إبراهيم فرغلي: الرواية الجيدة لا يمكن أن تكون مسلية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 69
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: موقع الكتابة

أفكار إبراهيم فرغلي لا تشبه إلا إبراهيم فرغلي، وربما لهذا يمكنك أن تلمح هذا التتابع ـ الذي يمكن اعتباره هندسياً ـ في كتابته، سواء كان هذا التتابع على مستوى الأفكار، أو البناء، أو السرد، وهو ما يجعل عالمه في النهاية أشبه بمتاهة كبيرة، داخلها متاهات ملغزة ممتعة صغيرة هي كل نص على حدة. يمكنك أن تعرف كتابة إبراهيم فرغلي ببساطة لأنها لا تشبه إلا إبراهيم فرغلي، بأفكار رواياته الخارجة عن المألوف، سواء في كتابة جيله، أو فيما كتبته الأجيال السابقة أو اللاحقة، أو حتى في تناوله لأفكاره الروائية التي يمكن أن تلمح فيها سمته الخاص، والتي يتنقل فيها من عوالم الكتب إلى عالم الإيروتيكية، إلى البناء المركب لنصوصه، سواء في النص الواحد، أو حتى في تلك التي تأتي في أكثر من جزء. إبراهيم فرغلي لا يشبه إلا ذاته، ومشروعه الإبداعي وأفكاره التي يؤمن بها ويكتبها ويعيشها. ويمكنك التأكد من خلال قراءة أفكاره في هذا الحوار.

ـ الراوي العليم لروايتك الأخيرة “معبد أنامل الحرير” وتدور على لسان رواية، وهي فكرة غريبة نوعاً، لماذا اخترت هذه الزاوية لرؤية العالم في هذا النص؟ وألم تتعبك قليلاً في محاولتها تتبع العالم حولها؟

** صحيح، قصدت، وأتمنى حقا، أن تكون الفكرة غريبة، لأنني بداية أميل للتجريب وللبحث عن سبل او وسائل سرد مختلفة، وأنتظر طويلا أن ألهم فكرة مختلفة للسرد. وبعد “أبناء الجبلاوي” وما تضمنته  من رواة متعددين ممن تجسدوا عبر “قرين” عدد من شخصيات نص كاتب الكاشف، وإضافة لحيلة طيف الميت في ابتسامات القديسين والسرد المتوازي بين عالم واقعي وآخر خيالي في كهف الفراشات، كنت أحاول البحث عن وسيلة أو حيلة سردية جديدة، وهي بالتأكيد متعبة نسبيا، لكنها كانت تجربة ممتعة، وهي في تقديري ورغم أنها تبدو عليمة فإنها في النهاية أيضا كانت ذات معرفة نسبية، لا تعلم كل شيء لأنها كانت تمتلك أسئلة لا تجد لها إجابة عن مؤلفها المفقود، وعن هويتها كجنس أدبي أيضا.

ـ لكننا لسنا أمام رواية عادية، بل يمكن القول إنك “أنسنت” الرواية، إذا يلاحظ القارئ أنها تشعر وتفكر، ولديها مشاعر إنسانية، وتفهمها أيضاً؟

** أعتقد أن هوية الرواية كنص معرفي متخلق من أفكار بشرية دفعني لأنسنتها بالفعل، لأنها مخلوقة من فكرة بشرية، وهي مرتبطة بأفكار مختلقها بشكل أو آخر، ومحيطها كله بشري. من جهة أخرى، ومن خلال خبرتي، فحين يبدأ الكاتب نصا ويقرر مساره، فإن ما قرره مبكرا يتغير ويتعدل، وأحيانا يجد نفسه مدفوعا ربما لمسارات لم تخطر على باله، ويداهمني أحيانا الشعور بأن من يتولى دفة قيادة مسار النص، في كثير من الأحيان، هو النص نفسه. وهذه هي الفكرة التي تأسست عليها محاولة إسباغ السمات الإنسانية في الوعي والإدراك على النص الذي يتولى السرد في معبد أنامل الحرير.

ـ لدي سؤال حول غرامك بالكتابة عن عالم الكتب، ففي أبناء الجبلاوي كان هذا العالم أيضاً حاضراً، وفي هذه الرواية حيث يحضر هذا العالم في كل التفاصيل ونرى المخطوطات في كل مكان، ولو تجاوزنا قليلاً لقلنا أن مدونتك التي أطلقتها مؤخراً حملت اسم “مخطوط”.

