***
في وقت ما يناير
لا أعرف إن كنتَ يوما
سوف تكون لي
ليلة لقائنا الآن ذكرى
لقاؤنا نفسه
والحوار الذي سرى بيننا
في سلاسة وانطلاق
كأنه الدم
والخيوط الخفية التي
تربط عالمين
لم تخنك الجرأة
فلمستني
لكن خانتني أنا
خفت ربما أن أخسر شيئا
لم أكن أصلا أملكه
القرب منك
رائحتك التي
ملأتني
كأنها بئر مهجور
نفذْتَ إليَّ
ولجتَ إلى ذعري ـ
شعرتُ أنني مرغوبة
من رجل
يعرف كيف يستخدم يديه.
***
لا أعتقد أن أحدا يتوقع من سلحفاة أن تدعوه إلى بيتها؟ بيت السلحفاة للسلحفاة وحدها، ولعلها لهذا السبب تعيش كل هذه القرون. ولا أحد أيضا يدخل بيت العنكبوت إلا فريسة. بيت العنكبوت للعنكبوت. بل إن بيت العنكبوتِ العنكبوتُ نفسه. وكذلك هذه القصيدة. لا أقول إنها مغلقة دون القارئ، فهي أبعد ما تكون عن ذلك، لكنها لا تبدو معنيَّة به، لا تبدو، حتى مع هذه السهولة، مكتوبة له، أو بلغته، مهما تكن هذه اللغة. ثمة شفرة خاصة، أو حتى شخصية، ولا أعتقد أن من المهم حلها.
***
فمثلا: أي ينايرُ؟ يناير الشتاء أم يناير الصيف؟ يناير أيٍّ من نصفي الكرة الأرضية؟ يناير المطير البارد، أم المطير الدافئ الاستوائي؟ أم الحار الجاف ربما، ولعل ثمة يناير مثل هذا؟ بالنسبة لي على الأقل، هذا مهم. بالنسبة لي أنا المغرم بقصيدة “الحب في غرفة دافئة في الشتاء”. لجيمس رايت لأن عنوانها هو “الحب في غرفة دافئة في الشتاء” قبل أي شيء آخر. لذلك يعنيني يناير هذا. ولكن القصيدة غير معنية بما يعنيني.
لكن: أين كان شكسبير بالضبط يوم كتب يقارن حبيبته بيوم صيفي؟ هل كان في الصيف أم في الشتاء؟ هل قارن وجه حبيبته بصيف يراه؟ أم بصيف يفتقده؟ أم بآخر يتذكره؟
بصفة طبيعية، أميل إلى أنه يناير القارئ. وبما أنني القارئ هنا فهو ينايري أنا. ولكن حتى في حالتي أنا، أيُّ يناير؟ يناير العاصمة أم يناير الريف؟ يناير الوطن أم يناير الغربة؟ يناير السابعة عشرة أم يناير السابعة والثلاثين؟
لماذا تخل هذه القصيدة من قطرات مطر تنقر شباكا، أو هبات ريح تزعزع الشباك نفسه؟ لماذا ليس في القصيدة ما يعين القارئ على الإحساس بتلك الليلة من ذلك اليناير؟ الإجابة بسيطة بساطة رسالة تكتبها امرأة، وتثبتها على باب الثلاجة بمغنطيس صغير، لتقرأها هي نفسها في الصباح قبل أن تنزل إلى العمل. نعم. هذه القصيدة ليست موجهة إلى قارئ فتحرص أن تحتوي على توجيهات وتعليمات مرورية من أي نوع. هذه القصيدة مكتوبة على هامش كتاب لن يعار، ولن يخرج من المكتبة الشخصية، هذه القصيدة ملف في مجلد في كمبيوتر شخصي لا يتزحزح من حقيبة صاحبته، هذه القصيدة صفحة في أجندة شخصية لا تبتعد عن أعلى الكمدينو إلا إلى درج الكمدينو. أما القارئ، وإن لم يرد، وبمجرد أن تقع عيناه على هذه السطور، فهو في حالة تلصص.
بطريقة ما يجد القارئ نفسه يقرأ هذه الصفحة التي كتبتها امرأة ما لنفسها. صحيح أن ثمة مخاطَبا، حبيبا ربما، أو ربما يكون عابرا مجرد عابر، لكنه من ناحية لا يتكلم، ومن ناحية أخرى لا يبدو حاضرا إلا كذكرى من ذلك اليناير البعيد. هل قيل في القصيدة إنه بعيد أصلا؟
ومثلما تخلو القصيدة من أي شيء عن يناير، تخلو من علامات الترقيم تقريبا. وإذا بسطور مثل (القرب منك/رائحتك التي ملأتني/كأنها بئر مهجور) تبدو مشاعا داخل القصيدة، صالحة تمام الصلاحية لأن يجعلها قارئٌ الشيءَ الذي خشيت الذات خسرانه وهي لا تمتلكه، وصالحة تمام الصلاحية أيضا أن تكون مجرد شذرات حرة تراكم تأثيراتها على القارئ، ملاحظات مدونة على عجل، أفكارا مقتنصة بالقلم الرصاص قبل أن يطويها النسيان.
لولا أن ثمة في آخر القصيدة نقطة النهاية. وكم هي مؤلمة. هل تقول مثلا إن الأمر كله انتهى على هذا، على براعة اليدين؟ هل تقول إن ذلك هو غاية نصيبهما من المتعة: الذي تجاسر ولمس، والتي جبنت فلم تلمس؟ لا أعرف أي قارئ هذا الذي يمكن أن يتجاهل ما يوحي به النفاذ والولوج، وإن وُضعا في غير سياقهما. أي قارئ هذا الذي يتجاهل هذه الحمولة الحسية في سطور القصيدة الأخيرة؟ لعله، ببساطة، قارئ يخشى أن يخسر شيئا، هو لا يملكه أصلا.