحي الحضرة، حيث الآيات القرآنية والأحاديث المكتوبة علي الجدران (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدا ) كنت أشعر، مباشرة، أننا ضائعين، وكان يتسرب داخلي شعور أشبه بالغيوم والضباب بذلك، ويؤكد لدي فكرة الفقد الذي يعانيه المجتمع في مرآة ذاتى المندهشة! ومن ثم البحث، ربما، عن المجهول، ولعله فقد الأخلاق و مجهول القيم، التي ينادي بها من كتب تلك الآيات علي الحوائط، ولأنني نشأت في بيت ينصت فيه بحب إلي صوت الحصرى والمنشاوى، كانت توقد داخلي شعلة ثورية لا ادرك مغزاها، فارس فوق جواد أبيض، يشهر سيفه، في قلب رمال ساخنة وحرارة شديدة.!لكننى كنت أعود وأشعر بشخص آخر داخلي، شخص برئ، بلا أطياف!، خاصة عندما اقترب من شارع ابو قير!. ومعه أدرك، أخيراً، أن المشكلة ليست داخلية، هي، بالأحرى خارجية!.نحن طبيعين جدا لكن أين المشكلة؟!

ولولا علاقتي المبكرة بهدى ويوسف لجنحت إلي تصديق تلك الانعكاسات!.

اخيرا وصلت إلي الشارع الكبير، الإسكندرية قبلي غير بحري.كنت كمن وصل للتو المدينة بصخبها!.عبرت الشارع، بسلام، وسط زحام السيارات.

    ٩

عند الغروب، جلست بجانبها، تحت شجرة كبيرة، بجانب تمثال عروس البحر الشهير.كنت حزيناً علي الرغم من جمال الغروب، والنوارس التي تحلق فوق البحر، فقد كنت أرغب في تقبيلها، لكن الكورنيش كان مكتظا بالعابرين، وكنت أسأل نفسي: لماذا لم نذهب إلى حديقة المنتزه؟!، كانت جميلة أكثر مما توقعت عند مقابلتها أول مرة، بنطلونها الجينز الملتصق بجسدها وقميصها الجذاب، شعرها الأسود الفاحم والمنسدل فوق كتفيها، وجهها القمحي، عيناها العسليتان، كل ذلك كان يشعرني أنني أمام فتاة سكندرية غاية في الجمال والروعة. لم يدر بيننا أي حوار.لكن النظرات الخجول كانت تتحاور وتكشف عن ما هو أعمق بكثير.مرت بائعة فل، إقتربت من مجلسنا بفضول ازعجني..ربنا يخليكوا لبعض، وتشوفوا أولادكم…اشتري مني يا بيه…فل..خد فل يا بيه.كانت هدي تداري سرورها مما يحدث. أخرجت من جيبي، رغماً عني، جنيهاً واعطيته لها!.

    ١٠

عند عودتنا من رحلة الصيد، اصر يوسف علي اصطحابى لشقته، كنت أتعجب لشهامته التي كنت أراها، لأول مرة، نادرة، ولم اعرف ماذا أقول له، غير أن اليوم إجازة، وعادة لا أراجع دروسى، دخلت، لأول مرة، شقته، كانت الصالة كبيرة، علي اليسار بجانب الباب كنبة بلدى، ووضع أمامها ترابيزة عليها مفرش أبيض، ومن فوقه وضع تليفزيون تليمصر كبير.تقدم يوسف، ثم أدخلني غرفته، شاهدت، علي الفور أعلي السرير، مكتبة سمعية كبيرة، شرائط كاسيت لا حصر لها، وصور لعبد الوهاب وفريد الأطرش وصباح علي الحائط وبجانب الشباك، هذا غير مجموعة من كتب التراث وبعض الروايات البوليسية علي مكتب صغير ينتصف الغرفة. تركنى يوسف وذهب بغلة اليوم من سمك الشراغيش والبطاطا إلي أمه التي كانت في المطبخ لتشويهم لنا.كنا قد قضينا اليوم، انا في البوح، وهو في الإستماع والصيد!. الحق أنه كان يسمعني بإخلاص.حكيت له حكايتي مع هدى.

-جميلة؟

– جداً

– أهلها عندهم أصل ومبادئ مثلنا؟

-اظن

– عايز تتجوزها لما تخلص دراسة؟

– ايوا

-بتحبها؟،

-من قلبي

-توكل علي الله.

كان يكبرني بعشرة أعوام، وكنت أعتبره أخا أكبر لي.مع أول حوار طويل بيننا، دخل قلبي، ومع الأسف، الشك، وبدأت أعيد النظر في تصرفات حبيبتي، وأسأل نفسى:هل أحبها حقا؟هل تحبني هي بنفس الدرجة؟وماذا تعنى جرأتها تلك؟سلوك فطري، غريزة، أو سوء تربية.لم يقل لي يوسف شيئا بشكل مباشر، لكنه لفت نظري! أو دخل، دون أن يدري، منطقة بريئة من وجودي الشخصي الهش!.

