سالفادور سالازار أروي (سالاروي)*
ترجمة: عبد الغني محفوظ
كان خوسيه باشاكا جسداً ممدداً على إهاب من الجلد، وكان الإهاب مفروشاً في كوخ، وكان الكوخ منبسطاً على سفح تل.
وكانت بترونا بولنتو هي أم ذلك الفم: “يا بني..افتح عينيك، لقد نسيت لونهما”.
وجاهد خوسيه باشاكا وكان كل ما استطاعه هو أن يسحب ساقه.
“ماذا تريدين يا أمي”.
“عليك أن تجد لك عملا، لقد أصبحت هنديا كبيرا”.
“سمعا وطاعة يا أمي”.
وبدأت الحياة تدب في العاطل فتدرج من النوم إلى الحزن متثائبا.
ذات يوم أتى إليهم أولوجيو إيشو ومعه ذيل طويل. كان شيئا شبيها بضفدعة حجرية وجده بينما كان يحرث، وكان للضفدعة عقد من الخرز وثلاث فتحات واحدة في الفم واثنتان في العينين.
وقال عندما وصل: “يا لها من مخلوق بشع”. وضحك ملء فيه: “إنها تبدو تماما مثل كاندي العوراء”.
وتركها ليلهو بها أبناء ماريا إيلينا.
ولكن بعد يومين وصل باشوتو العجوز وعندما وقع بصره على الضفدعة قال: “هذه الأشياء الصغيرة صنعها أجدادنا منذ زمن بعيد. يمكنك أن تجدها مدفونة في الحقول ومن الممكن أيضا أن تجد أباريق مليئة بالذهب”.
وتنازل خوسيه باشاكا فزوي ما بين عينيه حيث لكل إنسان آخر جبين.
“كيف ذلك يا سيد باشوتو؟”.
أطبق باشوتو على السيجارة بكل قوة تجاعيده وانبرى يتحدث في سحابة من الدخان وفى الحال روى آلاف الاكتشافات لأباريق بها كنوز “شهدها كلها بعينيه هاتين”. وعندما غادر باشوتو لم يلاحظ أن بذور ما قاله قد صادفت تربة خصبة.
ولما كانت بترونا بولونتو قد ماتت في تلك الأثناء، فقد رفع خوسيه فمه وأخذه في جولة في الناحية دون أن يحظى بما يقيم أوده، فكان يأكل ثمار أشجار الزعرور المسروقة وقرر أن يبدأ في التنقيب عن أباريق الكنوز. ولكي يتسنى له ذلك وضع نفسه خلف محراث وراح يدفعه، وخلف سلاح المحراث كانت عيناه أيضا تحرث. وكان هذا هو السبب في أن خوسيه باشاكا أصبح اكسل الهنود في المنطقة كلها وفى نفس الوقت أكثرهم كداً ودأباً على العمل. كان يعمل دون عمل – على الأقل دون أن يدرك ذلك – وكان يعمل كثيرا، حتى يحل الغسق دائما والعرق يتصبب منه ويديه على مقبض المحراث وعينيه على الأرض المحروثة.
ومثل قملة التل الصغيرة كان يمشط التربة السوداء بشراهة وينظر دوما الى الأرض بحرص شديد حتى بدا كأنه سيمضى في بذر روحه بين كتل الطين لكي يفرخ الكسل لأنه في الحقيقة عرف انه أكثر الهنود بطالة في الوادي كله. لم يكن يعمل بل كان يبحث عن أباريق معبأة بعملات ذهبية تصدر صوتا عندما يصطدم بها سلاح المحراث وتقذف بالذهب والفضة، كما تفعل المياه في البركة عندما تطل الشمس من خدرها خلف منزل الدكتور مارتينيز، في الوديان التي تمتد حتى حافة الأفق.
وبقدر تضخم خياله، أصبحت تلك الهواجس تستبد به، فقد جعله الطموح أكثر منه الجوع ينهض من على إهاب الجلد، ودفع به إلى سفوح التلال ليحرث ويحرث من الساعة التي تبلع فيها الديكة النجوم بصياحها حتى الساعة التي يمزق فيها طائر الطرغون الصمت بصرخاته الأجشة، جالسا على أغصان شجرة السيبا حزينا ومبحوحا.
