أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب؟

kareem abd elsalam 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كريم عبد السلام

ديوان البالادات ” أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب”، للشاعر كريم عبد السلام انحياز واضح لشكل الحكاية الشعرية أو الملحمة القصيرة، بما يمثله ذلك من تحدٍ جمالىّ، وسنجد أنفسنا تلقائياً أمام السؤال: ما مدى رحابة الأرض التى يمكن أن تصل إليها القصيدة دون أن تفقد ماهيتها أوتندغم فى فنون إبداعية أخرى؟ كما يبحث الديوان عن مفهوم أرحب لفكرة الإيقاع الشعرى، يوظف الإيقاع الخليلى وإيقاع السينما وإيقاع الصورة الكلية وإيقاع التوازن التشكيلى وإيقاع الموسيقى البوليفونية وصولا إلى إيقاع النشاز نفسه.. تاليا مختارات من الديوان..

kareem abd alsalam 3

مختارات من “بالادات”

“كتابُ الحروف.. ما رآه الفارابى قبل كريستوفر نولان.. وما عاد به عرابى من المنفى”

رأى الفارابى، بعد أن نفدَ زيتُ السراجِ، الكونَ كلَّه بين “أين” و”متى”، وكتبَ فى الظلامِ على الرقِّ الذى بين يديه: “المكانُ عَرَضٌ.. والزمان جَوْهَرٌ”، فأمر سعيد باشا بإلحاق أبناء المشايخ والأعيان بالجيش، للمساواة بين الشركس والمصريين، لكنّ صوتَ توفيق سُمع عاليًا فى مواجهة “عرابى”: “ورثتُ هذه البلادَ.. وما أنتم إلا عبيدُ إحساناتنا”، فيما كريستوفر نولان يخيط الزمنَ، فى ظلامٍ آخر، ليجعل أوبنهايمر بطلًا وعاشقًا سيئَ الحظ، ويضع هيروشيما وناجازاكى على رأس ترومان وحده، رغم أن أوبنهايمر من كان يعرفُ نهايةَ العالم..

ماذا يُمسك الأرضَ عن السقوط؟

النوستالجيا التى نمضغها مع القهوة السوداء، الليلُ الذى يهبط يوميًا على المرارة فى حلوقنا لأنّ العالم غادرٌ غادرٌ، أوهامُنا عن أنفسنا نبتلعها مع البنادول لمواجهة الصداع النصفى، الشروقُ الذى يأتى فى موعده فتنهض الأسواق ويتعالى صياحُ البائعين، ويواصل الغرقى تجوالهم بمحاذاة الضفاف، فيما تذوى المدنُ وتبتلع سكانَها تدريجيًا

رأى الفارابى أن الوجودَ لابد أن يلتئم بين دفَّتى كتابٍ، ليتوقفَ محوُ المكان وانقسامُ الزمان إلى وحداتٍ أصغرَ فأصغرَ، تجعل الأطفالَ يولدون شيوخًا، ولا دليلَ على أننا أحياءٌ، حتى إن السير أوكلاند كولفن، يدير المفاوضات رائحًا إلى الخديوى فى قصر عابدين وغاديًا إلى عرابى ومن ورائه “آلاى القاهرة”، إلى أن رضخ الخديوى وأقال عثمان رفقى، وظن الطيبون أن النصرَ غالبٌ على الزمن ما دام الهواء يحمل “لا نُورث ولا نُستعبد بعد اليوم”، وتجاهلوا اغتيالَ جمال حمدان مرتين.

النسيانُ يجعل الجبالَ تغوص فى الأرض السابعة، وجليدَ القطبين يغرق الشواطئ، والمحتلَّين يُبيدون أصحابَ الأرض، والأساطيلَ تدكُّ الإسكندرية بمدافعها، والإنجليزَ يدخلون على عربات مصفحة من كفر الدوار إلى التل الكبير، وديليسبس يخدع الثوار ويسمح بمرور الأسطول الإنجليزى، ليصدرَ الحكمُ بإعدام عرابى ورفاقه وينتشر مصطلحُ “الهوجة”، فيما كريستوفر نولان يصنع تمثالًا لأوبنهايمر وهو يتسلم الجائزة من جونسون بعد عشر سنوات من الجنون..