-أضنيتنى بالهجر ما اظلمك

فارحم عسي الرحمن أن يرحمك

 دخلت عالما جديداً براقا مبهرا، موسيقي وصوت فريد، وعالم يوسف السحري.دخل يوسف بالشراغيش والبطاطا المشوية والجرجير وأطباق الأرز الأبيض.

لم أكن أشعر بالغربة، كانت الإسكندرية قد أضحت بيتى الثاني، ووطني الأول!.

   ١١

مع ضوء الصباح الحاني، وبعد نوم عميق، لم يكن لدي ما أخفيه، كما لم يكن لدى، أيضاً، ما أعلن عنه، ساعة من براءة تعترينى، أقف في محطة الأتوبيس متحمساً، وغير نادم علي شئ، غير أن صوت زميلى الملتح الشاب، كان يأتي من منطقة بعيدة جداً داخلي، وهو يخطب في مسجد المدينة، ويكرر: (ويوم يعض الظالم علي يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا ) كنت افكر في اصدقائى، وكنت أشك أيضاً في سلوك يوسف.وهكذا تعالى صوت الدعوة، إلا أن ذلك الصوت وتلك الدعوة كانت تجعلني أري من حولى، دائماً، علي شكلين لا ثالث لهما، إما مهتدى أو غير مهتدى، إما صالح أو فاسد، مؤمن أوكافر!.

صعدت الأتوبيس، وجلست علي كرسي بجانب الشباك، كان منظر الإسكندرية في الخارج فاتنا جذابا.

   ١٢

كنت في قاعة المحاضرات، وكنت أجيب بحماس، علي أسئلة الدكتور جابر، وكان يسمعنى بإهتمام، وهو يقترب مني، حتي وصل جانبى، أشار إلى أن أكمل، فاكملت ثم صفق لى وقال لي:أنت طالب مجتهد، إستمر في تحصيل المعرفة، وستصل إلي أعلي الرتب، اشعرتني كلماته بالرضا عن النفس، وأنني علي الطريق السليم، مادة التسويق من المواد التي تثير في عقلى نشاط عجيب وغير عادي.

لكن حينما جلست قال لي زميلي بسخرية:لا أهمية لكل هذا الاهتمام، سوف ننسى كل هذا بعد امتحانات نهاية العام.

أصابتني سخريته أو، ربما، واقعيته بالاحباط!

 لا أنكر أن علاقتي بهدى جعلتني أكثر إقبالا علي التحصيل، بالأحري، علي الحياة، فلربما، هذا الزميل بلا صديقة، بدون علاقة عاطفية، لهذا يقول ذلك،!.

١٢

كنت أغلق غرفتي، ثم أراجع دروسى بانتظام، لدرجة أنني لم أكن أفتح لأحد!، وإذا طرق أحدهم باب الغرفة كنت أرد عليه:الله أكبر، حتي يعتقد من الخارج أني، ما زلت، في الصلاة، فينصرف. صنعت نظاما غريباً، لنفسى، الخميس هدى، الجمعة يوسف، حتي التدخين كان بالساعة. لم أكن أفكر إلا في النجاح. وعندما كنت أشعر بالملل، كنت أذهب لدكان يوسف، وإن لم أجده أصعد مباشرة إلي الشقة أعلي الدكان.كأنه بيت أحد أقاربي!

كان يوسف دبلوم صنايع، وتم تعيينه، بدون واسطة، فني في أبوقير للأسمدة. واكتشفت، بسرعة، أنه خفيف الظل، و صاحب نكتة، وأنه لا يعمل صحفياً ولا حاجة.كنت أسهر معه، استمع لعبد الوهاب وام كلثوم. وعرفت البيرة، لاول مرة، عن طريقة، أخرج زجاجتين، كانتا أسفل السرير، مثلما يخرج الساحر الحمام من بين أكمامه.شربت حتي شعرت بنشوة عجيبة، وأنا أستمع إلى: فين طريقك فين..ويروحولوا منين لعبد الوهاب. كانت النجوم من شباك الغرفة تبدو كالحلى الذي يرصع صدر السماء. ثم خرجنا، بعد ذلك، وادخلنى لأول مرة النادي اليوناني في الإبراهيمية، كانت ليلة لا تنسى، شربنا وحدثني عن أغاني الشيخ إمام، كما حكى لي عن الملكة فريدة و الملك فاروق علي أنغام موسيقي يونانية.كان ليوسف ذوق ثقافي متحضر جداً، كأنه من سلالة باشوات!. وكان يزيد ذلك من إعجابي به وحبي للإسكندرية. ثم مر شهر أخر وزرت لأول مرة كاب دور، وهي كافيتريا شهيرة في المنشية، وشربنا البيرة علي انغام غربية هذه المرة، ووسط أجانب، يتحدثون بصوت مرتفع الفرنسية والإنجليزية. ثم نادي يوسف علي عم وجيه بعوده، وكان رجلا أصلع الرأس من المنتصف، وله عينين ضيقتين. أتي الرجل وجلس ثم غني علي انغام العود: وانا كل ما اجول التوبة يا بوي…ترمينى المجادير يا عين. ثم قام مبتسماً بعد أن أعطاه يوسف عشرة جنيهات، قويت علاقتي بيوسف وأصبح صديقا لا استغناء عنه، كما أصبحت مقابلة هدي ضرورية، وتمثل جزءا مهما من برنامجي الاسبوعي، لدرجة جعلتها تشعر، وتواجهني مباشرة حيث كنا نجلس في حديقة المنتزة: هل تحبني حقا؟!