** صحيح، الفكرة الرئيسة في أبناء الجبلاوي تتحرك من منطلق الخوف من اندثار المعرفة، وهي الهم الرئيس أو جوهر مضمون “معبد أنامل الحرير” مع اختلاف الشكل ووسائل السرد والتفاصيل في العملين. لكن اليقين الذي تتحرك منه أبناء الجبلاوي هو مقاومة الفاشية الدينية وقتلة المعرفة والأمية عموما، وهو نفس هاجس معبد أنامل الحرير. وفي نصوص تتناول المعرفة كوسيلة رئيسة للحرية تفرض الكتابة والمخطوطات والنصوص المختلفة والحوارات بين الكتب والأفكار والنصوص نفسها. وتحضر المكتبة أيضا كمستودع للمعرفة، وكمخزن للفكر وكطاقة دفع للوعي البشري وانتشار الفكر والعلم.

ـ لكن هذا التشابه بين “معبد أنامل الحرير” و”أبناء الجبلاوي”، ليس في هذا فقط، لكن في البناء المتشابك للنص، والذي يبدو شبيهاً بالمتاهة، والتي تحضر في الرواية الأخيرة مثلاً متاهة المكتبة وفي البيت الألماني وفي معبد الكرنك، هل يمكن اعتبار أن بناء الروايتين متشابه في رأيك، أو إكمال للفكرة؟

** هناك اشتباكات في مفهوم البناء، وليس في البناء نفسه. أبناء الجبلاوي بنيت كمتاهة، من دون أدنى ذكر للمتاهة. بناء متشظي يحاول أن يمسك بعوالم تبدو متباينة مثل اختفاء كتب نجيب محفوظ وعلاقة الابن اللقيط كبرياء بجده رفيق الذي لا يعرف أنه جده، ثم علاقة كبرياء بنجوى عشيقته وزوجته التي تعاني من متاعب عصبية ونفسية وتناقضات بسبب ضغوط الصراع بين التحرر والتقاليد، وصراع الأنثى في مجتمع ذكوري عموما، وهذا كله يشتبك مع أن ما ذكر كله يبدو في الاخير كمحتوى في نص كتبه مؤلف عصابي يعاني من رهاب ومخاوف تسيطر على ذهنه. وهذه التفاصيل تبدو في تباعدها وهي تشكل متاهة حقيقية. في النهاية لدينا مسار نص واحد تتتابع في روايته شخصيات وأطياف لمن يطلق على كل منهم قرين الشخص أو طيفه الروحي أو شيطانه لو شئت، ولدينا نص آخر يبدو كغطاء أوسع لأنه يفترض أن النص السابق هو جزء من محتوى ما كتبه المؤلف غريب الأطوار.

في معبد أنامل الحرير هناك متاهات في كل مستوى من مستويات النص الثلاثة، أي في متن الرواية التي تتولى سرد ما يحدث لها على سطح البحر، وفي مستوى متنها الذي يتضمن تفاصيل حياة مجموعة من النساخين الهاربين من الرقيب والفاشية الدينية، ثم هناك متاهات حياة المؤلف نفسه رشيد الجوهري الذي تتولى الرواية الحكي عن سيرته عبر تداعيات ذاكرتها.

في المضمون طبعا معبد أنامل الحرير تأتي استكمالا لمضمون أبناء الجبلاوي بوصفها محاولة لتأكيد أن المعرفة هي التي تحقق الحرية، وأن الفاشيات بألوانها ستكون صنو مجتمعات تتجاهل تراثها الثقافي والمعرفي وتشيع فيها الأمية.

ـ  بمناسبة الحديث عن المتاهة، نحن أمام ثلاث روايات في رواية واحدة: رواية “الرواية”، رواية مدينة النساخين رواية السفينة، فضلاً عن عشرات العوالم المتداخلة من ألمانيا إلى إندونيسيا إلى القراصنة إلى إثيوبيا، كيف كتابة هذا العالم المتداخل، مع أن كل نص منها يصلح كنص منفصل؟

** بالفعل أحب هذا النوع من التركيب ومحاولة السيطرة على عوالم مختلفة في نص واحد. لكن مقصدي من ذلك أننا اليوم نعيش في عالم كوكبي، عولمي كما يقال، وما يحدث في بورصة أمريكية يؤثر على بورصات العالم، وكل تغيير اجتماعي في زاوية من زوايا العالم نرى انعكاساتها في أطراف بعيدة عنها. ولهذا أحببت أن أتبنى ثلاثة عوالم بعيدة بينما تبدو المتاهة أو المتاهات التي يعيشها أبطال كل من هذه العوالم الثلاثة هي المشترك بينها في عالم تسعى الرأسمالية حثيثا لتدميره بوعي أو بدون وعي، وبحيث أصبحت بالفعل تحتاج لمواجهة قيم مختلفة لترشيدها قبل أن تنتهي من تدمير العالم تماما. ولهذا أفسحت المجال لصراع إضافي لدى الكاتب رشيد الجوهري خلال وجوده في ألمانيا من خلال تصارع ذاته بين ما يعتقد فيه عن الغرب والحرية ثم انقلابه على هذه الأفكار حين يرى ما يتعرض له المهاجرون من عنصرية، بالإضافة إلى معاناة الأفراد، أي المواطنين الألمان أنفسهم، في مجتمعات مادية تضع الجميع في ترس يدور بقوة وتمضي للأمام بشراسة، ومن يحاول الخروج عن المسار تهرسه التروس بلا رحمة.