صارع باشاكا التلال، أما مالك الأرض الذي كان مندهشا للمعجزة التي أحالت خوسيه إلى أكثر الفلاحين مثابرة على العمل، فقد راح يعطيه في سعادة أشرطة عريضة من الأرض دون أن يحفل بقياسها. ويعكف عليها الهندى الحالم بالكنز يخدشها بعينيه اللتين كانتا على أهبة الاستعداد لإبلاغ قلبه حتى يهوى على إبريق الكنز فيغمره بالحب والكتمان. وبذر باشاكا البذور في الأرض، حيث كان عليه أن يفعل ذلك لأن مالك الأرض طالبه بالإيجار. وكان عليه أيضا أن يحصد، وأن يتقاضى أثمانا باهظة على محصول الحبوب الوفير الذي اعتاد أن يضع عائده بلا اكتراث في حفرة في كوخه، تحسبا للطوارئ.
لم يشعر احد من الفلاحين أن لديه الشجاعة الكافية لكي يعمل بنفس المثابرة التي يعمل بها خوسيه واعتادوا أن يقولوا: “انه رجل من حديد، منذ ركبه ذلك الشيء الذي لا يعرفه احد، صمم أن يكون ثريا. لاشك أن لديه كنزا كبيرا الآن”.
ولكن خوسيه باشاكا، لم يلاحظ حقيقة أن لديه كنز. ما كان يبحث عنه دون كلل هو إبريق الكنز، وحيث أن تلك الأباريق يقال أنها مدفونة في الحقول، فقد كان موقنا انه سيعثر عليها أن عاجلا أو آجلا.
لم يصبح كادا ودؤبا على العمل فحسب في عيون جيرانه، بل أصبح كريما أيضا. ففى كل مرة يكون لديه يوم لا يستطيع أن يحرث فيه لأن أرضا لم تعين له لحرثها، كان يساعد الآخرين، فيرسلهم ليستريحوا ويحرث لهم. وكان يفعل ذلك على الوجه الأكمل فكانت الأخاديد التي يتركها سلاح محراثه ملاصقة لبعضها البعض وواسعة وعميقة ويبعث النظر إليها على البهجة.
واعتاد الهندي أن يفكر دون أن يستسلم: “أين تختفين أيتها الأشياء الغبية.. سوف أعثر عليك حتى لو لم تريديني أن افعل ذلك، حتى لو كنت سأقتل نفسي في هذه الأخاديد”.
وهكذا ما كان، ليس العثور على الإبريق بل موته.
ذات يوم في الساعة التي تصطبغ فيها السماء باللون الأخضر الخفيف وتستحيل الأنهار الى أشرطة بيضاء في الوديان، أدرك خوسيه باشاكا إنه لم يكن ثمة أباريق كنز. وقد وصلته هذه الرسالة عندما سقط في إغماءة محمومة فانطوى على مقبض المحراث وتوقفت الثوران ببطء كما لو كان سلاح المحراث قد أصبح متشابكا مع جذور الغسق السوداء على صفحة السماء المنيرة التي “استدارت لتنظر إلى الهندي المنهار وتتنفس الهواء القاتم بتثاقل”.
سقط خوسيه باشاكا صريع المرض ولم يشأ أن يعتني به أي أحد. “منذ ماتت بترونا، عاش وحيدا في كوخه”.
ذات ليلة استعان بآخر ذرة من قوته فخرج خفية حاملا كنزه في جرة قديمة وكان يجثم خلف الهيش كلما تناهت إليه أصوات، ولكنه استمر في الحفر بمديته الضخمة. كان يتأوه من آن لآخر من فرط الإعياء ثم يواصل مهمته بتصميم. وضع الجرة في الحفرة وغطاها تماما ومحا كل علامات الحفر ثم رفع ذراعيه اللذين يشبهان النبات المتسلق نحو السماء وجدل الكلمات الآتية في تنهيدة: “والآن ليكفوا عن القول بأنه ليس ثمة أباريق كنز في الحقول”.
……………
*سالفادور سالازار أروي (سالاروي) 1899 – 1975 كاتب ورسام ونحات سلفادوري. ولد في مدينة “سونسونات” في أسرة ميسورة لأب يعمل بالتدريس وأم تكتب الشعر وتترجم القصص القصيرة من اللغة الفرنسية. درس سالاروي الفن في السلفادور والولايات المتحدة وعمل محرراً لصحيفتي Amtal وPatria بين 1925 و1940ثم عمل لعدة سنوات ملحقاً ثقافياً لبلاده في واشنطن. تشمل أعماله العديدة قصصاً وروايات ذات طابع فولكلوري وفانتازي وفلسفي.