ترددت قليلاً، وحيرني سؤلها علي الرغم من صغر سنها

-نعم احبك..لكن أمامنا وقت كثير لنحضر أنفسنا.!.

لم تنتهي علاقتي بيوسف إلي هذا الحد، ففي أحد الأيام اصطحبني إلي المركز الفرنسي في محطة الرمل، وقدمني لصديقته فريال سكرتير المركز قائلا: حمادة صديقي، يحب اللغة الفرنسية، ويريد أن يتقنها. كانت جميلة ومثقفة، واقتنعت بعد هذه المقابلة أننا سنصنع بداية جديدة. ازرادت أهمية يوسف في حياتي، فقد بدا لي شخصاً فاضلاً ذو ميزات كثيرة.

*

  مون مارتر

   ١٤

لم يصدق أبى ذلك التأثير الذي أحدثته دروس الفرنسية، التي أعطاني إياها، وهو جالس جلسته المفضلة في الفراندة، وقت العصر، كنت لا زلت في التعليم الإبتدائى..اوفر لا بورت..فرم لا بورت.كيسك سيه؟! افتح الباب..اغلق الباب..ما هذا؟!

أسعدته رغبتى في تعلم الفرنسية، قال وهو قلق إلي حد ما:شريطة ألا يؤثر ذلك علي دراستك الأساسية؟

-نعم يا أبى..أعاهدك

أدرك بشكل ما أن دروسه لمست عمقاً بعينه، وأنه ربما، يكون لولده شأنا في يوم ما.

كان الوقت عصرا، عندما كنت أمر بجانب فندق سيسل وقهوة امبريال، متجهاً إلي شارع النبى دانيال، تدهشني وتبهجني دائما الإسكندرية القديمة.كان لقائي الأول مع فريال لطيفاً للغاية، وهي من شجعني علي البدء، دون تردد في الدراسة، خاصة بعدما سمعتني أردد بعض الجمل، بطريقة كما قالت سليمة، كما تنبأت لي بمستقبل باهر. كان يوسف سعيداً بما فعل، وكان يشعر بزهو طفولي برئ!. ود من أعماقه لو كانت فريال زوجة له، كان يحبها، وكانت تعلم ذلك، وكنت أرقب ذلك الحوار السري والمعلن بين عينيهما. لكنها كانت، فعلاً، ذات عقل وقلب كبيرين، كنت أحس أنها تعرف، من المرأة التي تناسبه أكثر!.لكنه لا ينسي أبدا، كم هي لطيفة معه!. حتي تلك اللحظة لم أكن أعرف كيف كون يوسف كل تلك الصداقات، ولا سر تردده علي تلك المنتديات والمراكز الثقافية، لكنني فهمت، فيما بعد، أن حبه للموسيقي والفنون وراء ذلك كله، فلم تكن معرفته الموسيقية تقتصر علي عبد الوهاب وفريد فقط، بل تعدت ذلك إلي داليدا وانريكو ماسياس وجوداسان. أصبحت في فترة وجيزة من معتادي المركز الفرنسي، نشأت بيني وبينه علاقة حب غريبة من نوعها، وكأنه بيتى الثاني، او جامعتى الحقيقية. ونشأ بين جوانبى مع ترددي المتكرر، إنسان جديد، ذو أبعاد مختلفة، لم أكن أعرف عنه إلا القليل. فلم أكن أفكر قبل ذلك في زيارة مون مارتر، هذه الساحة التي يتجمع بها الرسامين في باريس، كما حلمت، ولأول مرة، بزيارة متحف اللوفر، ورأيت نفسي أتمشي بالشانزليزيه.أما قصر المركز بطرازه المعماري الفريد، واعمدته ذات الطراز اليونانى، فقد جعلتني أشعر أنني وبشكل مستمر فوق خشبة أحد المسارح اليونانية القديمة، مثل تلك التي كنت أري في الأفلام والمجلات.كما أن هناك سحر خاص، ، فأصوات المتحدثين بالفرنسية يشعرني بشئ عميق جداً. كنت أري نفسي فريداً، وأعيش في مكان فريد!. وهكذا، ومع الوقت، لم يكن أمامي إلا التفوق علي زملائى داخل الفصل، وخاصة أولئك الذين جاءوا من المدارس الخاصة وأقسام اللغات. وقد كان لدروس أبي في الفراندة دور مهم، وكنت أفخر بذلك، أمام زملائى، فقد.كنت أقول أن أبى كان حاصلاً علي التوجيهية القديمة، وإن من كان يدرس له الفرنسية خوجة من أصل يوناني، وقد احبتنى مدموزايل لويزا، وكانت تقول لي: أنت سوف تتحدث الفرنسية بشكل جيد. أما إسمها فقد كان يذكرني بلويزا في فيلم صلاح الدين، ولما لا فهي أول معلمة لي داخل المركز. وكنت في أويقات الراحة أمر علي مكتب فريال لاتحدث معها، وقد كانت تقابلني دائما بابتسامة

– سافا حمادة؟ كيف حالك؟!