ـ بهذه المناسبة طرحت في الرواية، على لسان “الرواية الراوية” فكرة القصة المسلية، وكأنك تريد مناقشة هذا الأمر، ففي حين يمكن اعتبار هذه الرواية مسلية خصوصا أنها تدور بالكامل في عالم الخيال، إلا أنها شديدة التعقيد، أريدك أن توضح لي فكرتك عن معنى الرواية المسلية؟

** الرواية حين تشير إلى نفسها، في لحظة من لحظات الشك في ذاتها، وعبر أسئلة تحاول بها أن تحل إشكالات تتعلق بهويتها كنص سردي، كانت تشك في كونها رواية مسلية وتنظر إلى هذا المعيار باحتقار أو دونية. وتقديري أن الرواية الجيدة لا يمكن أن تكون مسلية لأن التسلية يمكن أن تحققها أكثر المنتجات الفنية خفة وضحالة. لكني أظن أن الرواية الجيدة وكل عمل فني جيد في الحقيقة ينبغي أن يحقق المتعة العقلية. هذه المتعة العقلية لا تحققها في تقديري منتجات فنية خفيفة أو سطحية أو تتغيا التسلية فقط، بل هي التي تجعل القارئ يستمتع بالنص لكن متعته هذه تقترن بملاحظته أن عقله يعمل باستمرار، وتقترن أيضا بمحاولات الكاتب في صنع الدهشة، ثم من خلال اشتراكه، أي القارئ،  كطرف في إنتاج النص، من خلال تأويلاته أو تفسيراته أو حتى عبر التفكير فيما يقترحه النص من أسئلة أو إجابات. وهذا ما يجعل من القراءة عملية ممتعة من خلال خبرتي الشخصية كقارئ أولا وهو ما أحاول انتهاجه في الكتابة.

ـ تذكر فكرة التسلية هنا، باتجاهك لكتابة روايات للفتيان، وهو ما يحيلك من جهة إلى كاتب محترف وهو ما يرفض بعض الكتاب اعتماده، وما يطرح من جهة أخرى فكرة هل يمكن أن تكون قصة “مدينة الظلام” مناسبة للفتيان؟ أقصد هنا ما هي الحدود في رأيك بين العالمين، عالم الفتيان وعالم الكبار، ولماذا اخترت الكتابة للفتيان؟

** الكتابة للفتيان حركتها ملاحظتي أنني حين ادخل مكتبة شراء رواية لابنتي الكبرى ليلى التي بلغت الثالثة عشرة الآن، في صحبتها، فإننا نجد عددا لا نهائيا من روايات الفتيان بالإنجليزية، وأقصد هنا الروايات الموجهة للسن بين 12 إلى 16 سنة، ألوان من الكتب والأفكار، ومنها سلاسل: بين ما يتخذ شكل يوميات أو حكايات خرافية أو حكايات واقعية أو رعب أو مغامرات بوليسية إلخ. بينما في القسم العربي لا نجد سوى مكتبة فقيرة جدا، جلها موجه للأطفال من سن ما قبل القراءة وحتى 8 أو 10 سنوات بحد أقصى وإن وجدت روايات فأغلبها مترجمة. وأدركت أن هذا العمر من 12 – 16 مظلوم تماما في الكتابة الموجهة له، وهذا ما حفزني لمحاولة الكتابة للفتيان في الحقيقة. وهي أيضا محاولة لتوسيع نفوذ فكرة المعرفة لاستقطاب أجيال أصغر عمرا إلى قراءة الروايات بالعربية. وتشجعت لاحقا للكتابة لسن أكبر قليلا وهو سن 14 إلى 16 سنة تقريبا في كتاب جديد مصور سيصدر في القاهرة بعنوان “عودة مصاصي الحبر” عن دار جديدة “دار شجرة”، وهي مغامرات أبطالها عدد من الشخصيات لكل منهم اهتمام معرفي: الفلسفة والعلم والكتابة الأدبية والاكتشاف، وهي محاولة لدمج العلوم والمعرفة بالمغامرة المثيرة في أجواء غريبة.

وبالرغم من اختلاف الكتابة للفتيان على اعتبار أنني بحثت عن لغة مباشرة بلا تعقيدات، لكنها ايضا اتسمت بالفصاحة والبلاغة، وحاولت فيها تأكيد فكرتي بأن يكون الكتاب مشوقا لقارئ في هذا العمر، لكن النص يقدم له مفاجآت مدهشة ومعلومات وقيم عقلانية تحثه على التفكير باستمرار.