ما الذى يمنع العالمَ من الفَنَاء؟

أهى الصحراءُ التى تبتلع خيالَنا عن المستقبل؟ أهو الحزنُ الرخيص الذى نُغرق فيه أيامَنا وكلماتِنا؟ أهى الأكياس البلاستيكية السوداء التى خبأنا فيها تصوراتنا عن الجنة والنار وما بينهما من حياة افتراضية؟ أهو الحَجرُ الذى نتشاجر تحته، فى تلك الحديقة الموحلة فى المدينة المهجورة فى البلد المتدحرج باتجاه المجاعة؟ أم أننا قد فَنِينا فعلًا والخبر سوف يُنشر فى طبعاتٍ تالية..

حتى ينشئَ الفارابى “كتابَ الحروف”، كان عليه أن يعودَ للزمان الأول، عندما كان الماضى والمستقبل حصانين مجنَّحين لا يفترقان ويمكنهما الطيرانُ لمسافات طويلة دون تعبٍ، الماضى أسودُ فاحمٌ والمستقبل أبيضُ فضىٌّ، ويَظْهران لجميع الكائنات فى الوقت نفسه

آنذاك، لم يكن الإنجليزُ قد شنقوا الناس فى دنشواى، ولم ينفجر تشرنوبيل، والمغول لم يحرقوا مكتبة بغداد ويافا وملجأ العامرية، ولم تغرق أتلانتس أو تظهر أستراليا، والأخوان لوميير لم يخترعا السينما، ولم يكن سؤال هاملت شكسبير قد شاع بين المثقفين

ولم يكن الناسُ يعرفون “متى” أو “كان”، الفاكهة تتدلى من الأشجار والنساءُ يمررن أصابعهن فى مياه الأنهار ويغنين أغانىَ ساحرة، والرجالُ بعيدون عن الاكتئاب، والموتُ مقيدٌ بالسلاسل فى كهفهِ البعيد.

كانت اللغة وحروفُها متجسدةً فى طيورٍ فريدةٍ، بقىَ منها الطواويسُ، لأن الإنسان لا يدرك الجسرَ بين الكلمات والموجودات ولا يُحيط بالمعانى الثوانى، ولايصنّف معاجم للملذات والبكاء، أما الأصواتُ فكانت نغماتٍ متفاوتةَ الطبقات عند الشروق وأمام البحر وعند الغزل والمضاجعة..

وظلت اللغة تتحرك فى طيورها، وكلما استطاع الإنسانُ اكتشافَ كلمةٍ، تجمعتِ الحروفُ وتناسقت كما يستعرض الطاووس ذيله، إلى أن يزولَ تأثيرُ أصواتها فتختفى الريشاتُ الملونة فى بدن الطاووس من جديد، ويعود عرابى من منفاه الطويل ومعه شجرة المانجو التى عرفتها البلاد لأول مرة، ويحصد كريستوفر نولان تسعَمِئة مليون دولار..

أدرك الفارابى أن مهمته حفظ ُالوجود فى “كتاب الحروف”، وإحاطةُ العالم بكثير من المقولات وأسئلة الماهيات، لأن ما حدث فى الطوفان الكبير كان حدًا فاصلًا بين وجودين..

ومن الأفضل للناس أن يعيشوا قطعانًا تعرف الخوف وترهب الموت، أو يقضوا أعمارهم وهم يجربون أصواتهم آلاف المرات، حتى يعثروا على كلمة واحدة من الكلمات القاهرة..

التى تحمل الوجود.

********

********

الأَبَدْ.. ما قاله أبو الهول لنجوم الظهيرة.. عندما كانت الأرضُ والسماءُ واحداً

سعادتى وتعاستى ومصيرى

فى تمثالِ “أبو الهول” من حجر اليَشْبِ الأخضر،

رابضٌ على مكتبى.