-سافا بيان مدام

وفي يوم تذكرت هدى، وكنت علي مشارف امتحانات نهاية العام، هاتفتها، علي الفور، وطلبت منها أن تقابلنى، فوافقت بسرعة.

لمحت عند دخولها من البوابة، وجهها كان لطيفاً وشعرها كان لامعا وجذابا كعادته، ولكن ولأول مرة كنت ألتفت لمشيتها شبه العسكرية، وكنت أقول لنفسى أنها ورثت تلك المشية، ربما، عن والدها.لكني شعرت بخجل هذة المرة.جلست قبالتي، في الحديقة الخلفية، حيث الأشجار والكافيتريا، كان يجلس حولنا بعض الفرنسيين يثرثرون في هدوء ونظام! لمست كفيها بحب!.

-كيف حالك؟

الحمدلله

– الامتحانات الشهر القادم، هل أنت مستعد؟

نعم

ماذا تنوي أن تفعل؟ هل ستظل هنا في الإسكندرية أم ستعود إلي مطروح؟

– مش عارف، بس لازم ألاقي شغل، وكمان لازم اشوف موضوع الجيش.

-هتتجوز من مطروح؟

– ربما الإسكندرية أفضل!،

جاء النادل بعصير الليمون لكلينا.

كان لقائا لطيفاً جداً، علي الرغم من تطلعاتي الجديدة، وعينى التي بدأت تلمح أشياء جديدة لم أكن أهتم بها من قبل.لكن ماذا تريد هدى بكلامها هذا؟ هل تريد – أنت- ان تتزوج بها؟ أم كلامها طبيعى في مثل سنها؟! لكنها تذكرني بشئ مهم، دراستي في المعهد التجاري سوف تنتهي بعد شهرين من الآن وعلي الإختيار.كنت قد أنهيت حصتى قبل قدومها بقليل، والآن، عادت هي إلى بيتها، وأنا في طريقي للعودة من محطة مصر، كان إعلان فيلم (يا تحب يا تقب) جذابا، وودت لو دخلت السينما، لكننى كنت أشعر بالتعب وبرغبة قوية في النوم.

   ١٥

كنت متحمسا وأنا أجيب علي أسئلة الامتحان.كنت قد عرفت رقم الجلوس ولجنتى قبل يومين، فقط أريد أن أنهى امتحاناتي سريعاً، حتي أتفرغ لدروسي في المركز، كما حصة الرقص المعاصر مع المدرب ميشيل سيدوتي. كانت اللجنة كبيرة جداً، وتضم عدداً كبيراً من الطلبة، كما أن عدد المراقبين كان كبيراً أيضاً. كنت أعود من اللجنة إلي المدينة الجامعية، اتغدى ثم ابدء مباشرة في التحضير للمادة القادمة، بعدها انام لاستيقظ ثم أذهب للجنة مرة أخرى.كنت قد نسيت، ولو ظاهرياً، المركز الفرنسي، حتي جاء اليوم الأخير، وشعرت حينها بحرية كبيرة.

كان ميشيل سيدوتي يري في راقص من نوع نادر، وكنت أصدقه!.

بدأت الدورة، وشرع يعلمنا، علي أنغام انت عمري، كيف نحس الموسيقي أولا ثم نترك جسدنا ليعبر عن تلك الموسيقي بطريقته!،.كنت احب الرقص إلا أنني كنت أشعر بضيق، جلست علي الكرسي شبه منهار. لمحني.ميشيل فترك علي الفور التدريب قادماً نحوي

– ماذا بك؟

-لا شئ، أحس أن هذا النوع من الرقص لا يناسبني

-لكنك تستجيب بسرعة…أنت مندفع قليلاً

فاجأني ميشيل بكلماته، لم أكن مندفعا، ربما، خجلت، او لم أجد نفسي.تابعت دروس اللغة، وكان هناك تقدما ملحوظا، لدرجة جعلت لويزا تلتفت نحوي أولاً عندما كانت تحب أن توجه سؤالاً لأحد، ونشأ بيننا إعجاب خفي، إلا أنها لم تنسي ولا مرة واحدة الفارق العمرى بيننا، وموقفها الخاص كمعلمة، وقد كنت حريصا علي التحضير لحصتها، والحضور مبكراً حتي أحظي بإستقبالها وكانت تخفي ضحكتها!. أنهيت حصتي، ثم مررت بجانب حصة الرقص المعاصر في الصالة الكبيرة، لم أكن نادماً علي شئ، أما ميشيل فقد كان مستغرباً!. توجهت الكافتيريا، فوجدت فريال هناك، فأشرت إليها فردت بأصابعها وهي تضحك.

