حاوره: محمد أحمد محمد
عندما كتب الكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد روايته “لا أحد ينام بالإسكندرية” لم تكن الرواية الأولى عن الإسكندرية بالنسبة لي، فقد كتب قبلها “بيت الياسمين” والصياد واليمام”، “العشق والدم” وقصص قصيرة كثيرة، لكنها أولى ثلاثيته عن المدينة الكوزموبوليتانية وتحولاتها والتغيرات التي ضربتها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات من القرن العشرين، فبينما تناولت “لا أحد ينام في الإسكندرية” المدينة في فترة الحرب العالمية الأولى، تناولت “طيور العنبر” مصر الخمسينيات والستينيات، لتأتي الرواية الصادرة أخيرا عن دار الشروق “الإسكندرية في غيمة” التي تمثل انحدار المدينة ومحاولة الإمساك بآخر الخيوط المصرية والعالمية الإنسانية فيها.
تدور أحداث الرواية حول مجموعة من الطلاب بالجامعة منهم الشاعر والمسرحي والقاص والمناضل، نعيش معهم ونرصد بهم ما جرى للمدينة في فترة السبعينيات فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، والهجمة السلفية التي اجتاحت المدينة، فقضت على سينماتها وملاهيها وأفكارها الليبرالية، وكذا دور اليسار المصري في مناهضة سياسيات السادات الانفتاحية. وفي هذا الحوار مع الروائي إبراهيم عبد المجيد نتعرف على أجواء هذا العمل الروائي الكبير.
ـعلى الرغم من أن أبطال رواية “الإسكندرية في غيمة” مثقفين ومبدعين إلا أنك لم تدخلهم في الحركة الثقافية؟
ـالإسكندرية ـ وهذا ما جعلني أرحل عنها للقاهرة وقتئذ ـ كانت تعطي شعورا بالراحة والرضا، تقضي اليوم قاعد على البحر أو مع أصحابك، وبالليل تروح، حالة من الوداعة، ليس فيها نوع من الاحتكاك كالقاهرة، قليل جدا من كان يتركها للقاهرة، ومن يأتي للقاهرة سرعان ما يرجع، لا يحب الحياة فيها، السكندريون لا يحبون الخروج من البحر، المضطرون هم من يخرجون من البحر، شخصيا قدمت إلي القاهرة وكل أصحابي الأدباء المعروفون الآن كانوا يستغربون ذلك، “أنت مجنون.. رايح القاهرة تعمل إيه؟”، كنت أرد “أننا هنا مبسوطون جدا لكن ليس هناك أي احتكاك، أي مشاكل، نحن سعداء جدا، أنا عاوز مشاكل”، وعندما جئت للقاهرة كنت حريصا على ألا أخرج بالنهار، أشتغل بالليل في قصر ثقافة الريحاني وأسهر للصبح في الحسين، وأنام بالنهار حتى لا أرى القاهرة، لأنني لو رأيتها سأعود للإسكندرية.
ـالمثقف عيسى سلماوي طوال الرواية كان محاضرا هادئا لمجموعة الأبطال، ليس له موقف، لكن في مشهد النهاية عندما تسقط كريمان وتدخل المستشفى يتحول لشخص آخر صاحب موقف وقضية دون أن يكون هناك ما يبرر ذلك؟
ـهو ليس له ما يبرره بشكل واضح، ولكن ما يبرره أنه سيتراجع عنه لكن بعد انتهاء الرواية، هو كالعادة يقدم ومن ثم يتراجع، فهذه اللحظة كانت من لحظات التجلي الإنساني في شكله الإيجابي، لكن كالعادة هو سيختفي، متى؟ الرواية انتهت. هو وجد في المشكلة لحظة اكتشاف أن تلك الفتاة الغارقة في دمها في الشارع هي كريمان، حالة إنسانية صعبة أقدمت على الانتحار بعد أن ظنت أنها قتلت زوج أمها السلفي الذي يسعى لاغتصابها، ممكن أن تحدث طفرة لدى الإنسان، لكن الله أعلم إن كان سيستمر بها أم لا؟.
ـهل يمكن اعتبار كريمان هي مصر التي حاولت أن تقتل مغتصبها الذي يرتدي ثياب التدين؟
ـلم يكن في ذهني ذلك، كل ما في ذهني مسائل إنسانية، لكني قرأت تعليقات من بعض الشباب على تويتر اعتبروا فيها كريمان مصر، ليس لدي مشكلة أن يعتبرها القراء كذلك، لكني ليس لدي تفسير، أنا أقدم روح الزمان، لأنه لو عندي تفسير ستصبح روايتي رواية ذهنية، لا أعمل برنامجا للرواية.
