إبراهيم فرغلي: لا أريد استعادة نصر أبوزيد

إبراهيم فرغلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
حاوره: سيد محمود
يعرف المتابعون لأعمال الروائى إبراهيم فرغلى، مدى انشغاله بمحنة العقل العربي، فقد عالج قضية الرقيب فى روايتين على قدر كبير من الأهمية، الأولى هى رواية (أبناء الجبلاوى) والثانية هى (معبد أنامل الحرير) وبخلاف هاتين الروايتين، فإن أعماله الأخرى أظهرت انشغاله بالفانتازيا وتناقضات الواقع، واعتمدت على السرد الغرائبى لاسيما فى روايته (قارئة القطار ) التى نالت جائزة نجيب محفوظ، التى يمنحها المجلس الأعلى للثقافة،كما نال فرغلى جائزة ساويرس فئة كبار الكتاب فى دورتين، بما يؤكد جدارته كصوت روائى متمهل يعرف ما يرغب فى الرهان عليه، كما يمتلك الجرأة للتعامل مع قضايا شائكة تخص التصورات الشائعة عن الجسد فى المجتمعات العربية .. وأخيرا صدرت عن دار الشروق روايته الأحدث (بيت من زخرف)، التى تستعيد سيرة الفيلسوف العربى ابن رشد، وتتأمل فى محنته مع الخليفة المنصور، ويستطيع القارئ بسهولة إدراك الرسائل االتى يرغب الروائى فى تمريرها .. هنا حوار معه حول الرواية التى تثير الكثير من التساؤلات، خصوصا أنها مهداة إلى المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، والذى استلهم جوانب من سيرته فى الرواية وصاغ شخصية روائية تتقاطع معه إلى حد كبير.
■ قلت لإبراهيم فرغلى لاحظت أن الخط العام فى أعمالك اعتبارا من (أبناء الجبلاوي) أصبح معنيا بفكرة المواجهة مع الرقيب والتأكيد على حرية التعبير كقيمة أساسية فهل تعتبر الرواية الجديدة استكمالا لهذا الخط؟
• مؤكد، فمحنة العقل العربي الرافض للمنطق النقدي، والكارثة الخاصة بالأمية المعرفية والثقافية في المجتمع المصري خصوصا والمجتمعات العربية إجمالا تأتي كهم من أبرز الهموم التي أحاول تأملها سرديا منذ أبناء الجبلاوي. وسيرة ابن رشد المتخيلة والمقترحة في “بيت من زخرف” وامتدادها في الشخصية الرمزية المعاصرة؛ سعد الدين إسكندر نموذجان دالان على محنة العقل العربي الذي يعاني من خصومة ممثلي ثقافة النقل الحرفي ودفن الرؤوس في تراب الجهل والزعم بأن التفكير خروج عن الإجماع، وصولا للتكفير. الرواية أيضا تقترب من المنهج العقلي للتراث الإسلامي الذي كان يعارض من يختلف معهم بالنقاش والحوار بوصفه أساس من أسس العقلانية، وهو ما فعله ابن رشد بكتابه “تهافت النهافت”، فلم يجيش مثلا أنصارا لفكره لكي يمنعوا كتاب الإمام الغزالي أو يحجبوا أفكاره، ولم يجيش العوام لتأليب الجمهور على من يخالفه، بل رد عليها بندا بندا مقدما نموذجا رفيعا في ثقافة الإيمان بالتعددية، والحوار الفكري، ومقارعة الفكرة بمثيلتها، وهذا بالمناسبة ما فعله نصر أبو زيد في كتبه التي تناول فيه بالنقد مشروع الفكر السلفي بكافة أطيافه المتشددة والمحسوبة على ما يقال عليه التيار الوسطي. بينما قام من اختلف معهما بتقديمهما للمحاكمة وحرق كتبهما وإقصائهما بكافة الوسائل.