    ١٦

عند عبوري البوابة الحديدية للمركز، رأيت فريال و يوسف، بجانب بوابة المسرح، كانت فريال تتحدث بإنفعال، يداها كانت تتحركا بعصبية، أما يوسف فقد بدا عليه حزن شديد، وكان يدافع عن نفسه بطريقة بدت لي أكثر هدوئا، علي الرغم من الحمرة التي كست وجهه.توقفت قليلاً، إلا أنني لم أستطع فهم ما يدور، ولم أسمع جيداً، ترى ماذا هنالك؟!

كانت الصالة الكبيرة تستعد لإستقبال حفل عازف البيانو الفرنسي جون بيير، وكان البيانو الأسود بأصابعه البيضاء والسوداء، ينتصف المكان ومن حوله كراسي شبه خالية، بدا لي البيانو، في لحظة، كخطبب مفوه ينتظر مريديه.ومع اقتراب المغيب امتلئت الصالة بالحضور، ثم بدأ جون في العزف، كان عزفه سلسا، وكان صوت الموسيقى عذبا، أيضاً، كمياه جدول رقراق، أو هكذا خيل إلينا، وراح جمهور الحاضرين ينصت في مودة،!، وبينما هو مندمج في لحنه، سمع صوت اصطدام سيارة وكلاكسات متتابعة، بعدها سمعت صرخة مدوية لكنها بدت يتيمة ووحيدة أمام صوت البيانو الذي لم يتوقف علي الرغم من التفاته العازف نحو الصوت.بعدها بفترة وجيزة سمعت سرينات عربة إسعاف، تسللت خارجاً فوجدت يوسف والدماء تسيل من رأسه، علي حمالة ويدخلونه عربة الاسعاف، شعرت بصدمة في حين تداخل عزف البيانو بمشاعر وأحاسيس مختلطة وغريبة، ووجدت فريال بجانب البوابة تبكي بحرقة.تحركت السيارة لكنى لم اتحرك والعزف مستمر.

    ١٧

كان يوسف مستغرقا في غيابه بجانب جهاز رسم القلب، كل الإشارات الموجية تشى بشئ غريب لا أعرفه. كانت أمه بجانبه تبكي، وكأنها تستشعر نهاية ما، كأنها تودع ولدها الحبيب، فيما بدا والده مستغرقا في حزن وقلق عميقين، وصور تلاحقه، جلسته تشى، هي الأخري، بشئ. كان يوسف وحيداً، فريداً.جاء الدكتور ثم طلب من أمه أن تبتعد، ثم ذهب لوالده وقال له شئ.ثم ربت علي كتفي قائلا بإشارة من يده:خلاص. لم اتمالك نفسي من البكاء.

في اليوم التالي، وبعد صلاة الجنازة، كنت أنا وأقارب وأصحاب يوسف في مدافن العمود، نزل يوسف مكانه الأخير، بدون مقدمات، أو إنذار مسبق!….. وداعا يا صديقي

شعرت، ولأول مرة، أنني وحيد جداً وفقير حد الفاقه والعوز.

    ١٨

في اليوم الأخير، ، كنت أشعر بقلق، فلم أكن أصدق، من ناحية، انني أنهيت دراستي، ومن ناحية أخرى، كانت وفاة يوسف ذات تأثير صادم علي. كنت افكر في هدى التي كانت تنتظرني خارج المعهد، كما كنت أفكر في مصير دراستي للفرنسية، والتي لا تزال في مرحلتها الأولي. لم أكن أعرف علي وجه الدقة، ماذا يجب أن أفعل؟ وكان أمامي خياران، إما أن أظل في الإسكندرية، مكملا دراسة الفرنسية، وفي نفس الوقت أبحث عن عمل، أو أن أعود إلي مطروح. كانت علاقتي بهدى، علي الرغم، من حبى لها، قد أخذت طورا جديداً، صحيح أنني أحبها، لكن هناك شئ عميق يفصلني عنها، ربما الزمن، فانا لا زلت في مقتبل العمر، وهي مازال أمامها سنوات دراسة أربع!.قابلتها بعد الامتحان، وركبنا الترام حتي محطة فيكتوريا، وتمشينا هناك لساعتين، بعدها ركبنا الأتوبيس حتي سيدي جابر، نزلت هي، وتوجهت أنا للبحر، بعدها أكلت كشري، ثم عدت للمدينة الجامعية وكنت قلقاً علي ما أتذكر!، نمت بعد مجاهدة، في اليوم التالي، غيرت ملابسي ونزلت، حاولت الإتصال بها مرة أخرى، فرد أباها غاضباً، رحت ناحية منزلها، وهناك لمحني البواب!.