ـلكن زوج الأم مدعي السلفية الذي أطلق ذقنه ونقب الزوجة ومارس ضغوطا على كريمان لكي تتحجب، فضلا عن محاولاته المستمرة التحرش بها واغتصابها؟
ـإذا أنت اعتبرتها مصر، فليس لدي مانع ضد أي تفسيرات، لكني شخصيا أقدم روح الزمن والتفسيرات متروكة للقراء.
ـوماذا عن هدم السينمات والملاهي؟
ـكورنيش الإسكندرية كان معظمه كازينوهات ملاهي ليلية، لم تكن كلها سيئة، كانت تستضيف فرقا أجنبية تقدم مختلف الفنون الاستعراضية، فضلا عن ذلك كانت أماكن للتنفيس، كل ذلك تحول إلى عمارات ومقاهي ترفع شعارات إسلامية، وذلك كان خطة وبرنامجا تم تنفيذه بسرعة شديدة جدا.
ـهل السبب وراء ذلك جماعات وحركات الإسلام السياسي وحدها؟
ـالسبب أن أكثر هذه السينمات كان أصحابها أجانب وتركوها للمصريين، وهؤلاء “اتلعب في دماغهم”، جزء جوهري من الأمر أن السينما حرام، لذا يتم شراءها وهدمها وتحويلها لعمارة أو مول.
ـهل يمكن اعتبار الرواية إدانة لعصر الرئيس السادات؟
ـطبعا، السادات فتح الباب للاتجاهات الرجعية في محاولة للقضاء على اليسار، والنتيجة كانت أنه أضاع البلد، لم تكن المشكلة أنه أخرج أصحابها من السجون، المشكلة أنه دفع لهم المال وتعاون معهم، أذكر جيدا أن الناس كانت تذهب في معسكرات في العامرية والضبعة لتلقي تدريبات على ضرب اليسار إلى جانب محاضرات يسمونها إسلامية تتحدث عن كفر اليسار والناصريين، وهذه المعسكرات كانت تقام بالتعاون بين رعاية الطلاب بالجامعة مع أمن الدولة، لتخرج الجنازير ومياه النار في إبر تقذف على الفتيات اللاتي كن يرتدين الجيب أو الميكروجيب، لقد عايشت كل ذلك في الجامعة بالاسكندرية وعايشه غيري في جامعات مصر المختلفة.
زملائي ذهبوا إلى تلك المعسكرات وتدربوا، وذكروا لي ذلك، ومن حدث معه في الرواية هو شخصية محمد شكر ـ وليس شخصية حسن ـ الذي ظهر فجأة واختفي بعد القبض عليه صدفة، وهذا الاسم حقيقي، وقد حدث معه ذلك، ذهب وعاد ليقول لنا أنه كان في معسكر للتدرب على ضربنا، لكن في الرواية تحدث أشياء أخرى.
ـما الجريرة التي ارتكبها اليسار حتى يصب عليه السادات جام غضبه ويطلق عليه التيارات الرجعية؟
ـكان معارضا له، كان معارضا للانفتاح الاقتصادي، للسياسة الرأسمالية وفتح الباب للنهبين واللصوص الذي حصلوا على القروض وفروا هاربين، وقتئذ كانت هناك يوميا أخبار عن هروب فلان أو فلان إلى هذه الدولة بملايين الجنيهات المنهوبة من المصريين، وبيع القطاع العام الذي زاد أيام مبارك، واتفاقية كامب ديفيد، كانت الديمقراطية مجرد كلام فقط على صفحات الجرائد فيما يتواصل القبض على المعارضين اليساريين.
ـتمتعت الشخصيات النسائية في الرواية سواء يارا وكريمان الطالبتين الجامعيتين أو نوال الراقصة والمغنية صاحبة الملهي أو روايح وغادة بنات الليل بقدر كبير من البساطة وليس فيهن شر حتى في ظل ما يعانين من قهر؟
ـبطبيعتي وفي أعمالي كلها المرأة عندي تجليات للجمال، إنه إحساسي بالمرأة أكان خطأ أو صوبا، ليس لدي امرأة شريرة، لا أقصد لذلك، هن تجليات للجمال، وأرى بشكل أو بآخر أن النساء مقهورات مهما بلغن من علم في هذه المجتمعات المتخلفة.
ـلماذا اخترت عيسى سلماوي اليساري القديم ممثلا للثقافة والليبرالية الكوزموبوليتانية؟
ـهو نموذج من النماذج التي انتمت للماركسية مصادفة عندما ألقي القبض عليه وسجن لخمس سنوات تعلم خلالها الماركسية ليخرج ماركسيا، لكن ظل داخليا ليس له علاقة ومترددا، وأيضا هو ليس رجل أعمال لأن الثورة أممت ممتلكات أسرته، والماركسية تعطيه نوعا من الرضا مما حدث من تأميم باعتبار أن ذلك نوعا من أنواع الدولة الاشتراكية، لذا ما تبقى له هو المدينة/ الإسكندرية.