■ تتكرر عندك ثيمة الهوس بالكتب والمخطوطات أيضاً، فالسرد في الرواية الأحدث يعتمد على إحداث الانتقال الزمني من خلال الغوص في المخطوطات المتروكة؟
• ربما يأتي ذلك كحيلة رمزية للاحتفاء بالمدونات التي تحتوي الأفكار. المخطوط والكتاب وحتى جدارايات المصريين القدماء التي دونت عليها معارفهم من المنجزات البشرية التي تأسرني في كيفية الاهتمام بالمعرفة وتخليدها. ومن أكثر ما يثير الغضب والذهول أن يصاب مجتمع ما بالتعصب والجهل رغم أنه ليس مجتمعا حديثا ناشئا، بل ينحدر من جذور حضارية قديمة ووارث لتراث معرفي سابق زمنه، لكنه مصاب بالعمى. أظن أن موضوع الكتاب والمخطوط، وهما بشكل عام من أجمل ما أنتجته البشرية، يأتي للتأكيد على أن خلاص أي مجتمع لا يمكن أن يتحقق بدونهما المخطوط والكتاب، فلا حضارة تقوم وتستمر بدون ذاكرة، ولا معرفة تتخلق بلا تدوين، بقول آخر لا تتحقق النهضة بدون المخطوط والكتاب: الأول لبناء العلاقة مع التراث والماضي والثاني لسد الفجوة المعرفية الهائلة التي نعاني منها.
■ ما دلالة إهداء الرواية إلى نصر أبوزيد، وتمثل تجربته في صورة نموذج لبطل روائي بماثل ابن رشد، ولماذا فعلت ذلك على ضوء مخاطر تخييل سيرة مفكر معاصر؟
• سعد الدين إسكندر وإن بدا في سيرته الكثير من التقاطعات مع سيرة نصر أبوزيد، لكنه في الحقيقة رمز أكبر وأكثر شمولا لنماذج عديدة من المفكرين المصريين والعرب المعاصرين الذين تعرضوا إما لسلاح التكفير أو القتل أو الإقصاء أو المنع، من فرح أنطون إلى علي عبد الرازق وطه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة وكل مفكر دعا لتحرير العقل من الجمود ومن منطق النقل بلا اختبار لمدى ملاءمة هذه الأفكار للمنطق الإنساني وجوهر أي حكمة أو شريعة.
سيرة نصر حامد أبو زيد أيضا سيرة كفاح رجل عصامي بنى نفسه بنفسه وخصوصا كباحث مستقل يبتغي المنهجية والحقيقة وهذا هو مركز اتصاله في تقديري بابن رشد من حيث الغاية. ولهذا اخترت أن يكون التخييل ليس لإعادة اختلاق سيرة نصر أبو زيد سرديا، بل بتشييد صورة تخييلية رمزية له تهتم بأفكاره أكثر من تفاصيل حياته.
■ تبدو الحلول التقنية في الرواية متكررة وتقليدية في التوازي بين المسارين المعاصر والتاريخي وتقنية البحث عن المخطوطات من خلال شخصية مانويلا فهل ترى ذلك؟
• طبعا كل كاتب يتمنى أن يكتب نصا “أصليا” أي غير مسبوق له فكرة مدهشة مثل العطر على سبيل المثال، أو ربما مثل رواية قرأتها مؤخرا وأعدها من أجمل ما قرأت وهي قاموس ماتشياو للكاتب الصيني هان شاو جونج. لكن العودة للتاريخ ربما تضع بعض القيود خصوصا لو أردت أن تقدم أيضا معالجة غير تقليدية وبناء جسر بين التاريخي والمعاصر. هذه الرواية كتبت على أربع مراحل لكل منها أسلوب مختلف تماما، وشخصيات مختلفة تماما، وقد قطعت في كل مرحلة منها شوطا طويلا، ثم قررت الحذف والبناء من جديد حتى وصلت للشكل الذي خرجت به، وهذا كله لمحاولة عمل حبكة مقنعة من وبناء نص روائي يميل للتجديد حتى لو اتكأ على حيلة تقليدية مثل حيلة المخطوط.
■ لدي شعور بهيمنة النص التاربخي على النص
• أظن أن هذا الأمر شديد الأهمية في نص لم أبتغ منه أن يجد القارئ حكاية تدغدغ حواسه عن الأندلس على طريقة الرواية الغربية التي تناولتها من منطق عوالم ألف ليلة الاستشراقية، ولا طريقة الرومانسيين العرب الذين يستعيدون الأندلس باشواق الباحثين عن جنة ضائعة، أو حتى رواية تغلب عليها تتبع الصراعات النفسية على السلطة وعلاقات الحب كما لدى جورجي زيدان، وأساسا كنت أود تقديم صورة تخلخل القالب النمطي البسيط الذي قدمه يوسف شاهين في المصير عن ابن رشد، والأهم من هذا كله أنني رغبت في توفير جانب من أفكار ابن رشد للقارئ وليس مجرد اختلاق حكايات أو سيرة درامية للمتعة والتشويق. ولهذا كان لا بد من منح النص التاريخي أهمية كبيرة.