– يبدو لي ولعك بعالم الفراعنة، سواء في قصتك للفتيان، أو في خلفيات معرفية في رواية “معبد أنامل الحرير”، وهو الولع الذي ربما لم نجده منذ روايات محفوظ، ونصوص متفرقة قليلة مثل أنا الملك جئت لبهاء طاهر، وأخرى فيما بعد لعدد من الروائيين، كنت أريد أن أسالك عن سر هذا الولع.

** أعتقد أن أسئلة الهوية الشائعة الآن في المجتمع المصري أغلبها أسئلة تتعمد إقصاء مكونات عديدة من التراث المصري الثقافي. ولدي يقين أن هذا التشتت في طرح سؤال الهوية اعتمادا على ما حاولت الوهابية، ولا تزال، أن تصدره لمجتمعنا بمباركة الرأسمالية العالمية حول هوية إسلامية لا تختلط بأي مكون آخر هي واحدة من أبرز ما تعرضت له مصر من محاولات اغتيال ثقافي وحضاري في العصر الحديث، تشبه في تقديري محاولات فرنسا استعمار الجزائر بالقضاء على ثقافتها الأصلية، والسلاح هنا هو الأفكار الرجعية والتدين الشكلي بدلا من السلاح المادي، وبهذه الدعوات أصبحت هناك قوى عديدة ممولة من الوهابية أو مرتبطة بها تشيع في مجتمعنا منذ فترة طويلة أكاذيب عدة حول تحريم الفنون والآداب وتمثيل التراث الفرعوني بأنه أصنام، وإسباغ الأكاذيب المشبوهة والمريضة على الكتاب والفنانين إلخ، مما يؤدي للمساعدة في محو المنبع الأصيل للحضارة المصرية وأحد أبرز روافدها العلمية والفنية. ومع الميوعة الثقافية والإعلامية والسياسية التي تعيشها مصر منذ عقود لم ينتبه أحد لضرورة الدفع ببعثات وفرق بحثية مصرية لمزيد من التخصص والبحث العلمي في هذا المجال تقوم بدراسة هذا المنجز والتراث الحضاري بأيدي ورثته بدلا من الاتكاء على ترجمات البعثات الغربية.

 في الأعمال التي ذكرت تأكيد على ضرورة الالتفات إلى مركز حضارتنا التي تنصهر فيها مكونات فرعونية قبطية إسلامية معا وتمنح لنا خصوصية ثقافتنا ولكنها لا يمكن ولا تقتصر على مكون واحد منها. ولذلك الح على الفكرة ولفت الانتباه للمكون الاساسي لثقافتنا ممثلا في منجز مصر القديمة الحضاري والفكري والثقافي، وهو ما ركزت عليه أيضا في روايتي للفتيان الأولى والثانية.

ـ ثمة سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ مع اقتراب الرواية من نهايتها، هل كنت تقصد المقارنة بين العالمين: الشرق والغرب من جهة، ومدينة الظلام ومدينة النساخين من جهة أخرى، خاصة أن هناك مقابلة لبعض التفاصيل ونلمح أحياناً خطين متوازيين بين قصة سديم وكيان ورشيد ويوديت مثلاً، وبين معبد أنامل الحرير ومعبد يورودور؟

** صحيح، هناك مقابلة مستمرة بين ثنائيات التخلف والتنوير، مجسدة في مدينة الظلام مقارنة بمدينة النساخين، في العلاقة بين سديم وكيان مقابل علاقة الكاتب رشيد الجوهري بيوديت الألمانية، لإلقاء الضوء عن علاقات الحب في البيئتين المتقابلتين، لكن هناك مقابلات أيضا تدين “المستنير العنصري”، تدين الغرب، من خلال نموذج الفتاة الإثيوبية ميهريت التي نرى من خلالها مشتركات إفريقية في القهر والفقر وقلة الاهتمام بالتعليم وتحويل المجتمعات الإفريقية لمجتمعات طاردة لأبنائها سواء كانوا مصريين أو إثيوبيين أو سواهما، الغرب في النص موضوع في ضوء النقد الإيجابي والسلبي معا. ومعبد يورودور بما يكون، بين ما يقترحه، الالتفات إلى ثقافات نامية قريبة منا أوجدت الحلول الروحية بعيدا عن السياسة. في إطار بحثها عن هويتها.