أنقذَنى ذات مرةٍ من لصٍّ يحمل سكينَ جَزّار

ما إن رآه اللصُّ حتى وضع يدَه عليه: سأكتفى بهذا، ومضى

وفى الصباح رأيت التمثالَ فى موضعه على المكتب

وفى ذلك اليوم متعددِ المصائب،

عندما أصرّتْ حبيبتى على زيارتى فى المنزل

وبينما نراجع “الكاما سوترا”، دسّتْ زوجتى مفتاحَها فى الباب، وخطواتُها تتجه نحونا

حبيبتى كأنها اختفتْ، ورأتنى زوجتى جالسًا ورأسى يستند إلى كفّى، والدخان يملأ الحجرة فاكتفتْ بصفقِ الباب، وظهرتْ حبيبتى من تمثال أبى الهول، خضراءَ باتجاه النافذة

……

إذا تَصادفَ ونظرتَ لتمثال “أبو الهول”،

سترى فى الظلال على جدرانِ الغرفةِ المجلَّدةِ بالكتب،

كيف كانت الأرضُ والسماءُ واحدًا،

والليلُ والنهارُ كتلةً كبيرةً ملتصقةً،

ولم يكن بإمكان أحدٍ أن يُمسك بالزمن

سترى “أبو الهول” الذى يحب التجوال بين السماوات ويرتاح على مختلف الكواكب،

معتكرَ المزاج، يشعر بصداعٍ نصفىٍّ

كلما استيقظ من النوم، يجد كوكبًا جديدًا يدور فى مدارٍ

وكوكبًا يلفظ أنفاسًا من الدخان والشُهب،

قبل أن يضيع فى البوابة السوداء

سترى “أبو الهول” وهو يشرب قهوته السماوية

ويفكر فى طريقة لفصل السماء عن الأرض..

“لامفر من تمزيق الزمن إلى جناحين ورتق المهترئ منهما”

سترى كيف ظلَّ ساهرًا عدة سنوات لاختيار التوقيت المناسب واختراع الليلِ والنهار وترتيب الفصول..

الصيفُ أولا بحرارته وهرموناته الحادة

والخريفُ سيدُ الأتربة والممرُ إلى الشتاء بأعاصيرهِ وأمطارهِ وكوابيسه

والربيعُ بالزهور وحبوب اللقاح والحبّ على سلالم البيوت العتيقة بوسط المدينة

سترى بعينيك السماءَ لينةً للغاية ومحمَّلةً بالسحبِ والمياه

والأرضَ صلبةً ومشتعلةً بالنار وتنوءُ بالجبال

وترى “أبو الهول” سهرانَ، يزيح مجموعة من النجوم ناحية اليمين وناحية اليسار حتى صنع لنفسه طريقًا

كم كان الأمرُ شاقًا..

وكلما أزاح مجموعة من النجوم تعود إلى مدارها وتحرق كفّيه

طرقُ السماء مليئة بالحجارة والشظايا المتناثرةِ وكراتِ اللهب والشموسِ الصغيرة

من أجل ذلك، يريد أبو الهول أن يصنع لنفسه قفازًا من الفولاذ الممزوج بالجليد

ولم يكن المزيجُ متوفرًا إلا عند نجمة الثريا التى كان ضوؤها خابيًا

وعندما طلب أبو الهول منها الفولاذَ الممزوجَ بالجليد، تمنّعت الثريا واشترطتْ عليه أن يتزوجها أولًا، وأن يكون مهرُها ألا تضاهيها نجمة أخرى فى اللمعان أو الظهور

ولمعرفته بطبيعة الثريا المتقلّبة، وافق أبو الهول على الزواج منها، ومنَحَها مهرها الذى طلبتْ، حتى إذا صنعت له القفازَ السماوىَّ، انشغل عنها بتعبيد طريقه المنشود

“لا، لن أحتمل مزيدًا من التجاهل

لن أحتمل الإهمال والهجران”

وطلبت الثريا الطلاقَ، فطلقها أبو الهول وأبقى عليها نورَها وبهاءها

………

سترى كيف حرَثَ أبو الهول الأرض السماوية طوال سنوات بقفازه الفولاذى ذى المخالب، حتى صنع فتقًا يمكن أن ينفذ منه بين السماء والأرض، دون أن تتناثر النجوم، أو أن تسقط الأرض نحو البوابة السوداء للعدم