■ في تقديرك، لماذا تتم استعادة ابن رشد بعد استعادة ابن عربي في رواية “موت صغير” للروائي السعودي محمد حسن علوان، ما الدوافع التي تقف خلف هذه الاستعادة؟
• أنا أعتقد أن استعادة ابن رشد مهمة لكسر نمطية الرؤية السائدة عن ابن عربي في مجتمعات تجعل من الفكر مجرد عمليات التذاذ فكري وروحي. وهو رجل لديه سيرة جذابة، ويتمتع بلغة فاتنة وأفكاره عن الإلهام والكشف الإلهي والعالم الروحي لها صدى كبير في الشرق والغرب. لكني أحيانا أقول أنه في مجتمعات شاعت فيها الأفكار الروحانية وأصداء الإشراقات الصوفية واستعيد فيها ابن عربي أو مدونات العشق الإلهي المثيلة لما ساد في الغرب والشرق مع موضة “الرومي” أين ذهبت بها؟ أو أين ذهب بنا هذا كله؟ في الحقيقة لا أعتقد أننا ذهبنا أبعد من مرحلة جديدة من الدروشة. الدروشة بمعنى ربط التحولات المادية في العالم بالممارسات التي تحمل طابعاً روحياً. من ذلك مثلاً الاعتقاد السائد بأنَّ التزام الناس الشعائرَ الدينيةَ، أو حتى إعلان تطبيق الشريعة في بلد ما، أو وصول أشخاص معروفين بالتدين إلى سدة الحكم، سوف يؤدي بصورة شبه أوتوماتيكية إلى تحول في الحياة والاقتصاد، بحيث تتنَّزل النعم والبركات على الناس من دون سعي ولا حساب كما يقول مالك بن نبي على سبيل المثال. أنا أعتقد أن ابن رشد رفض الدروشة بهذا المعنى ولهذا تؤكد السيرة على أن اللقاء بين ابن عربي الصبي وابن رشد الشيخ لم يكن مقدرا له أن ينجح أو يتكرر. كان ابن رشد أساسا شديد التشكك في مناهج المتصوفة. وبشكل شخصي أرى أن ابن عربي كان شديد الإعجاب بنفسه، وانظر حتى الطريقة التي وصف بها لقاءه مع ابن رشد، وهو كان غرا لم يظهر شاربه كما وصفه ابن رشد ويتحدث وكأنه عالم كبير. بينما ابن رشد كان مهتما بالفكر وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشريعة والفلسفة والإصلاح الاجتماعي بشكل حقيقي.