ـ تحضر المرأة بشكل كبير في الرواية، لكن ألا ترى أن الرؤية التي تطرحها عنها في مدينة الظلام شبيهة لرؤيتنا في عالمنا العربي والإسلامي بالضرورة لها مثل جملة “مجتمعنا المحافظ الفاضل الخلوق الذي يصون شرف المرأة ويقدرها كما لم تقدر المرأة أية حضارة أخرى”، فهذه الجملة نسمعها بالفعل يومياً على قنوات السلفيين؟

** طبعا الجملة على لسان سديم كانت سخرية نقدية واضحة ليس من جماعات الإسلام السياسي فقط، بل تجسد ايضا نقدا لاذعا لكل من يتبنى مقولات ذكورية شبيهة من قبل القوى التقليدية كافة، سواء في مجتمعات الريف أو الضواحي الشعبية في المدن أو لدى الطبقات الوسطى في المدينة . سديم تقدم نموذج للأنثى المتمردة على القيم البورجوازية الأخلاقية الكاذبة وشعارات الإسلام السياسي الضحلة معا.

ـ هناك انتقاد حاد لحضور الإسلام السياسي، وكأنك قصدت بهذا أن تقول إنه مسؤول عن التخلف في مدينة الظلام، مثل حديثك عن  بوكو حرام والإسلاميين المتشددين في ألمانيا.

** طبعا النص يفيض بنقد الإسلام السياسي كقوى خطيرة تبتغي السلطة وهي ترفع شعار طائفي، وهو ما يعني ان وصولها للسياسة لغم لا بد أن ينفجر؛ خصوصا في المجتمعات ذات الاختلافات العرقية والمذهبية. في الحقيقة الإسلام السياسي كله لغم طائفي يهدد العالم وليس المنطقة فقط، ومن أطلقوا المارد من القمقم أصبحوا الآن في مرماه على نحو أو آخر، حتى لو كان هذا المرمى هو معاقل التنوير والحرية الغربية، وهي اليوم تتعرض لاختبارات جدية لشعاراتها التي تأسست على وأد الفاشية الدينية في الكنيسة، بينما تحاول أن تبدي لونا من التسامح المزيف والكاذب والمتناقض إزاء الفاشية الإسلامية، والرواية تحاول أن تعكس تناقض مقولات الحرية الغربية في دعمها للإسلام السياسي ثم إحساسها بالورطة اليوم من خلال مناهضة جماعات شعبية لكل أسباب وصول الإسلام السياسي لها وبينها فتح باب الهجرة للأجانب من خارج المانيا.

ـ في بداية الرواية، ربما يشعر القارئ أثناء حديثك عن مدينة الظلام أنك تتحدث عن مصر في عهد الإخوان، خاصة عندما تتحدث عن إطفاء الأنوار في العاشرة مساء، وهو ما كان سيحدث مع قرار مرسي إغلاق المحلات في العاشرة مساء، أو عن موسيقى الميتال، هل كانت تلك المقاربة في ذهنك؟

** انتهيت من كتابة أبناء الجبلاوي قبل بدء ثورة يناير بعامين، وقد ظن بعض من قرأوها لاحقا أنها كتبت بعد الثورة بسبب العديد من التطابقات بين ما اقترحه النص وبين الأحداث، وأذكر أيضا أن أول موضوع صحفي نشر لي في “روزاليوسف” قبل نحو23 عاما تقريبا كان بعنوان “ماذا لو حكم المتطرفون مصر؟”، ولا أظن أن ما تكهن به التحقيق الصحفي آنذاك قد اختلف ولو بمقدار شعرة عما فعله الإخوان في مصر خلال عام من حكمهم: اقتحام الصحف وإرهاب السيدات، تهجير المسيحيين، شائعات هدم الأهرام، اقتحام المتاحف وتكسير المقتنيات الأثرية، وتكفير الكتاب، سحل المدنيين، ويمكنني القياس على ذلك لقرن قادم. هذه تركيبة عنصرية أحادية لا تعترف بالآخر وتتمسح بقشور الدين لإقناع المساكين بكيفية أن يصبحوا غوغاء باسم الدين.

ـ لماذا جعلت الجزء  بالعامية المصرية، واستدعيت رموزاً فرعونية، مع أنه كان يمكن للقارئ أن يتخيل أن هذا يدور في إيران أو السعودية مثلاً أو حتى في ظل حكم داعش، ألا ترى أن هذا قد يحبس النص في إطار معين؟

** لنقل أن هذا جانبا من ديمقراطيتي الفنية، إن صح هذا الفرض اساسا. أردت أن أضع ما لا أقتنع به، رغم أنه مثار جدل أتبنى عكسه. أي أنني بشكل عام ضد الكتابة بالعامية، وعملت باستمرار على إيجاد حلول فنية، في أعمالي كافة تقريبا، لتجنب الحوار بالعامية. لكني هنا قلت لنجرب الرداءة، والواقعية الفجة، والمناطقية، لكي يدرك القارئ كم هي فجة ولا فنية مهما بدت قادرة على التعبير عن الشخصيات التي تمثلها. وكم هي منطقة مريبة مثيرة لفكرة تفتيت الثقافة العربية وتشويه اللغة العربية. مع ذلك اعتقد أن العالم نفسه، حتى لو بدا هنا مصريا، يعبر عن منظومات شبيهة في كل مكان يمنح للرقيب سلطة اعتبارية في السعودية أو إيران أو باكستان أو غيرها من الدول التي وقعت أسيرة السلطات الطائفية الفاشية.