بعد شوط من الرواية تلاحظ أن الإسكندرية الكوزموبوليتانية استيقظت داخله وانشغل بها، وهذا معناه أنه يرى الحلم اليساري صعب، “خلينا في اللي احنا فيه بس نحافظ على نفسنا”، يحدث ذلك منه دون أن يصرح به بشكل مباشر، وهو بالنهاية شخصية تراجيدية مجروحة وغير متسقة مع المجتمع، والفن غير معني بالشخصية السوية ولكن بالشخصية المجروحة.
ـالرواية بشكل أو بآخر وإن تحددت زمنيا ومكانيا ترمي لما هو قادم، لما نعيشه الآن؟
ـهذا أتركه للقارئ والناقد، كنت مشغولا أثناء الكتابة بالنماذج الإنسانية، روح الفترة الزمنية، ما جرى وطرأ من تغيرات.
ـلكن شخصيات وأحداث الرواية وما يجري من تغيير في المدينة كله إلى تلك الهجمة الشرسة التي لا تزال قائمة ونعيشها الآن؟
ـطبعا هذا موضوع الرواية التحول الروحي والمادي للمدينة ذاتها في زمن السبعينيات، تحول مادي بفعل قوة هذه الهجمة الروحية الجديدة التي تضيع روح المدينة الإنسانية العالمية.
ـيتخلل الرواية تنبؤات لما هو قادم؟
ـطبعا، لأن الشخصيات غير متوافقة مع ما يحدث، يعني أشعار نادر كلها ـ وبالمناسبة نشرته قبل ثورة يناير ضمن فصل نشر بالأهرام ـ تحمل ذلك التنبؤ، لكن لم يكن ذلك في دماغي، لأن ما أستهدفه المعنى العام، أن التاريخ دورات وأن هذه الدورة عابرة ومؤقتة، وقد أكدت لي الثورة ذلك.
ـهل ما حدث في السبيعينيات بالفعل كان نذيرا إلى أن مصر خرجت ولم تعد؟
ـهذا كان حديثنا في اليسار في السبعينيات، ولذلك كانت هناك مقاومة للسادات، أنه “واخد مصر للعصور الوسطى”، وكان هناك مقاومة أيضا لمبارك لكن لم تكن بقوة مقاومة السادات، لأن اليسار كان تعب وأجياله كبرت.
ـكيف كانت الأجواء الثقافية بالإسكندرية في السبعينيات؟
ـعادية جدا، مركزة في قصور الثقافة فقط لا غير، قصر ثقافة الحرية، قصر ثقافة الشاطبي، قصر ثقافة الأنفوشي، وجمعية أو اثنتين أهليتين غير معروفتين، لم يكن هناك لا جرائد ولا مجلات، لكن المبدعين والأدباء يتابعون.
ـانتفاضة 1977 التي سجلتها في الرواية هل كانت في الإسكندرية بقوة القاهرة؟
ـطبعا، بل إن الإسكندرية خرجت قبل القاهرة، وانطلقت أول ما انطلقت الساعة الثامنة صباحا من الترسانة البحرية التي كنت أعمل بها ولكن كنت يومئذ بالقاهرة، والذي قاد المظاهرات منها كان أحد تلاميذي وقد سجلت الشخصيات بأسمائها في رواية “بيت الياسمين”.
ـلكنك لم تمهد لانطلاق الانتفاضة؟
ـلأنها حدثت فجأة، كان النضال من خلال الأحزاب السرية والكتابة في جريدة “الأهالي” التي كانت تقود المعارضة، لكن الانتفاضة حدثت بسرعة فقرارات السادات برفع الأسعار صدرت يوم 17 ونامت الناس ليلتها تغلي، ليصبحوا في اليوم التالي منطلقين في الشوارع بدون ترتيب أو مقدمات، حتى بعض الأحزاب اليسارية فوجئ بخروج الناس بالتحقوا بهم.كانت انتفاضة شعب، مرة واحدة من الإسكندرية إلى أسوان، وكانت الإسكندرية أبكر في النزول.
ـالسؤال الذي صار تقليديا اليوم في ظل ما تشهده مصر “مصر رايحة على فين”؟
ـأرى أننا داخلون على دم كثير جدا، هناك غباء من النظام أو بمعنى أدق “عمى”.
ـوالثقافة؟
ـالثقافة في حالة سكون، ولم تبدأ المعركة فيها حتى الآن، لكنها قادمة.