■ في تقديرك وأنت مولع بأدب الرحلة، لماذا يتكرر الحديث عن أسطورة الأندلس، هل هو الإصرار على تثبيت الأسطورة أم هي الرغبة في نقدها؟
• الأندلس بالتأكيد حالة نادرة في الثقافة الإنسانية بشكل عام. وبشكل شخصي بعد زياراتي للأندلس كنت أشعر أنني لا أستعيد أطلالا بل أعود لمرحلة زمنية تبدو كأنها تقدما في الزمن. طبعا هناك تناول رومانسي استشراقي من الغرب للأندلس والتركيز على مظاهر البذخ والتنوع وحريم السلطان وغيره من مثل هذه المظاهر الرومانسية الشائعة في الكتابات الغربية، بالإضافة إلى أنه تناول يراها جزء من التراث الأوروبي أو التاريخ الأوروبي. وهناك تناول عربي يرى في الأندلس الفردوس المفقود. فرصة المسلمين الضائعة في السيطرة على الغرب. بينما يركز البعض على المنجز الفكري والحضاري ويحاول فهم أسباب تحقق ذلك. وأظن أننا نحتاج فعلا لاستعادة وفهم الطريقة التي أنجزت بها الحضارة العربية الإسلامية هذه النهضة التي رافقها الكثير من متغيرات لها علاقة بالبيئة مثل تعايش المسلمين مع المسيحيين واليهود، وشيوع حلول مبتكرة جدا في مسائل العمارة والبناء والزراعة والري والتدفئة في البيوت والفنون وصولا حتى لفن الإتيكيت الذي ابتدعه زرياب في إشبيلية. لكن انهيار هذه الحضارة بسبب التفتت السياسي، وشيوع التيار اللاعقلاني المتشدد الذي بدأ في اضطهاد اليهود مثلا وبدا في منع الكتب وحرية الفكر وهو ما بدأ بعد انهيار الخلافة الأموية وصولا للفترة التي عرفت بملوك الطوائف التي كادت أن تنتهي فيها الأندلس بسبب الضعف الشديد لولا الاستعانة بالمراكشيين المرابطين ثم الموحدين الذين عايشهم ابن رشد وشهدت فترة مهمة مع الخليفة أبو يوسف يعقوب ابن عبد المؤمن، ثاني خلفاء الموحدين وكان رجلا يجمع بين الرغبة في العلم تشهد عليها صداقته مع ابن الطفيل ثم تكليفه لابن رشد بترجمة أرسطو، ومع ذلك كان معروفا بأنه مقاتل شرس في المعارك وقد قتل في إحداها بالفعل. بينما ابنه الخليفة المنصور هو الذي منع كتب ابن رشد ونفاه. وهذا كله يحتاج للتحليل والفهم والنقد. تجربة الأندلس فعلا تحتاج لتأمل. بل ربما فهمها يمكنه أن يجعلنا نفهم واقعنا العربي اليوم وكيف تسقط الحضارات إذا تم تفتتيها وإضعافها معرفيا وفكريا.
■ هل تراجع الجانب الغرائبي في الرواية لصالح السرد التاريخي باستثناء حكاية الرجل الذي سقطت عينه؟
• نعم السيدة الغجرية التي سقطت عينها كانت مجرد لمسة من عالم العجائبية الذي أحب أن أطعم به أعمالي، أو أببتعد بها عن الواقعية التقليدية. ولكن طبعا المضمون هنا فرض نفسه وجعل الانحياز للتاريخي أهم من التركيز على العجائبي.
■ تبدو عملية رسم علاقة عشق متخيلة لابن رشد مع تلميذته خطوة جريئة في مقاربة سيرة رجل فكر وفقه، وبالتالي فإنني أتساءل هل هي الرغبة في جذب القارئ، عبر أنسنة الشخصية التاريخية وتحريرها من الأسطورة؟
• الفكرة نفسها طرقت سرديا من قبل سلمان رشدي، وربما غيره. لكن كان ذلك تناولا غرائبيا تماما. ولكني اخترت فكرة الأنسنة كما أشرت. هذه مساحة يمكن بها سد فجوات تتعلق بشخصية ابن رشد الذي كان لإقصائه دور في محاولة الإساءة له والتقليل من شأنه وبالتالي كان بعض كتاب السير يقدمون له أوصافا قد لا تبدو منطقية وفق السياق العام الشائع لعالم أمضى حياته يدرس ويكتب، وحتى المحبين له والأنصار كانوا يبالغون أيضا أحيانا. أحببت أن أوجد له مساحة كإنسان عادي بعيدا عن محاولات أسطرته أو شيطنته على السواء.
■ هل توافق على ان النص يقدم ادانة للمثقفين كما أشرت في الجزء السادس من الرواية؟
• بالتأكيد، وكل إنجاز أو تراجع للثقافة في أي مجتمع يرتبط بمستوى المثقفين ووعيهم وليس بالسلطة فقط كما يسود اليوم. أغلب المثقفين اليوم يرمون كل السلبيات على الحكومة أو النظام، وهذا مفهوم لكنه يغدو مجرد محاولة للتطهر وتبرير السلبية والعجز وعدم الكفاءة وهذا ظني وتقديري لما نعيشه اليوم كمثقفين: مجموعة من العجزة الذين بدلا من بحث أسباب عجزهم وعلاجها يختلقون صراعات وهمية أو يستقوون بالغرب. لا تغيير يمكن أن يحدث بدون تغيير المثقفين لأدواتهم البالية.

مقالات من نفس القسم