وظل أبو الهول سنوات يعدو على الأرض طولًا وعرضًا

وسنوات أخرى يثب عاليًا وينطح السماء برأسه القاسى

حتى لاح أخيرًا الفتقُ بين السماء والأرض وسرعان ما ملأته السحب

سترى أيضا كيف كانت السماءُ اللينةُ خفيفةً، وفرحت بخفتها حتى اكتشفتْ الطيرانَ،

بينما اعتقدت الأرضُ أنها تخلصت من غطاء لا لزوم له، و سقطتْ مثل حجر وسط الكواكب، وطفقتْ تبحث عن مدار

الأرضُ السكرانةُ

تارةً، تقترب من الشمس

فتحترق الغاباتُ والحيوانات وأعشاشُ اليمام وتتصاعد حممُ البراكين، ويستمر نهارٌ واحد شهورًا عديدة

وتارةً تبتعد، فيكسو الجليدُ سطحَها، وتهرب الحياةُ للأعماق، ويسود الظلام شهورًا

وصارت الكواكبُ الكبيرةُ توجه اللوم لـ”أبو الهول”

لماذا فعلتَ ما فعلت؟

السماءُ كانت مظلةَ الأرض

والأرضُ كانت قَدمْىَ السماء

ماذا تظن نفسك ؟ لابد أن تحلَّ المعضلة

ولم يجد أبو الهول حلا سوى أن يربط السماء بخيط فى يده، أسماه الأفق، حتى تتوقف عن الصعود..

وأن يحمل الأرض على رأسه فى مدارِ الاعتدال بين الشمس ونبتون، حتى تتوقف عن التطوح

ولأن “أبو الهول” لم يتخلص من عادة التجوال بين الكواكب، كانت المياه فى الحفر العميقة للأرض، تنسكب على رأسه فى شلالات كلما اقترب من الشمس، والثلوجُ تغطى رأسه كلما اقترب من نبتون

أبو الهول تعب جدًا من حمل الأرض على رأسه

لأن الأرض كانت جَمْرة ً وثقيلةً للغاية

إلى أن قرّر القفزَ على سطحها ليضعها فى مدارٍ مناسبٍ، دون أن يترك الأفق من يده..

وطاف أبو الهول الأرضَ شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بحثا عن الميزان

حتى وجد ملتقى البحار والأرضين السبعة

وهناك غرس قدميه ليحركَ الأرض حول نفسها

ومن حركتها حول نفسها، انتظمتْ حول الشمس

وعندما استقر أبو الهول فى مكانه، هدأتْ الأرضُ

نهارٌ يعقبه ليلٌ، وليلٌ يتلوه نهار

وصيفٌ يأتى وشتاءٌ يمر

وسكنت المياه الفائرةُ فى الحفر العميقة بالأرض، وصار لونُها أزرقَ

ولم تعد تنسكب على رءوس الكواكب

….

أغربُ ما يمكن أن تراه

أبو الهول باللون الأخضر

أكبرُ آلاف المرات من التمثال على مكتبى

يشع ضوءًا من كامل جسده، وأمامه سلسلةٌ من النجوم البيضاء

يدللها أبو الهول: ها أين توقفنا يا صغيراتى..

الأبدُ؟

الأبدُ يا نجومَ ظهيرتى وحشٌ صامتٌ

الوحيدُ الأقوى منّى،

لكنَّه لحسنِ الحظ مشغولٌ عنّا

مستغرقٌ فى التهام نفسه

وعندما ينتهى،

ولا يبقى منه سوى ذلك الفكِّ الكونىِّ الأسود

سيلتفت إلينا،

ساعتها ستتوقف الموسيقى

ونحن نندفع إليه مسيَّرين، لنسقط فى الظلام

يا لها من لحظة حزينة يا صغيراتى

لكنها آتيةٌ،

آتيةٌ..

مع كثيرٍ من الألم.

**********

**********

“مملكةُ رمسيس الخالدة.. موسى وهارون فى مقبرة القطارات.. وسلمى ذاتُ الجناحين

فى مملكة رمسيس الخالدة، حيث تقضى القطاراتُ القديمةُ حياتها الأبدية، ويحددُ المشردون والكلابُ مناطقَ نفوذهم بالقتال حتى الموت، استدرج موسى الشريرُ هارونَ الطيب إلى العربة الأخيرة فى المخازن، العربةِ التى تسكنها الشياطينُ والأرواح، وعلى مقاعدها المهترئة سالت دماءُ العشرات..