حتي لحظة الكتابة تلك، والتي أعيد فيها تذكر، و قراءة ما حدث في ذلك اليوم، لا أصل إلي حقيقة واحدة، بل أصل، دائماً، إلي عدة حقائق، أو، بالاحري عدة وقائع، اولهما حبي لهدى، واعترافي الباطني بمشاركتها المباشرة في ما آلت إليه حياتي، ورغبتي العميقة في أن نكون معا، ورفضي للواقع الإجتماعي وشروطه القاسية. كما واقع اخر جديد، وهو ملاحظتي العقلية لعمري وعمرها، وما ينتظرنى وما ينتظرها، واستحالة نظريا وواقعيا تكوين واقع مغاير معا، يجمعنا نحن الإثنان، إذ أن الطريقان مختلفان، ومع ذلك وجدتني احبها، أثناء وجودي معها، وانا اتخذ موقفاً باطنيا مغايرا. كنت أعيش في جملة من المتناقضات، علي الرغم من صحة بعضها، وقوة الحجة للبعض الآخر!.

 *

  بحرى..بحرى

   ١٩

لم يكن لدي خطة واضحة إلا التقدم للخدمة العسكرية، ومن ثم قضاء مدتى، والحصول علي الشهادة، حتي أتمكن من السفر إلى فرنسا، الحلم الكبير. لا أدري كيف ولد حلم السفر داخلى؟ ولا متي حدث ذلك؟

ولا أعرف كيف تحول الوطني الغيور داخلي إلي شخص متذمر وراغب في الهجرة، بحثاً عن تحقيق أحلام، يظن أنه لا يستطيع تحقيقها في بلده، ربما لم يحاول الشاب أصلا!،

تقدمت لمركز التوزيع، ما يعني الكشف الطبي، بعدها طلبوا منا القدوم بعد يوم لسماع السلاح.عدت مرهقاً حزيناً، ومودعا، علي ما يبدو، حياة الحرية إلي حياة أكثر صرامة، لم أنم بعمق، كنت مؤرقا. ذهبت إلي المركز لسماع سلاحي، وكانت المفاجأة أني انضممت لسلاح البحرية، ما يعنى أنني لن أترك الإسكندرية، شعرت براحة عميقة.كانت مفاجأة سارة هكذا سأسير في شوارع الإسكندرية بزي البحرى واليانك الأبيض الشهير فوق رأسي، وفوق صدرى منديل ازرق مخطط بالأبيض.ولسوف أمر بزى البحري هذا، طيلة فترة تجنيدى، بمنطقة المندرة، حيث أركب، كل يوم، بإستثناء الإجازات، ميكروباص إلي وحدتى في ألمعمورة، مثل أي موظف، مستفيدا من خدمة المبيت المسموح بها للمجندين.وسوف يناديني أحدهم في الشارع:يا بحرى..يا بحرى..الساعة كام؟ وتدعوا لي عجوز بالنجاح والذرية الصالحة، وأنا ممسك بيدها لتعبر الطريق. أخيراً، وجدت مسكناً، وبسهولة، مع بعض المغتربين، لم تكن لي أى علاقة بهم من قبل، إستقبلني موسى، موظف بإحدى شركات المقاولات، من بسيون، بحرارة، ووافق دون تردد، قبل أن يعرف إسمى،! أن أسكن معهم، مقابل خمسين جنيهاً شهرياً.

في الأيام التي تلت ذلك اللقاء تعرفت، تدريجياً، علي ساكني الشقة، كانت الأعمار متقاربة، مع ذلك بدا الجميع حذراً لسبب لم أفهمه، علي الأقل، حينها.كنت أخرج من غرفتي بين الفينة والاخري، لكي أجلس في الفراندة.الجميع يخرج في الصباح، ويعودون قبل المغرب بقليل، وفي إحدى المساءات جمعنا موسى بصنعة لطافة.حول مائدة العشاء، بعد أن أنفق من جيبه الخاص، طبق فول كبير وطعمية وجبن وخبز، دعانا ثم قدمنا لبعضنا البعض..ياسر..رضا….ثم قدمني بمهارة: كل يا عسكري حمادة لا احطك في العمبوكة..ها ها ها ها.

    ٢٠

يوم بعد يوم، اصبح وجودى في الحى مألوفا للجميع، كما اصبح رجوعى من الوحدة مبشرا بالوعود والآمال، فعم جميل وزوجتة الست مريم أصحاب دكان البقالة أسفل العمارة، يتعاملون معى بمحبة وود، كأني ولد لهم لم ينجباه، كما سليم البواب الذي يحلو له محادثتي:حمد لله علي السلامة يا بحرى!.

كما توطدت علاقتي بموسى، وكنا نتحاور دائماً، ونحن نسند ايدينا علي سور الفراندة.وكان يحكي لي قصته مع الجيش، كما حدثني عن أمنيته إنجاب ولد، وتسميته عمرو، لكي يصبح عمرو موسي، محبة في وزير الخارجية المشهور.