ـ  كما انتقدت مدينة الظلام وحكامها، وجهت ما يمكن اعتباره انتقاداً للمجتمع الذي بدا في بدايته طوباويا، أقصد مجتمع النساخين/ المثقفين إذا جاز التعبير، من ديكتاتورية، ونظرة فوقية للطبقات الدنيا، مثل نظرتهم لـ “إبرة مثلاً”؟ لماذا لم تحافظ عليها يوتوبياَ حتى النهاية؟

** معك حق، لكني ربما أردت التأكيد على أن اليوتوبيا تحتاج من أجل أن تتحقق إلى بعض البراجماتية، وإلى استبعاد كل ما قد يؤثر على مشروع النساخين. اليوتوبيا هنا ليست طوباوية أخلاقية مثالية بقدر ما أنها طوباوية علمية لو صح التعبير، أي تحاول امتلاك القدرة على تحويلها من تكوينها الخيالي المثالي إلى تكوين يمتلك الظروف الواقعية التي يمكن أن تحولها إلى حقيقة. النظرة الفوقية هنا نقد لانعدام الكفاءة ولمفاهيم سادت في مدينة الظلام مثل الفهلوة والوساطة إلخ، فيما تقترح مدينة النساخين قيم التخطيط والتعلم والقدرة على فهم قانون وجوهر النسخ.

ـ بالمناسبة، لماذا “النسخ” وليس “الكتابة”؟

** في لقاء جمع الراوي مع نقار الزجاج وأحد المشرفين على مشروع النسخ وهو ناصر، يدور بينهما حوار عن النسخ، والفرق بينه وبين القراءة، وحيث يتم تشبيه القراءة بكونها تماثل رؤية مدينة من الطائرة قبل الهبوط مباشرة، بينما النسخ يعني التجول على الأقدام في المدينة والتعرف عليها خطوة بخطوة. النسخ هنا نقد مباشر ليس للجهل والأمية الأبجدية فقط، بل ونقد للأمية الثقافية أيضا، للأنصاف، لنصف ثقافة ونصف حداثة ونصف تعليم لا تنتج ولا يمكن أن تنتج سوى مسوخ من هذا كله. النسخ مشروع لإحياء العلم المطمور تحت ركام الكسل العقلي والقرائي والجهل.

ـ وبهذه المناسبة أيضاً، لماذا استدعيت عدداً من الكتب الممنوعة، مثل آيات شيطانية، وحتى أن آخر جملة في الفصل الأول هي “وليمة لأعشاب البحر”، فضلاً عن نصوص إيروتيكية أخرى؟ ألم تخش أن يثقل هذا النص؟

** في نص يتحدث عن النسخ أعتقد أنه كانت هناك ضرورات لاقتباس مخطوطات ومدونات ما، وبعضها استخدم في قالب كوميدي مثل قراءات دون كيشوت، وبعضها استخدم في كشف مساحات الحرية في مدينة الأنفاق السرية التي تحتفي بالكتابة الحرة أيا كانت، من خلال النصوص الشبقية أو الإيروتيكية في قراءات مخصصة لهذه القراءات وسوى ذلك.

ـ الاستدعاء الأبرز كان من نصيب “أبناء الجبلاوي”، لماذا استدعيتها، هل ذلك لمجرد “اللعب الروائي” أم لربط الروايتين معاً؟  كما أود أن سألك عن رؤية “الرقيب” لروايتك التي بها مشاهد جنسية؟ هل حدث هذا بالفعل مع “أبناء الجبلاوي”؟

** أعتقد أن اللعب الروائي كان المقصد الأول، أي أن اللعب كان الخاطر الذي انبثق في ذهني في لحظة، لكنها أيضا كانت مقصودة لنقد الرقيب الذي منع النص في الكويت لأسباب غير معروفة، ولنقد الرقيب الذي منعه في مصر ايضا لفترة؛ حين عومل كنص مطبوع خارج مصر لمجرد كون الطبعة الأولى منه طبعت في منطقة حرة! المثال كان لتأكيد ازدواجيات الرقيب ولا موضوعيته وجهله. شخصيا لا أعرف هل كان الجنس أحد اسباب منع أبناء الجبلاوي أم لا فالرقيب عادة، يحب التستر والصمت، ولا يعلن حتى أسبابه للمنع. في تقديري لأنه يعلم أنه متهافت، وهو يجامل موظفين مماثلين له في السلطة الرقابية.  