“اختر لنفسكَ طريقةً تموت بها

هل ترى النجوم؟ لن تنظر إليها مرةً أخرى

ولن تلحق الشمسَ المقبلة

الكلابُ التى تسمعنا الآن، وتشمّ رائحةَ دمكَ،

لن تتوصلَ إلى عظامكَ

لا يكفى أن أشعل النار فى جسدكَ

سيتعرفون على رمادكَ ويحملونه إلى القبر

لا يكفى أن أدفن أشلاءكَ

سيصلون إليكَ ويعيدونكَ

لا يكفى أن تزول من هنا، حتى تزول إلى الأبد”

لماذا؟

قالها هارون الذى ابتلع عربون المصالحة، مع أول طعنةٍ بالبطن

حاول الوقوف والقتال،

حاول دفع الأشباح التى تهاجمه وتُفلت

تهاجمه وتضحك

حاول الخروجَ من عربة القطار الملعونة إلى العراء

حاول مناداةَ الكلاب التى تتبعه

حاول جذبَ السلاسل التى تربطه بالنجوم والقمر المبتسم

لكنَّ موسى الشرير أعد المسرح جيدًا

أغلقَ أبوابَ عربةِ الموت بالجنازير

وأبعد المواسيرَ وقِطعَ الحديد والأحجار والبقايا

واحتفظ لنفسه بالسكاكين والسوط ومسدس الخرطوش

“هذه من أجل سلمى، فى الكُلى مباشرة

سأضاجعها الليلة أمام الجميع

سأجعلها تصرخ وتتأوه من اللذة أو من الألم

أريدك أن ترى ساقيها المرفوعتين إلى السماء

حتى الصباح..

أتسمع، حتى الصباح

وسدد الطعنة الخامسة والعاشرة والعشرين

ثم تركه لينزف وأشعل “جُوانا”ً

……

سلمى التى تسللت وراءهما

سلمى التى توسلت إلى هارون حتى لا يذهبَ للمصالحة

سلمى التى حذرته من غدر موسى ونصحته أن يحمل سلاحًا

كانت تئن،

كانت تكزّ على أسنانها وهى تسمع وترى

سمعتْ ضَرْبَ الساطور على الرقبة

دُم دُم

سمعتْ ضَرْبَ الساطور على الزراعين

دُم دُم.. دُم دُم

سمعتْ ضرب الساطور على الساقين

دُم دُم.. دُم دُم

سمعتْ صوتَ العظام تتحطم

سمعتْ الرغباتِ السوداء لموسى

سمعتْ نزيزَ الدماء تقطر من حافة العربة إلى الأرض

سمعتْ الكلابَ تعوى، والسكاكين تشق البدن الغالىَ

سمعتْ الليلَ يسكن، وأصوات السيارات غير العابئة

ورأتْ موسى الشرير يلقى اليدين والقدمين والرأس والأشلاء فى الاتجاهات الأربعة،

ويعدو تحت القمر المبتسم قاصدًا عربتها

سلمى، جفّتْ عيناها واحترق قلبُها

تحولتْ إلى كلب صيد

تحولتْ إلى حيةٍ سوداء

تحولت إلى صقرٍ وبومةٍ ونسر

تحولتْ إلى دواماتٍ من التراب

تحولتْ إلى نجمةٍ لامعة تضيء الأرض والليل

تحولتْ إلى شجرةِ يقطين

ونادت على أشلاء هارون الملقاة فى الاتجاهات الأربعة

يا يدَه اليمنى تعالَىْ إلى حِضنى

يا يدَه اليسرى تعالَىْ إلى حِضنى

يا ساقَه اليمنى تعالَىْ إلى حِضنى

يا ساقَه اليسرى تعالَىْ إلى حِضْنى

يا عيناه تعاليا إلى حضنى ومعكما الرؤية

يا فمَ العاشق تعالَ إلى حضنى ومعك الكلام

يا أنفَ الغالى تعالَ إلى حضنى ومعك المكان

يا قلبَ الفارس تعالَ إلى حضنى ومعك الشجاعة

وكلما عاد ِشلوٌ من جسد هارون، ابتلعته سلمى ذاتُ الجناحين

ابتلعتِ اليدَ الحنونَ القويةَ.. كُونى بسلام”