    ٢١

 أستيقظ كل يوم علي صوت المنبه، في الخامسة صباحاً، أنام في ميعاد محدد، باستثناء يوم الخميس.كانت حياة نظامية لدرجة أثارت سخرية رضا وياسر، هل الخوف ما جعل حياتي تسير بهذه الطريقة؟

 الخوف من العقاب؟! ومع ذلك كانت فرصة جيدة لإستكمال دراستى للفرنسية، علي الرغم من رتابة المواعيد، والضغوط التي جدت، كما حياة الغربة بعيداً عن الأهل.فلم يكن موسى بديلاً عن يوسف، علي الرغم من محاولته التقرب مني!.بل شعرت بعد فترة بالوحدة والاغتراب!.وفي يوم دخل الغرفة شاب ثلاثيني ذو شارب، وكان في يده بطانية وفي اليد الأخري عود، وضعهما علي السرير وهو يلقي السلام بدون اكتراث. بعدها غير ملابسه ونام.وبعد عدة دقائق بدأ شخيره يعلوا!، كان مرهقاً علي ما يبدو، أطفأت النور أدبا ثم نمت. في اليوم التالي، عند عودتي وجدته يتحدث إلى موسي، وكان موسي ينصت إليه في اهتمام، محمود حسن سكندري يهوى الغناء والعزف علي العود، سمعته أول مرة يغنى وهو يعزف علي العود، عند عودتي مساءاً من المركز الفرنسي، كانت مفاجأة سارة كباقي المفاجآت السارة التي بدأت بدخولي البحرية!.

اشكي لمين وأحكي لمين

دنيا بتلعب بينا

دنيا تدور مهما تدور

ما هي بتدور سواقينا

رفع محمود كتاب اللغة الفرنسية إلي أعلي، وحاول أن يقرأ بطريقة بدت لي ضاحكة، وتعكس خفة دمه ثم قال: يقولون أنك تتحدث الفرنسية مثل العصافير.قلت له محاولا إظهار قدراتي في اللغة:وي مه با ترو! نعم لكن ليس كثيرا

– أنت مغني

– أنا اغني لكن لست مغنيا…افرح اغني..احزن اغني..دنيا ماشيه غصب عني.

كان يحب محمد منير وأغانيه بدرجة لافتة للنظر، وأنا أيضاً أحبه لكن ليس بهذه الدرجة.لكن هذا جعلني اتعاطف معه بشكل كبير، لا أدرى لماذا؟! كأنه يعانى من ألم خفي!، والغريب أيضاً. أنه جعلني أفكر! أفكر بعمق!.كثرت الحوارات بيننا بعد ذلك، نظراً لوجودنا في غرفة واحدة، وعلي سريرين متقابلين، فقد كان يضع يده خلف رأسه، وهو مسند علي المخدة، ثم يشرع في التأمل أو الحكى، حكي لي عن رحلته الأولي إلي اليونان، وكيف لعب أباه دورا حاسماً في عودته إلي مصر، عن طريق أحد معارفه الكبار هناك!، كنت أنظر إليه بدهشة، كأنه أحد أقاربي، ولهذا تعاطفت معه أكثر!، ثم أراني صورة له في أحد شوارع اثينا، وكنت أحكي له أيضاً دون أي محاذير، حتي نصحني أن أحتفظ، دائماً، بشئ لنفسي، نمت العلاقة سريعاً، وتحولت إلي ما يشبه الصداقة، كان يكبرنى بعشرة سنوات، ويعمل محاسبا في شركة مقاولات مثل موسي. لم يشغلني، ولفترة طويلة، السبب وراء تركه بيته، في العطارين، وحياته معنا، نحن المغتربين.لكني كنت أشعر بالرضا لوجوده معنا. أصبحنا أسرة واحدة تجمعها المحبة، علي الرغم من أن لكل منا مواعيد خروجه ورجوعه، بالأحري حياته ونظامه الغذائي الخاص.

    ٢٢

كنت أراجع دروس الفرنسية، حينما فتح محمود الباب، لم ألتفت جيداً لما يحمل في يده، إلا حينما أزاح الغلاف الورقي، فبدت صورة له مع سارة خطيبته، سررت غاية السرور…ألف مبروك..ألف مبروك

كان موسي الأقرب لمحمود بحكم تقارب السن والعقل.عدت لحياتي كبحري مع كل شئ حولي، وبدت الحياة في الإسكندرية مقبولة ومنطقية، كأني ولدت هناك، أو أن هذا المكان هو المكان المناسب لي وحسب!.كانت تمر الشهور دون أن أنزل إجازة، فلم أكن أشعر برغبة حقيقية، في العودة إلي مطروح، ولعل ذلك ما أثار استغراب البعض، وجعل ياسر يسألني بشكل مباشر: ألا تشتاق إلي الحياة مع أسرتك؟!!