ـ تحضر “المثلية” في الرواية بأكثر من صورة، سواء في مقطع شعري، أو في علاقة صديقين في ألمانيا، أو في “قاسم” بطل الرواية، لكن لا يحضر كما تعودنا في النصوص العربية باستهتار أو استهزاء أو امتعاض؟ وربما يكون السؤال الأبرز الذي سيواجهك هنا: لماذا جعلت بطل روايتك مثلياً؟

** هذا هو بالضبط السبب. فبينما يتشدق كتاب ونشطاء وليبراليون كثر بحقوق المثليين  نجد في خطابهم الذكوري احتقارا مضمرا لهذا الاختلاف الجنسي، وفي رواية مثل عمارة يعقوبيان نموذج آخر على رداءة وذكورية ليس المجتمع الذي يتعامل مع المثلي باحتقار، بل ذكورية ورجعية الكاتب الذي بدا منحازا ضد بطله من البداية للنهاية ويدينه بشكل ساطع. ومنذ فترة وأنا أفكر في موضوع المثلية من منطلقات ما سمعته من مثليين في أوربا، وقد اجريت بحثا واسعا عن الموضوع، وأحببت أن أشارك القارئ الكيفية الإنسانية التي يمكن أن نرى بها الآخر مهما اختلفنا معه.

ـ هناك حس ساخر في الرواية، مثل “الشخر” الذي قام به المعارضون لمواجهة “المتكتم”، أو حتى طريقة كلام “إبرة”، هل في هذا إشارة إلى المعارضة بالسخرية، كما حدث في مصر في عهد الإخوان، أم أنك كتبت هذا بمعزل عن الخلفية السياسية في مصر؟

** إلى حد ما، إشارة عارضة لفكرة المعارضة بالسخرية وتأملها، في عهد الإخوان وفي سواه ايضا.

ـ كتبت هذه الرواية في 6 سنوات، كما أشرت في ختامها، وهي فترة طويلة نسبية، وإن كنت أصدرت خلال هذه الفترة عدداً من المجموعات، أسألك عن آلية الكتابة فيها، هل كنت تكتب، ثم تتوقف، ثم تعود إلى الكتابة مرة أخرى؟

** بدأت فيها عقب انتهاء أبناء الجبلاوي مباشرة، لكني اكتشفت أنني لم أستطع التخلص من نبرة السرد التي انتهجتها في الجبلاوي فتوقفت حتى أجد الصوت الذي يناسب النص الجديد. وابتعدت تماما عنها من خلال عكوفي على التدرب على كتابة سيناريو مسلسل درامي، أنجزته خلال عام كامل مع نفسي كتجربة للتدرب على الكتابة للسينما التي أتمنى أن أكتب لها نصا على الأقل.

في الأثناء كانت رواية “المتكتم” كما كنت أسميها مؤقتا تعيش معي، وكلما راودتني فيها فكرة جديدة كنت أدونها. ثم داعبتني فكرة الكتابة للفتيان، وكانت بالنسبة لي فرصة اخرى لاستخدام لغة مختلفة وأسلوب سردي لم أعتد عليه، ثم عدت لنص معبد أنامل الحرير بعد أن توصلت لفكرة الرواية الراوية. ولعام كامل استمريت في كتابتها حتى ظهرت لي شخصية فتاة إثيوبية فجأة. حاولت الهروب منها، لكني لم افلح. فرضت نفسها على النص. ولما لم تكن لدي أي خبرات أو معرفة بإثيوبيا وثقافتها توقفت عن الكتابة وبدأت في البحث الميداني والتاريخي. ترددت على مقاهي الإثيوبيين، وحاولت أن التقط منهم بعض المعلومات، ثم تعرفت على صديق من جيبوتي عاش فترات طويلة في آديس آبابا؛ فأخبرني الكثير من التفاصيل عن الحياة بها، ثم ترددت معه على أحد المطاعم الإثيوبية وتعرفت على الطاهية العجوز في المطعم وكانت تنقل لي خبراتها عن بلادها، واستمر بحثي ولقاءاتي مع الناس نحو ستة أشهر، ثم وقعت على روايات وبعض كتب تاريخية وأخيرا تابعت برامج وثائقية عديدة.  في الأثناء كانت صديقة مهتمة بالكتابة للفتيان قد اقترحت علي مشروعا وأعجبتني فكرتها فجلست أكتب لستة شهور متواصلة في النص الذي وعدته بها، والذي تحدثت عنه سالفا هنا “عودة مصاصي الحبر”.