ابتلعتِ الأذنين.. كونا بسلام

ابتلعتِ الرأس.. كُنْ بسلام

ابتلعتِ البطن والصدر.. كونا بسلام

ابتلعتِ الساقين.. كونا بسلام

ابتلعتِ القلب النابض.. كُنْ بسلام

ابتلعتْ الزمنَ قبل موسى الشرير.. كُنْ بسلام

ابتلعتْ الترابَ الذى ارتوى بدماء هارون.. كُنْ بسلام

ابتلعتْ الأحلامَ والحكايات والمواعيد والأسئلة والأغنيات.. كونى بسلام

وعندما اكتملَ سعىُ سلمى بين الاتجاهات الأربعة

استندتْ إلى النخلة الذابلة على الرصيف

وولدتْ هارونَ الطيّبَ من جديد

كاملًا غير مجروح

صامتًا، لكن يعرف الماضى

مبتسمًا، مثل سجين ينظر إلى البحر

أطعَمَتْهُ الحكاية مع الثدى

ولقَّنَتْهُ الوصايا مع الهدهدات..

كان ليلٌ ظالمٌ وكان القمرُ شاهدًا

هل ترى؟

موسى الشريرُ يكذب

موسى يخدع أباك

هل ترى؟

موسى الشريرُ غدّار

موسى الشرير لا يقاتل كالرجال

هل ترى؟

موسى الشرير سقى أباك السُمَّ

موسى الشريرُ طعن أباك المقَّيد

هل ترى؟

كان الهواء ساكنًا

والميزانُ مائلًا

كان الصمتُ مؤامرة

والكلماتُ بلا معنى

والخوفُ فى القلوب

والعيونُ تنظر من الشقوق

دم أبيك يغلى

وجراحُه غائرة

هل ترى؟

……

ليكنْ قلبُكَ من الصخر

ويدُكَ من الحديد

هووه هووه

لتكنْ ضربتُك قاصمةً

وإرادتُك قاهرة

هووه هووه

ليكنْ حذرُك كبيرًا

وانتقامُك أكبر

هووه هووه

لتكنْ صائمًا عن الكلام

وأفعالُك تتكلم

هووه هووه

لتَكْبُرْ شِبرًا شبرًا

فوق ألعابِ العيال

هووه هووه

الأحجارُ تتحطم تحت قدمك

ويدُكَ تصيب البعيدَ بالشلل

هووه هووه

قاتلُ أبيك لايراك قبل الموت

لا تضعْ لسانَك على لسانِه أبدًا

إييه إييه

راقبْ عدوَّكَ فى معاركه

وراقِبْهُ فى أفراحه

إييه إييه

راقِبْهُ فى صحوه

راقبْهُ عندما يَسْكر

إييه إييه

اعرفْهُ حين يكذبُ ليُفلِتَ

وحين يبدو ضعيفًا ليلدغ

إييه إييه

لا تعلنْ عن نفسكَ إلا بالطعنة

وانظرْ فى عينيه عندما تشلُّ حركته

إييه إييه

قبل أن تقطع رقبته

اسْقِهِ الذهولَ مع الرعب

قُلْ له: أنا ابنُ سلمى

جناحُها لم ينكسر

من أجل هارون

العائدُ مازال حيًا

إيييه إيييه

دعْه يتمرغْ فى التراب

ويظنُّ بابَ الهروب مفتوحًا

إييه إييه

لا تقطع رأسَه إلا وسط الحشود

وانتظر حتى أشق الصفوف إليك

إييه إييه

سأرتدى جلبابَ هارون

سأتعطر وأزغرد وأرقص

وحين أضع قدمىَ على وجه النذل،

التقطْ الصورة.

**********

**********

 

 

اقرأ أيضاً: 

 

مقالات من نفس القسم

nourhan abu ouf
يتبعهم الغاوون
نورهان أبو عوف

صور