 ثم مرت ما يقرب من نصف المدة أو أكثر ولم يتبقي إلا القليل، وتقدمت في دراسة الفرنسية.وكانت الحياة تسير بشكل سريع، وفي مرة، دخل محمود، بأوراق الهجرة العشوائية إلي أمريكا، اليانصيب!.

-بالتوفيق يا محمود، ماذا عن سارة؟؛

 – مفيش نصيب

لم أجد مبررا معقولاً لفسخ الخطوبه سوي ما سمعت من نقده لسلوكها الطفولي، بطريق المصادفة، هكذا صنف فكرها، وعبر عن عدم إعجابه بها.ولكن ما الذي دفعه، بالأساس، لقبول مثل تلك الخطبة؟

تذكرت المضايقات التي يتعرض لها من زملائه في العمل، وضيقه وعدم تحمله لهم، كما حالته النفسية وشخيره عندما ينام حزيناً مهموماً.

ثم وجدت، بعد ذلك، رغبته في السفر، والتي لم يعلن عنها في حينها، أكبر من الزواج بتلك الفتاة المسكينة.وهكذا حدست جانباً خفيا من خلال ماهو مرئي. وهكذا وجدتني أيضاً أقف علي الحياد، بجانب الحقيقة، مع محبتي وتعاطفي مع قضيته!

    ٢٣

كنت خدمة ليليلة بالسلاح، علي الساحل، في يدي راديو أحمر صغير، القمر بدر، بقعة مركزة من الضوء علي مرمي البصر، وبرودة شديدة، أشعلت سيجارة ثم أدرت مؤشر الراديو علي صوت أم كلثوم…. الحب كله حبيته فيك…يا دنيا حبي وحبي.. في تلك اللحظة الشجية العابرة، بدا لي المنطق كمسافة محددة لصوت الست المنبعث من الراديو حتي القمر، ما يعني، مستوي الرؤية وعمقها!.

حياة متعددة الأبعاد، أو هكذا إنعكس وجودي علي بقعة الضوء، وهكذا، أيضاً، لم أجد داخلي إلا إعادة تقديمها، ومن منظور ذاتى، في الحياة كما في الفن!. فمازلت يا علي ما يبدو، احب هدى، ومازالت هدى تحبنى، إذا، فلماذا كان الإنفصال؟ العقل، لكن أي عقل.أين انت يوسف؟. لم اتمالك نفسي من البكاء.

   ٢٤

أفقت، فجأة، علي وقع خطوات وصوت ضحكات يتعالى، ثم شعرت بألم في ركبتى، إنثنيت متحسسا موضع الألم، كان مشهد البحر من شقة محمود في ستانلي مبهرا.فجاءة، وجدت من يربت علي كتفي قائلا: ازيك يا بحرى؟

لم استطع التعرف عليه بسهولة، إلا أن صوته كان يقول شيئاً، سمعته من قبل، دخل صاحب الصوت، لكن صوته ظل معي….رضا..رضا.

جاهدت طيلة السهرة أن أكون طبيعيا، وقد كنت طبيعيا فعلا!. حكي كل منا حكايته، قلت لهم أن أكثر شئ ندمت عليه أنني لم أكمل حياتي في الإسكندرية!. أما موسي فقال أن إبنه عمرو موسي أصبح طالبا في كلية الإعلام، وقد كان سعيدا للغاية، ثم طلب من محمود أن يغني لنا كما كان يفعل من قبل، فدخل غرفته وأحضر العود

ساح يا بداح

يا سؤال جراح

ما الذي كان ومعدش وراح

   ٢٥

استيقظت، في الفندق، علي صوت أذان الظهر، كنت متعباً من سهرة الأمس، غسلت وجهي، ثم غيرت ملابسي، وخرجت، سرت في اتجاه ترام الرمل، كمهاجر يشتاق إلي بيته القديم، شعرت براحة عندما بدأت عجلات الترام في الطرقعة. لم أشعر بالوقت وأنا أشاهد الإسكندرية، من شباك الترام، وصلت، سريعاً، إلي سيدي جابر، وهناك نزلت، ثم استدرت يساراً، زحام حول المحطة وفي الشارع. أتذكر المكان، جيداً، لكن أين الدكان؟ مرت سنوات طويلة علي هجرتي تلك، تغيرت أشياء كثيرة، سرت بحذاء الدكاكين ثم فجأة، تلقائيا، وقفت، ثم رفعت رأسي لأعلي.ألم يكن هنا دكان عم فاروق؟!، ترزى فاروق، تري، اين هدي الآن؟ ميدو لأجهزة المحمول!، دخلت، وجدت شابا في العشرينات، فكرت للحظه أنني اعرفه! ربما….، جلست

– مرحباً يا حاج

– مرحباً يا بنى

– مش دا دكان ترزي عم فاروق؟

-الله يرحمه يا حاج.. أولاده باعوا الدكان لبابا من زمان

كنت مضطرباً، إلا أنني شعرت براحة حينما أخبرنى الشاب ببيعهم الدكان، عبرت الشارع صوب المحطة وتوجهت لشباك الحجز!

 

مقالات من نفس القسم