لكني كنت أشعر أن “معبد أنامل الحرير” هو نص يعيش بجواري، ينتظرني وأنتظره. ولذلك فحين شعرت أنني تشبعت واصبحت متمكنا من الشخصية التي اسميتها ميهريت عدت لاستكمال الرواية.

ـ  آخر سؤال فيما يخص الرواية، لماذا هذه النهايات المفتوحة، والحلقات غير المكتملة، ومصائر الأبطال غير المكتملة؟

مجموعتي القصصية الأولى “باتجاه المآقي” انتهت بقصة فراشات، والتي بدأت بها رواية كاملة هي كهف الفراشات، وابتسامات القديسين استكملت جزئها الثاني في جنية في قارورة والآن أعكف على الجزء الثالث “يا حنين” وسوف تصدر الثلاثية في كتاب. أنا أظن أن الحياة متاهة، لا توجد جملة نهائية، لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، والكتابة تشبه الحياة على نحو أو آخر، وكثيرا حتى ما أفكر العودة إلى كهف الفراشات مثلا وكتابة نسخة جديدة منها بخبرات مختلفة. وأسئلة الكتابة التي تقترب من أسئلة الحياة تصفعنا بين حين وآخر بما يستعصي على الإجابة، ثم يتوهج في بعض الأحيان، في ذهني، ضوء مباغت كإجابة ما على سؤال سبق أن أثرته في الكتابة فأعود إليه. وحين تغير الراوي العليم في تاريخ السرد إلى الرواية الذاتية، لم يعد من الممكن أن يكون الفرد ملما بأقدار ومصائر الآخرين، بالإضافة إلى أننا ليوم أحوج ما نكون لاختبار كل مقولة وكل خبرة وكل معلومة نقلت لنا عبر مصادر تاريخية بينما قد تكون كلها كذبات كبيرة نجح المؤرخون في نقلها لنا على ما أرادوا. الكتابة في تقديري محاولة للشك وإعادة تأمل مصائر البشر في ظلال النسبية والشك والتأمل بلا أي يقين. وهو ما يجعلني أتحرى دوما المصائر غير المكتملة والنهايات المفتوحة.

ـ تقع الرواية في حوالي 520 صفحة، وهو حجم كبير نسبياً بالمقارنة بالروايات التي تصدر الآن، لكنه ليس كبير بالنظر إلى أعمالك، التي تتميز بشيئين، الغزارة بما يذكر بكتاب الأجيال السابقة، وهو ما لا نجده لدى كل كتاب جيلك، والتركيز في مشروع واضح ومتتابع لمن يقرأه، كيف ترى أنت الأمر؟

**صحيح وانا نفسي فوجئت من مسألتين، الأولى أنني في لحظة ما وجدت نفسي مضطرا للانتهاء من الرواية التي كانت تشغل حياتي على مدى ستة أعوام، ثم تاليا فوجئت بحجم الرواية، الذي فاق كل ما كتبته مسبقا. لكني متصالح مع ذلك جدا. والحقيقة أنني أنزعج وأتحسس تماما من أي كلاشيه. أتحسس من اتفاق الجماعة حتى لو كانت تدعي الليبرالية أو الحداثة، على فكرة بشكل قطيعي، أنزعج جدا من أن تتماهى الجماعة، ايا كانت، حول أفكار محددة وتفترض أنها يجب أن تتفق حولها. وهذا ما كان يجعلني حتى في سلوكي اليومي مع أصدقائي اتبنى آراء مضادة على الفور من أجل التيقن من أسباب الإجماع على كاتب ما مثلا، أو شخصية، أو حتى توجه فكري أو حدث. وكنت لاحظت أن هناك إجماعا بين كتاب ما اصطلح على تسميته بجيل التسعينات على أن أحد معايير الحداثة أن يكون العمل الأدبي قصيرا. وهو ما جعلني على سبيل المثال أتعامل مع عمل ملحمي مثل ابتسامات القديسين بتكثيف. وأذكر ملاحظة لقارئة للترجمة الإنجليزية للرواية أنها كانت تتمنى لو طال النص كثيرا عن ذلك. وتساءلت لماذا لا يقف كتاب الحداثة في الغرب أمام حجم الرواية كمعيار. ولماذا يكتب أمبرتو إكو رواية من 500 صفحة أو أكثر ويجد قراءه وهو يكتب رواية تتكئ على تراث الرواية التقليدية في النهاية؟ وهكذا قررت أن أضرب عرض الحائط بمقولات متفق عليها في جيل التسعينات عن ارتباط الحداثة بحجم النص. وأن أنصت فقط لما يريده ويتطلبه كل من السرد وظروف العمل والنص، ووفقا للأفكار والمضامين التي أود معالجتها والوسائل الفنية التي أريد اختبارها.   

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم